أبواب القلب (4)

أمير بن محمد المدري

2025-04-27 - 1446/10/29
عناصر الخطبة
1/وجوب الحرص على سلامة القلب 2/علاقة اليد بالقلب 3/اليد عاملة في الخير والشر 4/اثنتا عشرة يدًا عليا مباركة صالحة 5/عشر أيادٍ في السافلين 6/الأيدي الآثمة الخاطئة.

اقتباس

يدك عاملةٌ عاملة، لكن من العمل ما ينفع صاحبه، ومنه ما يقتل صاحبه، ويديك هي بداية كل أعمالك ومفتاح كل جوارحك وأعضائك، فهي التي تطعمك رزقك حلالاً كان أو حرامًا، وهي التي تكسوك ثيابك حلالاً كانت أو حرامًا، وهي التي تلبسك حذاءك لتقصد وجهتك، لذا فهي شريكك في أعمال الخير والشر..

الخطبةُ الأولَى:

 

الحمد لله الرؤوف الرحيم، البر الجواد الكريم، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك العظيم، له الأسماء الحسنى، والصفات العليا، والإحسان العميم، وله الرحمة الواسعة، والحكمة الشاملة، وهو العليم الحكيم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الذي قال الله فيه: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[القلم: 4]؛ اللهم صلّ وسلّم وبارك على محمد وعلى آله وأصحابه، الذين هُدُوا إلى الحق وإلى طريق مستقيم.

 

أمّا بعد: أيّها الناس، اتَّقوا الله -تعالى- حقَّ التقوى، والزَموا التَّقوى حتى يأتيكم الموت؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].

 

عباد الله: ما زلنا نتحدث معكم عن القلوب وأبوابها، والقلوب صدأها من أمرين الغفلة والذنوب، وجلاؤها شيئين الاستغفار وذكر علاّم الغيوب.

 

وصدق الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "إن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد إذا أصابه الماء". قيل: يا رسول الله وما جلاؤها؟ قال: "كثرة ذكر الموت وتلاوة القرآن"(رواه البيهقي في شعب الإيمان وضعفه الألباني).

 

قال أحد الصالحين: "مثَلُ القلب مثَلُ بيتٍ له ستة أبواب، ثم قيل لك: احذر أن يدخل عليك من أحد الأبواب شيء، فيفسد عليك البيت، فالقلب هو البيت، والأبواب: اللسان، والبصر، والسمع، والشم، واليدان، والرجلان، فمتى انفتح باب من هذه الأبواب بغير علم ضاع البيت".

 

وقفنا مع الباب الأول وهو اللسان، ثم الباب الثاني وهو السمع، ثم الباب الثالث القدمان.

 أما الباب الرابع: من أبواب القلب فهي اليدان.

 

أخي الحبيب: تستطيع أن تصنع بيدك مفتاح الجنة أو القفل الموضوع على أبوابها ليحول بينك وبين دخولها، وتستطيع أن تنسج بيديك ثوبك الحريري من سُندس وإستبرق في الجنة أو ثياب شقوتك من النار، يدك عاملةٌ عاملة، لكن من العمل ما ينفع صاحبه، ومنه ما يقتل صاحبه، ويديك هي بداية كل أعمالك ومفتاح كل جوارحك وأعضائك، فهي التي تطعمك رزقك حلالاً كان أو حرامًا، وهي التي تكسوك ثيابك حلالاً كانت أو حرامًا، وهي التي تلبسك حذاءك لتقصد به وجهتك ومرادك حلالاً كان أو حرامًا، لذا فهي شريكك في أعمال الخير والشر.

 

وهناك اثنتا عشرة يدٍ عليا مباركة صالحة:

نعم إنها أيدٍ تعمل الصالحات، أيدٍ مشغولة دومًا في حرث الخير، أيدٍ تعرف طريق الجنة جيدًا، وتشهد لك يوم العرض، وتنبري تُنافح عنك يوم الحساب.

 

اليد الأولى: هي التي تغرس، نعم تغرس الخير للناس: قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما من مسلم يغرس غرسًا إلا كان ما أُكل منه له صدقة، وما سُرِق منه صدقة، وما أكل السبع فهو له صدقة، وما أكلت الطيور فهو له صدقة، ولا يرزؤه أحد كان له صدقة"(رواه البخاري 2320).

 

اليد الثانية: يد المرأة؛ نعم، لِمَ لا تحاول كل زوجة دخول الجنة عن طريق يدها، وهو أمر يسير سهل، فما عليها إلا أن تعمل بهذا الوصية: "نساؤكم من أهل الجنة الودود الولود التي إذا غضبت جاءت حتى تضع يدها في زوجها ثم تقول: لا أذوق غمضًا حتى ترضى"(صحيح الجامع: 2604).

 

اليد الثالثة: هي يد الزوج الذي يحاول أن يربح زوجته عن طريق يده، فيناولها اللقمة ويضعها في فمها برقة متناهية قال -صلى الله عليه وسلم-: "وإنك لن تنفق نفقة إلا أُجرت بها حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك"(البخاري: 6373).

 

اليد الرابعة: هي اليد التي ترحم وتعطف وتحنو وترِق على المسكين؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن أردت أن يلين قلبك فأطعم المسكين، وامسح رأس اليتيم"(حسَّنه الألباني في صحيح الترغيب: 2744).

 

اليد المباركة الخامسة: هي التي تعمل في سبيل الرزق، وتتعب حتى تُحصِّل أطيب الكسب وألذ الطعام يدفعه إلى ذلك شهادة محمد -صلى الله عليه وسلم-، حين قال -صلى الله عليه وسلم-: "أطيب الكسب عمل الرجل بيده"(صححه الألباني في صحيح الجامع 1033)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "خير الكسب كسب يد العامل إذا نصح"(مسند أحمد 2/334).

 

اليد السادسة: هي التي تكتب كتاب خير، فمن كتب كتاب خير نال أجره وأجر من قرأه في حياته وبعد مماته، ولذا قيل: "كتاب المرء ولده المخلَّد"، وتأمل مؤلفات علمائنا، وكيف كابدوا المشاق في كتابتها التماسًا لثوابها، وأنهكوا أيديهم كتابة وأرهقوها حتى وصلنا هذا الخير؛ حتى قال أبو المظفر سبط ابن الجوزي: "سمعتُ جدي يقول على المنبر في آخر عمره: كتبت بإصبعيَّ هاتين ألفي مجلَّد"، وقال يحيى بن معين: "كتبتُ بيدي ألف ألف حديث".

 

وصدق من قال منشدًا:

وما من كاتبٍ إلا سيبلى ‍*** ويُبقي الدهر ما كتبت يداه

فلا تكتب يداك كتاب شرٍّ ‍ *** يسوؤك في القيامة أن تراه

 

واليد السابعة: هي التي تتصدق ولتكن اليمين، ويتضاعف أجرها إذا قامت اليد بمهمة التخفي! نعم التخفي عن أعين الناس طلبًا لرضا رب الناس، بل والمبالغة في ذلك حتى لا تكاد الشمال تعلم كم أنفقت أختها، وفي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله"؛ ذكر منهم: "وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ"(رواه البخاري 660).

 

أما اليد الثامنة: فهي يدٌ ترفع راية الجهاد في سبيل الله، وتذكَّر كيف ضحَّت ذراع جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- حين حمل الراية بيمينه، فقُطِعت، فقامت شماله بالمهمة، فقُطِعت، فتناول الراية بعضديه، فكافأه الله بما جاء في النشرة الإخبارية النبوية التي أُذيعت على جمهور الصحابة على الهواء مباشرة وفي التو واللحظة: "إن الله قد جعل لجعفر جناحين مضرجين بالدم يطير بهما مع الملائكة"(المعجم الكبير للطبراني، 19/167 رقم 378).

 

أما اليد التاسعة: فهي اليد التي ترمي في سبيل الله، فلعلها إن فَعَلت دخل صاحبها في دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قال لسعد -رضي الله عنه-: "ارم فداك أبي وأمي"، وليس الرمي رمي السهام فحسب، وإنما كل ما يُحْدِث أثر السهام في قلوب الأعداء وينصر الأمة في أيّ ميدان، ولعل إتقان العمل وجودة الصناعة والتفاني في مختبرات العلم لا يقل أجرًا اليوم عن رمية سهم في نحور العدو.

 

واليد العاشرة: هي يد التي تُميط الأذى عن طريق المسلمين، فتكون أخًا لرجل رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- الجنة، فقال مبيِّنًا عمله وموضِّحا جزاءه وجزاء كل من عمل بعمله من بعده؛ فقال: "لقد رأيتُ رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس"(أخرجه مسلم: 1914).

 

اليد الحادية عشرة: اليد التي تصافح المؤمنين لتتناثر الذنوب مع المصافحة، وتتصافح القلوب وتتعانق مع تصافح الأيدي وتشابكها؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن المؤمن إذا لقي المؤمن فسلَّم عليه وأخذ بيده فصافحه؛ تناثرت خطاياهما كما يتناثر ورق الشجر"(رواه الطبراني في الأوسط وهو في السلسلة الصحيحة للألباني: 5/10).

 

اليد الثانية عشرة: يد تبايع رسول الله وتَمُدُّ يدها في صدق ووفاء مستشعرة أنها تبايع الله وتعقد معه -سبحانه- المواثيق: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)[الفتح: 10]، وإن فاتنا شرف لمس كفّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إلا أن هذه البيعة باقية وتبعاتها نافذة، وإن كانت بيعة الرضوان بيعة على الموت في سبيل الله، فإن بيعتنا اليوم هي بيعة على الحياة في سبيل الله، ولعلها الأصعب والأشق.

 

عباد الله: بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين فاستغفروه انه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

وهناك عباد الله عشر أيادٍ في السافلين:

أيدٍ سُفلى عابثة في المعاصي، يدٌ مشغولة في حرث الشر، يد تائهة عن طريق الجنة، ولابد للمرء أن يجني ما زرعت يداه.

 

وأول هذه الأيادي: مَن استخدم يديه في التخلص من حياته أذاقه الله من نفس الكأس، وأعاد معه جريمته وبنفس الطريقة ما لا يُحصى من المرات، لكن في الآخرة وطوال مدة مُكثه في النار؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "الذي يخنق نفسه؛ يخنقها في النار، والذي يطعنها؛ يطعنها في النار"(أخرجه البخاري 1369).

 

ثانيًا: الذي يخطُّ بيده حرفًا في عَقد ربًا؛ يغضب عليه ربه ويطرده من رحمته ولو كان مجرد شاهد أو كاتب؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "لعن الله آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه"(أخرجه مسلم: 1598).

 

ثالثًا: الذي يُشْهِر بيده السلاح في وجه أخيه؛ سواء أصابه أم لم يصبه، ملعون حتى يخفض سلاحه؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه، وإن كان أخاه لأبيه وأمه"(أخرجه مسلم: 2616).

 

رابعًا: الذي يقدِّم بيده مالاً لرشوة، والذي يقبل هذه الرشوة كلاهما تظل تطاردهما لعنة الله حتى يتوبا إلى الله ويُقلعا، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لعن الله على الراشي والمرتشي"(أخرجه أبو داود 3580، وصححه الحاكم 4/102، ووافقه الذهبي).

 

وأما الخمر، فإن تسعة أيادٍ ملعونة بسببها؛ لأنها شاركت من قريب أو من بعيد في هذه الجريمة؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الخمر عشرة: عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها، وبائعها، وآكل ثمنها، والمشتري لها، والمشتراة له" (أخرجه الترمذي 1295، وصححه الألباني في غاية المرام 60).

 

وأما المرأة فإن أغراها الشيطان، ونفخ فيها من سحره، فمدَّت يدها لتتزين بما حرَّم الله، فقد طردت نفسها بنفسها من رحمة ربها؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحُسن قال المغيِّرات خلق الله"(رواه البخاري وأبو داود).

 

ولو أن كاتبًا كتب بيده كتابًا يثير فيه شهوة ويشعل فيه غريزة، أو يبث شبهة ويزلزل عقيدة، فستظل صحيفة سيئاته تتلقى يوميًّا، وعلى مدار الساعة، أكوامًا من السيئات كلما قرأ كتابه قارئ أو وقع في شِراكه غافل، ولا سيما إن كسب هذا الكاتب عليه مالاً: (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ)[البقرة: 79].

 

إن الكلمة المكتوبة قد تفعل في القلب ما لا يفعله السيف، ولذا قال حبيب بن أوس الطائي:

ولضربةٍ من كاتبٍ ببنانه ‍ *** أمضى وأقطع من رقيق حسام

قوم إذا عزموا عداوة حاسدٍ ‍ *** سفكوا الدما بأسّنة الأقلام

 

ومن الأيادي الخبيثة: زُناة الأيادي.. اسمعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول "العينان تزنيان، واليدان تزنيان، والرجلان تزنيان، والفرج يزني"(صححه الألباني في صحيح الجامع 4150).

 

هذا وصلوا -عباد الله- على رسول الهدى؛ فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].

 

اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين.

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life