عناصر الخطبة
1/ معنى اليمين. 2/ مكر إبليس بالأيمان. 3/ من الأيمان المنهي عنها. 4/ أقسام الأيمان. 5/ أحوال الحالف والمقترن بالصدق والجهلاقتباس
وكم نسمع في الأسواق من الأيمان الكاذبة، وهي اليمين الغموس، وهي أخطر أنواع القسم؛ لأنها تغمس صاحبها في النار، والتي تمحق البركة في كل سلعة بيعت بما يفوق ثمنها بعد اليمين...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ الذي أمر عباده بحفظِ أيمانهم، وتوعدَ بالعقاب من لا يحفظون عهودهم؛ ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد:
أيها المسلمون والمسلمات: قد يلجأ الكثير من الناس لتأكيد صدقهم وتوثيق عهودهم وللحفاظ على حقوقهم إلى الحلف أو القسم أو اليمين؛ فهل يجوز أداء القسم في كل الشؤون وكل النوازل والأمور؟ وما هي صيغ الأيمان المشروعة؟ وهل يجوز القسم بغير الله -تعالى-؟ اسمعوا وأنصتوا -يرحمكم الله-؛ لقد جاءت شريعة الإسلام بأحكام تتعلق بهذا الباب، ولا يحسن بالمسلم أن يجهلها.
الحلف أو اليمين هو تأكيد الأمر بذكر مقصود ليحمل السامع على التصديق، ويسمى كذلك: القسم. وشأنه عند الله عظيم، والتساهل في أمره خطير؛ لأنها ليست مجرد أقوال أو كلام يقال باللسان دون تبعات، وإنما هو عهد وميثاق؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: “مَن حلف بالله فليصدق، ومَن حُلِفَ له بالله فليرضَ، ومَن لم يرضَ بالله فليس من الله”.
ويقول الله -سبحانه-: (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [المائدة: 89].
ولهذا لا ينبغي للمؤمن أن يتسرع في اللجوء للقسم إلا عند الحاجة؛ لأن كثرة الحلف تدل على الاستخفاف بالمحلوف به وعدم تعظيمه، ولأن الإكثار من الحلف مهين للحالف؛ يقول -تعالى-: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ). وقد تجد من يحلف على الكذب وهو يعلم إما نفاقًا أو حرصًا على مكسب دنيوي أو لتحقيق ربح تجاري أو لإخفاء عيب ما؛ والله -تعالى- ينهى عن ذلك بقوله: (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [المجادلة: 14]، وقوله -سبحانه-: (اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ) [المجادلة: 16]؛ فمن هذا حاله فهو مخدوع؛ لأنه جعل يمينه وقاية تمنعه مما يكره وقوعه.
ويذكرنا كتاب الله -تعالى- بأن إبليس اللعين سبق الإنسان لهذا الخداع وحلف لآدم وزوجه في الجنة؛ كما جاء في قوله -عز وجل-: (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ. وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ. فَدَلَّهُمَا بِغُرُورٍ) [الأعراف: 20–22].
وهل يصدر النصح من العدو؟! فكيف بك -أيها المستخفُّ- بالأيمان، فتحلف للناس بالكذب وأنت تعلم؟
وكم نسمع في الأسواق من الأيمان الكاذبة، وهي اليمين الغموس، وهي أخطر أنواع القسم؛ لأنها تغمس صاحبها في النار، والتي تمحق البركة في كل سلعة بيعت بما يفوق ثمنها بعد اليمين الكاذبة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “ثلاثةٌ لا يُكلِّمُهم اللهُ ولا ينظرُ إليهم يوم القيامةِ، ولا يُزَكِّيهم، ولهم عذابٌ أليمٌ” قِيل: من هم يا رسولَ اللهِ؟ فأعادها ثلاثًا، قال: “المسبلُ، والمَنَّانُ، والمُنَفِّقُ سِلعتَه بالحلفِ الكاذبِ أو الفاجِرِ”.
ومن الأيمان المنهي عنها: أن يحلف المرءُ على امتناع عن فعل الخير؛ كأن يحلف على قطع رحم، أو منع إحسان أو صدقة، قال الله -تعالى-: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [النور: 22].
فعلى المسلم ألا يحلف ليمتنع عن عمل صالح وعن فعل الخيرات، وإذا صدر منه ذلك فشرع له أن ينقض يمينه ويكفّر عن تلك اليمين. وإرشاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك قوله: “إني والله، إن شاءَ الله، لا أحلفُ على يمينٍ فأرى خيرًا منها إلا كفرت عن يميني، وأتيت الذي هو خير”.
وكفارة اليمين كما بيّن الله -تعالى-: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [المائدة: 89].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبكلام سيد الأنبياء والمرسلين، وغفر الله لي ولكم ولمن قال آمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين...
أما بعد:
عباد الله: من خلال معاشرة الناس ومعايشة أحوالهم وسماع أيمانهم نجد أن المحلوف أو المقسم به أنواع ثلاثة:
الأول: من يقسم بالله أو بصفةٍ من صفاته فيقول: “أقسم بالله العظيم” أو “وبعزّة الله”؛ وهذا أمرٌ مشروع لقوله -صلى الله عليه وسلم-: “مَن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمُتْ”.
الثاني: من يحلف بالمخلوقات؛ كمن يحلف بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، أو بإنسان يقدّسه، أو بالطعام أو بالملح أو بمكانٍ معين... فهذه يمين غير جائزة. وقد جاء في المروي: جاء رجلٌ إلى عبد الله بن عمرٍ آنفًا فقال: "أحلف بالكعبة" فقال: "احلف بربِّ الكعبة"؛ فإن عمرًا كان يحلف بأبيه فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: “لا تحلف بأبيك؛ فإنه من حلف بغيرِ الله فقد أشرك”.
الثالث: ما كان بمعنى القسم وليس بقسم؛ كمن يقول: “عليّ بالطلاق أن أفعل أو لا أفعل كذا وكذا...”؛ وهذا النوع لا يجوز ويأثم فاعله.
ومن حلف على أمر ثم تبيّن له خطأه فلا يحنث ولا يأثم؛ كمن سئل: "هل عندك كتاب في الحديث؟" فقال: "والله ما عندي"؛ ثم تبيّن أن لديه في البيت كتاب حديث؛ فليس عليه شيء لأنه حلف على غالب ظنه.
ومن حلف بأيمان كثيرة على فعل شيء واحد ولم يفعل فكفارةٌ واحدة تجِزيه، أما إذا تعددت الأيمان والأشياء فالواجب التكفير عنها جميعًا.
فاتقوا الله -عباد الله- في أنفسكم وأهليكم، وأيمانكم وعهودكم؛ واحفظوها ما استطعتم. واعلموا بأن الإنسان لم يخلق عبثًا، وأنه سيرجع لا محالة إلى الله ويسأل عمّا قدم وأخر.
(إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) [الإسراء: 36].
التعليقات