عناصر الخطبة
1/الأمل والرجاء في الله تعالى 2/أمثلة من التاريخ على حصول الفرج بعد الكرب الشديد 3/عظات وعبر من هلاك الظالمين البائدين 4/من فوائد الأزمات تمييز الطيب وكشف الخبيث 5/بعد اشتداد الأزمة يأتي الفرجاقتباس
لقد كان أولُ مولودٍ في الإسلام في دار الهجرة، عبدَ اللهِ بنَ الزبيرِ -رضي الله عنه-، فقد وُلِدَ مِنْ رَحِمِ المعاناةِ؛ فأُمُّه الرَّضِيَّةُ أسماءُ التي تحمَّلتِ البلاءَ، والعناءَ، وحَرَّ الصحراءِ، في حدَث الهجرة النبويَّة، أنجبَتْ لنا عملاقًا من عمالقة الإسلام...
الخطبة الأولى:
الحمد لله؛ (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا)[النِّسَاءِ: 84].
الحمد لله؛ (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا)[الطَّلَاقِ: 1].
اشتدي أزمة تنفرجي *** قد قارب ليلك بالفرج
الشدة أودت بالمهج *** يا رب فعجل بالفرج
والأنفس أضحت في حرج *** وبيدك تفريج الحرج
هاجت لدعاك خواطرنا *** والويل لها إن لم تَهِجِ
مَنْ للملهوف سواك يُغيث؟! من للنازحين؟! من للمقهورين؟! من للمستضعَفين؟! سواك يغيث؟! أو للصغار سواك نجي.
يا سيدنا، يا خالقنا: *** قد ضاق الحبل على الودج
والأزمة زادت شدتها، *** يا أزمةُ عَلَّكِ تنفرجي
جئناك بقلب منكسر *** لَكِنْ برجائك ممتزج
يا رب عبيدك قد وفدوا *** يدعوك بقلب منزعج
يا رب ضِعاف ليس لهم أحد سواك يرجون لطلب الفرج
فَرِّجْ عَنَّا كربَنا يا الله.
وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ، قدم من شاء بفضله، وأخر من شاء بعدله، لا يعترض عليه ذو عقل بعقله، ولا يسأله مخلوق عن عِلَّة فعله، هو الكريم الوهاب، هازم الأحزاب، ومنشئ السحاب، ومنزل الكتاب، ومسبب الأسباب، وخالق الناس من تراب، من اهتدى به ما ضل، ومن اتقاه ما زل، ومن اعتز به ما ذل، ومن طلب غناه ما قل.
وأشهد أنَّ سيدَنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، صلى الله عليه، الذي ما ضل وما زل وما ذل، وما مل وما غل وما كل، فما ضل؛ لأن الحكمة ترعاه، والله أيده وهداه، وما زل؛ لأن الله غاديه، وجبريل يكلمه ويناديه، وما ذل؛ لأن العز رديفه، والنصر حليفه، وما غل؛ لأنَّه صاحب أمانة وصيانة وديانة، وما مل ولا كل؛ لأن له همة كريمة.
سيدي أبا القاسم، يا رسول الله:
أنت الذي من نورك البدر اكتسى *** والشمس مشرقة بنور بهاكَ
أنتَ الذي ناداكَ ربُّكَ مرحبًا *** ولقد دعاكَ لقُربِهِ وهداكَ
اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
(حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)[يُوسُفَ: 110]، فاشتدي أزمة تنفرجي، فحين اشتد العطش بهاجر -عليها السلام- وكادت أن تموت وطفلها إسماعيل بن إبراهيم -عليه السلام- طهر الله مقامه، وكادت أن تموت وطفلها إسماعيل ولا حول لها ولا قوة تمشي مرة وتهرول مرة، ورب العالمين مطلع عليهما وعلى بلائهما، و-سبحانه- يعلم أن هذا الطفل الصغير الجائع سيكون أمة، سيكون منه خلق موحدون، نعم، فالله يعلم أن هذا الطفل الذي كاد العطش يقتله سيكون منه خاتم النبوات، ستخرج منه حضارة تملأ الأرض عدلًا ونورًا إلى قيام الساعة، ولكن خزائن التأييد بيده -سبحانه-، وما هي إلا لحظة من لحاظه، وإذا بزمزم الخير تجود بمائها؛ (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ)[الْحِجْرِ: 21]، فاشتدِّي أزمةُ تَنفَرِجِي.
ألَا إن تلك الأرحام التي قهرت ونزحت ستملأ الأرض أبناء مخلصين ثابتين -بإذن الله-، وتملأ الأرض نورًا وعدلًا لتنكس أعلام المنهزمين، وتكشف ستر المتآمرين الخائنين، وما ذلك على الله بعزيز.
لقد كان أولُ مولودٍ في الإسلام في دار الهجرة، عبدَ اللهِ بنَ الزبيرِ -رضي الله عنه-، فقد وُلِدَ مِنْ رَحِمِ المعاناةِ؛ فأُمُّه الرَّضِيَّةُ أسماءُ التي تحمَّلتِ البلاءَ، والعناءَ، وحَرَّ الصحراءِ، في حدَث الهجرة النبويَّة، أنجبَتْ لنا عملاقًا من عمالقة الإسلام، ولا تزال الشدةُ والمعاناةُ تَلحَق أهلَنا في فلسطين، والتي خرج ويخرج من أرحامها طائفة من أمتي ظاهرين، على الحق ظاهرين ثابتين، لا يضرهم من خذلهم وفارقهم حتى يأتي أمر الله.
يا أهل أرض الإسراء والمعراج، أيها الثابتون: إن لكم في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوةً حسنةً، عن أنس -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أُوذِيتُ في اللهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَمَا لِي وَلَا لِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَيْءٌ يُوَارِيهِ إِبِطُ بِلَالٍ"، فاشتدِّي أزمةُ تَنفَرِجِي، ولعلكم بذلك يا أهل فلسطين قد نلتم شرفًا بأن حزتم منزلة بأن يقول لكم الرسول الكريم: "أنا منكم وأنتم مني"، فقد قالها -صلى الله عليه وسلم- لقوم أبي موسى الأشعري الوافد من اليمن، فحينما تصيبهم ضائقة في الطعام والشراب، ويقل طعام عيالهم جعلوا طعامهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم بالسوية؛ لذلك ارفعوا رؤوسكم عزًّا وفخرا لهذه المكرمة النبويَّة.
ألَا فاشتدِّي أزمةُ تَنفَرِجِي.
إن للأمم والحضارات آجالًا كآجالكم، فكِسْرَى وقيصر عُمِّرُوا في الأرض ثم انتهت آجالهم، وهلكوا، وجعل الله حدثهم على يد الثلة الصابرة القليلة من الصحابة الكرام، خلال برهة قليلة من الزمن، وكل طاغية وظالم له أجل حتمًا سيسقطه، ويزول إلى مزابل التاريخ؛ (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ * مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ)[الْحِجْرِ: 4-5].
ألَا وإنَّ دعوةَ المظلومينَ المقهورينَ المحاصَرينَ تُحمَل على الغمام، يقول الله لها: "وعزتي وجلالي لأنصرنَّكِ ولو بعدَ حِينٍ"، (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)[الشُّعَرَاءِ: 227]، فاشتدِّي أزمةُ تَنفَرِجِي.
وتزداد الشدةُ وتتفاقم عندما يستخف الطغاة بالعقول، يسهل للناس الشهوات والمعاصي، والمال؛ (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ)[الزُّخْرُفِ: 54]، ويعمد الطغاة على إفقار وتجويع الشعوب حتى ينشغلوا بالبحث عن قوت يومهم، ولا يلتفتوا إلى ظلمه وجبروته، يا أزمة علك تنفرجي.
وأما تلك الفئة الجاهلة، التي ينحصر شغلها بإثارة الإشاعة والأخبار الكاذبة، التي تضعف العزيمة، أولئك المرجفون، ما زادوكم إلا خبالا، أولئك المتربصون، ما زادوكم إلا تفرقة، أولئك الخائنون، ما زادوكم إلا ظنًّا، إذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به؛ (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)[النِّسَاءِ: 138]، ألا فاشتدِّي أزمةُ تَنفَرِجِي.
ألَا وإنَّ الشدائد تُفرِز الرجالَ؛ ففي الأزمات يظهر المخلصون أهل المشاعر؛ هذا عبد الرحمن بن عوف يبكي -رضي الله عنه-، عندما وضع أمامه طعام طيب، فقيل له: "وما يبكيك؟!"، فقال: "لأنني تذكرت أصحاب رسول الله الذين خرجوا من الدنيا ولم يروا هذا النعيم، لقد كان مصعب بن عمير خيرًا منا، وبذل للإسلام وما رأى مثل هذا النعيم".
لِلَّهِ درُّكم يا أهل فلسطين، فنعم الصبر صبركم، ونعم الإباء إباؤكم، ونعم العزة عزتكم، فكلُّ حُرٍّ وإن طالت بلِيَّتُه، يومًا ستُفرَج غمتُه وتنكشف؛ (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ في جَهَنَّمَ)[الْأَنْفَالِ: 37]، ألَا فاشتدِّي أزمةُ تَنفَرِجِي.
لقد اشتد الخناق على النبي الكريم يوم حنين، وحوصر من هوازن وثقيف، كما كادت الأرواح أن تزهق، وبلغت الأزمة شدتها، أدبر من أدبر، وترك الرسول وحده مع ثلة قليلة صابرة من المؤمنين، فقال بصوته الثابت: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب"، وألقى التراب على وجه العدو قائلًا: "شاهت الوجوه"، قائلًا: "نَصرَكَ الذي وعدتَ"، وبلغت الأزمة شدتها، فأنزل الله سكينته عليه وعلى المؤمنين، وأنزل جنودا لم تروها، وعذب الذين كفروا، وذلك جزاء الكافرين.
ألَا يا أزمةُ عَلَّكِ تَنفَرِجِي.
وذاك أبو عبيدة عامر بن الجراح -رضي الله عنه- حين فتح بلاد الشام، جعل الله الفتنة تبتعد عن الشام وأهلها، حين فتح بلاد الشام تمهيدًا لبيت المقدس، واجهته جموع الجيوش من الروم بأعداد كبيرة، ووقع بأزمة شديدة، فكتب إلى الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فرد عليه قائلًا: "أمَّا بعدُ، فإنَّه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزل شدة يجعل الله بعده فرجًا، وأنَّه لن يغلب عسر يسرين، والله يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 200]"، قال -عليه الصلاة والسلام-: "لا يزال البلاء بالمؤمن في نفسه وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة".
وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله أنتَ وليُّ المؤمنينَ، ونصيرُ المتقينَ، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له الكبرياء والجبروت، تم كمالُه، وتقدَّس جلالُه، وأشهد أنَّ سيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه، المقرب الحبيب، خلقه نعمة، ومبعثه رحمة، وشمس سُنَّتِه لا تغيب، فاللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ على سيدنا محمد، صلاةً تنحلُّ بها العُقَدُ، وتُفرَّج بها الكروبُ، وتُقضى بها الحوائجُ، وتُنال بها الرغائبُ، وحُسْن الخواتيم.
يقول الله -تبارك وتعالى-: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[النُّورِ: 55]، اعلموا -عباد الله- أن الشدة إذا بلغت ذروتها فهي إيذان من الله بالفرج، وشعاع نور يحرك الأمل، وينبئ بالاستبشار، ويبعث على التفاؤل، فلا يأس ولا إحباط، بل علينا أن نحسن الظن بالله؛ (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ)[النِّسَاءِ: 104]، فلا ضجرَ، ولا قنوتَ، بل ثباتٌ وإصرارٌ، فلا تشاؤمَ ولا حزنَ، بل رجاءٌ وتسليمٌ.
اللهمَّ اكشف عَنَّا كلَّ شدة وبلية، وفرج عَنَّا كل بلاء، فالشدة أودت بالمهج، يا رب وعجل بالفرج؛ (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا)[الطَّلَاقِ: 7].
اللهمَّ أنت المأمول، وأنت المرتجى، وبيدك العِوَض عمَّا مضى، فافعل ما أنت أهله، فإن آمالنا منصرفة إليك، يا الله.
اللهمَّ اجعل نقمتك على الظالمين، واجعل كيد الظالمين على أهلنا بردًا وسلامًا، كما جعلت النار بردًا وسلامًا على إبراهيم.
يا فرجنا، يا رجاءنا إذا انقطعت الأسباب، اللهمَّ وفق طلاب الثانويَّة للخير والرشاد، واجعل جهدهم مكللا بالنجاح يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ احقن دماء المسلمين في فلسطين، اللهمَّ ارفع الحصار عن أهلنا المحاصرين، اللهمَّ أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف، اللهمَّ آو مشرديهم، اللهمَّ ارفع عنهم الحرب وأوزارها، اللهمَّ شافِ مرضاهم، وارحَمْ مَنِ اصطفيتَه منهم، اللهمَّ اجعل للأسرى وللمسجد الأقصى فرجًا عاجلًا قريبًا يا ربَّ العالمينَ.
اللهمَّ اجز عَنَّا سيدنا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- خير الجزاء، اللهمَّ اجز عَنَّا علماءنا ومشايخنا ووالدينا خير الجزاء، اللهمَّ يا مَنْ جعلتَ الصلاةَ على النبي من القُرُبات، نتقرب إليك بكل صلاة صليت عليه، من أول النشأة إلى ما لا نهاية للكمالات؛ (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصَّافَّاتِ: 180-182]، وأَقِمِ الصلاةَ.
التعليقات