عناصر الخطبة
1/معنى الأمانة وأهميتها 2/تعدد صور الأمانات 3/الأبناء أمانة جليلة وتبِعة ثقيلة 4/آباء كرام حافظوا على الأمانة 5/من الإخلال في أمانة الأبناء 6/ملخص أداء أمانة الأولاد 7/وصايا للآباء والمربين.اقتباس
الأيام ستمضي وسيجني كلُّ أبٍ غداً ما زرع في أبنائه اليوم، فابذل تجد غداً، واجهد تسعد، وإذا أخلصت نيتك وأصلحت مع الله علاقتك واجتهدت قدر طاقتك فأبشر بالخير؛ فالله لن يخذلك، والمعول بعد كل هذا على الدعاء، فارفع يديك متضرعاً أن يصلح لك وأن يعينك على تربيتهم.
الخطبةُ الأولَى:
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبتوفيقه يُوفَّقُ المؤمنون للطاعات، وينالون بفضله الجنات.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له باري البرايا ومبدع الكائنات، وهو الذي لا تخفى عليه خافية ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماوات.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ندب أُمّته إلى الأخلاق الزاكيات، وأنقذهم الله بدعوته من غياهب الظلمات
صلى عليه الله خير صلاته *** ما أشرقت شمس وسارت أنجم
أزكى الصلاة عليه نرفعها لمن *** أحيا به سنن الهدى ونسلم
اللهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً إلى يوم الدين.
أما بعد: فمن تأمل الدنيا وسرعة زوالها واضمحلال لذاتها وسرعة تقلُّب أحوالها؛ علم أنها ليست دار مقرّ، فأعدَّ لأخرته ليلحق بركب الصالحين في جنة ربه، وذلك هو الذي اتقى الله حقاً، فاتقوا الله أيها المؤمنون.
عباد الله: في الصحيح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يُحدِّث أصحابه، فأتى رجلٌ فسأله، وقال يا رسول الله: متى الساعة؟ فمضى المصطفى -عليه الصلاة السلام- في حديثه، وما أجابه، فمِن قائلٍ: سمع ما قال، فكره ما قال، ومِن قائل: بل لم يسمعه، فلما فرغ التفت إليه، وقال: أين أُراه السائل عن الساعة؟ فقال الرجل: أنا يا رسول الله، فقال: "إذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة"، قال وكيف إضاعتها؟ قال: "إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة".
إنه لحديثٌ عظيم يُوحي بعظم تلك الخصلة، ولا عجب، فهي التي قال عنها في الحديث: "لا إيمان لمن لا أمانة له".
الأمانة -يا كرام- خَلّةٌ عظيمة، وخلق كريم، وصفةٌ من صفات كرائم الرجال، حملها الإنسانُ يوم أن أبت السماوات والأرض حملها لا عصياناً، وإنما تعظيماً لله وإجلالاً؛ أن لا يقمن بحقها، فما هي الأمانة؟
إنها باب واسع، ومسلك رائع، ومنهج ساطع، ليس لها باب وحيد، ولا صورة مفردة، بل تعددها بتعدد وظائف الناس وأعمالهم الدينية والدنيوية، قال القرطبي: "الأمانة هي كل وظائف الدين مما أُمر به الإنسان" ا.هـ.
فكل أمرٍ أُمِرَ به العبد واستحفظه من حق؛ سواء أكان لله أو لخلقه؛ فهو أمانة، فانظر نفسك أين أنت من أداء الأمانة؟
لذا -أيها الفضلاء- فصور الأمانة متعددة، ومفهومها واسع، فليست مقصورةً على أمانة مالية أو وظيفية أو دينية، بل هي أوسع، بيد أن حديث اليوم سيكون مقتصراً حول أمانة واحدة أرى أنها من الأهمية بمكان، وتأتي بقية الصور بإذن الله في خطبة قادمة.
أما حديث اليوم فهو عن أمانةٍ جليلة وتبِعة ثقيلة، هي نعمةٌ وربما كانت نقمة، هي بابُ جنة وربما كانت سبب محنة، إنها أمانة الوالدين تجاه أبنائهم.
الأبناء -يا كرام- والبنات، هِبَةٌ من رب البريات، رَزقك إياهم المولى وامتن عليك بهم بلا مقابل أدّيته ولو خُيرت بينهم وبين ما تملك من الدنيا لاخترتهم عليها ولما ترددت.
ترى في أولادك سعادة الدنيا وأُنسها وسرورها وبهجتها، نِلت ذلك في حين أن غيرك قد حُرِم منها ابتلاءً وامتحاناً وتدبيرُ الله واختياره له خير، فماذا قدّمت شكراً لهذه النعمة وأداءً لهذه الأمانة؟
في الصحيح عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "كلكم راعٍ ومسؤول عن رعيته فالإمام راع ومسئول عن رعيته والرجل في أهله راع وهو مسئول عن رعيته"؛ يا الله، إنهم إذن أمانة، ولا بد للأمانة من سؤال عنها ومن رعاية.
ولقد رعى هذه الأمانة أقوام، فكانت وما زالت أمةُ الإسلامِ تزخرُ بنماذجَ مشرفة لأبناء تميزوا بل لآباء كانوا بعد توفيق الله السببَ في صلاح أبنائهم وبناتهم، والنماذج نراها في واقعنا وحياتنا اليومية، وحصرُ تلك الصور متعذر لكثرتها بحمد الله.
فكم تُكْبِر ذلك الأب: الذي حصّن أبنائه من أبواب الشر وأبعدهم من مواقع الحرام، ونأى بهم عن كل ما من شأنه أن يُفسِد أخلاقهم أو يؤثر في عقائدهم، من مرئي ومسموع ومقروء.
كم تُجِلّ ذلك الأب: الذي خرج إلى الصلاة بصحبة أبنائه ولم يمنعهم من ذلك برد ولا حرّ، ولم يتخلفوا عن الفجر التي لربما تكاسل عنها بعض الكبار، ولأن هؤلاء الآباء الذين رعوا الأمانة يحبون أبنائهم، ولأنهم يرحمونهم فهم للصلاة يدعونهم، وعليها يحثونهم، وإلى إقامتها يوقظونهم.
كم تُقدِّرُ أباً: أعان أبناءه على الارتباط بمجالات الخير، ومجامع القرآن، حتى خرج لنا جيلٌ من الأبناء والبنات ممن همّه القرآن والعلم والإيمان ورضا الرحمن، في وقت جرفت فيه جوارف الانحراف أعداداً من الذكور والإناث.
فحقاً، إن هؤلاء قد رعوا تلك الأمانة، وقدروا الأمر قدره، فهنيئًا لهم راحةَ الدنيا وفوزَ الآخرة، فإن أول من ينتفع بصلاح الأبناء والبنات هم الآباء والأمهات.
ففي الدنيا يبرونهم ويسعون لرضاهم، وحينما يودعون قبورهم يبقى باب الحسنات جارياً لهم، فمن أجلّ الصدقات الجارية "ولد صالح يدعو له"، وكم من أجرٍ سيراه الوالدان في صحائف حسناتهم يوم أن يلقوا ربهم، لم يعملوه ولكن عمله ابن لهم، أو بنت كانا سبباً في صلاحهم وعوناً لهم على طاعة ربهم، ومن دل على خير فله مثل أجر فاعله.
أيها المسلمون: وعلى الشقّ الآخر كم يرى المرء من صور تُنبيه عن إخلال وتقصير في حق هذه الأمانة أمانة الأبناء.
وليس بنا اليوم ذِكرُ هذه الصور، لكنّ الذي ينبغي أن يستقر في الأذهان، أن يقظة الآباء والأمهاتِ مطلبٌ، وأولادك رأس مالك، وهم أهمُّ أبوابِ تجارتك، هم تجارتك الباقية، وستُسأل عنهم أحفظت أم فرَّطت، فانصَب معهم، وعُدَّهم أهمَّ أشغالك، فالشبهاتُ خاطِفة، والشهوات خطيرة، والتبعة ثقيلة.
الخطبة الثانية:
معاشر الآباء: إن أداء أمانة الأولاد تبدأ منذ الولادة بل قبلها، حين تنتقي مَن تأمنُها على أولادك في دينها وخلقها، ثم الاسم الحسن تختاره لهم له اعتبار، ثم التنشئة على الخير منذ الطفولة له أهمية كبرى.
ومن أهمِّ ما يُعين الآباء على أداء أمانة الأبناء والقيام بها على ما يرضى الله: أن يسعوا إلى رسم القدوة الحسنة لهم في الأقوال والأفعال، فقدوة صالحة واحدة خير من ألف كلمة، وما يغني الأبناء الكلام إذا كانت الأفعال تخالف ذلك، فلا قيمة في قول لا يترجم إلى عمل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ)[الصف: 2-3].
وأمر القدوة ليس قاصراً على الوالدين بل وحتى المعلمين، وقد قال عمرو بن عتبة لمؤدب ولده: "ليكن أولَ إصلاحك لولدي إصلاحك لنفسك، فإن عيونهم معقودة بك، فالحَسنُ عندهم ما صنعت، والقبيح عندهم ما تركت".
أيها الأب: عَلِّق أبناءك برقابة الذي لا تخفى عليه خافية، فأنت تغيب، وإذا حضرت فربما غفلت، فاربطهم بمراقبة الله في كل أرض وتحت كل سماء، وإن امرأً قد تربّى على مراقبة الله، وعَلِم أن الجوارح ستنطق عليه يوم القيامة، والأرضَ ستشهد، والملائكةَ ستكتب، فلن يُقدِم على المعصية وإن بعد عن الأب والأسرة.
أيها الأب: وليكن لك دور في صحبة ابنك، فحبِّبْ إليه من حسنت أخلاقهم، وصلحت أحوالهم، ولئن كان تغيير رفقة الابن صعبة في كبره، إلا أن الأمر فيه يُسْر حال صغره.
وقد قال ابن سينا: "ينبغي أن يكون الصبي مع صِبيةٍ حَسنةٍ آدابهم، مَرضيِّةٍ عاداتهم؛ لأن الصبي عن الصبي ألقن، وهو عنهم آخذ، وبهم آنس".
وكم رفيقٍ كان سبباً في انفتاح الأبناء على أمور من الشر لم يعهدوها أو كان سبباً في الارتباط بالخير!
أيها الأب: التقنية اليوم فتحت الأولاد على كل شيء، والبرامج والأجهزة قربت لهم كل خير وكل شر، والتوسط في التعامل مع هذه الوسائل مطلبٌ، بين الإغلاق التام، والفتح بلا ضابط، مع التوجيه والمتابعة واليقظة وعدم الغفلة.
وليس يخفى عليك، أن أصحاب الشهوات، وأتباع الشبهات من غلوّ ومن إلحاد ومن بدع؛ كلهم يستغلّون مواقع التواصل ويَلِجون على أولادنا من خلالها، فحتى لا تندم حين لا ينفع ندم، اقترب من أولادك أكثر، اصحبهم معك، ضعهم في يد من تثق فيه ديناً وفكراً وسلوكاً.
أيها الأب: وفي سيرة النبي مع الأبناء أروع الأمثلة وأكمل الهدي، فاللطف أحياناً والشدة أحياناً، والترغيب أحياناً والترهيب أحياناً، فارتبط بسيرته، وإذا كان عدد من أولاد اليوم يعرفون سيرة نجوم الكرة والفن وغيرهم، فهل يليق بعد ذلك أن يكون أبناءنا أجهل شيء بسيرة أعظم القدوات وسيد البشرية؟
وأخيرًا: فالأيام ستمضي وسيجني كلُّ أبٍ غداً ما زرع في أبنائه اليوم، فابذل تجد غداً، واجهد تسعد، وإذا أخلصت نيتك وأصلحت مع الله علاقتك واجتهدت قدر طاقتك فأبشر بالخير؛ فالله لن يخذلك، والمعول بعد كل هذا على الدعاء، فارفع يديك متضرعاً أن يصلح لك وأن يعينك على تربيتهم، وفي دعوات القرآن (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي)[الأحقاف: 15]؛ (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا)[الفرقان: 74].
أصلح الله الأبناء والبنات، وأعاننا على أداء هذه الأمانات.
اللهم صلِّ وسلِّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
التعليقات