الإسراف

سليمان الحربي

2025-05-05 - 1446/11/07
التصنيفات الفرعية: المنهيات
عناصر الخطبة
1/مفهوم الإسراف وأنواعه 2/الأدلة الشرعية على تحريم الإسراف 3/الإسراف في الطعام وصور من الواقع 4/دعوة للاعتبار بأحوال الجوعى والفقراء 5/الاقتصاد والتوسط من شكر النعمة

اقتباس

إنَّ مِن شَدَّةِ بُغْضِ اللهِ لِلْإسْرَافِ نَهَى عَنْهُ فِي أَجَلِّ العِبَاداتِ والطَّاعَاتِ، فَنهَى عَنْهُ فِي الوُضُوءِ، بَلْ جَعَلَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- تَعَدِّيًا وظُلْمًا، وَنهَى عَنْهُ فِي الصَّدَقَةِ بِحَيْثُ يَضُرُّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى مَنْ يَمُونُ، فَلِمَاذَا هَذِهِ الفِكْرَةُ الْبَاطِلَةُ...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِ وَاقْتَفَى أَثَرَهُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ-؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].

 

أَحَبَّتِي فِي اللهِ: إِنَّ أَهْلَ الْمَعَاصِي إِذَا جَاهَرُوا بِمَعَاصِيهِمْ وَتَبَجَّحُوا بِذَلِكَ، وَلَمْ يَقُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانُ الْإِنْكَارِ؛ فَإِنَّ سُنَّةَ اللهِ فِي مُلْكِهِ أَنْ يَسْلُبَ نِعَمَهُ وَيَمْنَعَهُمْ مِنْهَا، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْفَاعِلُ وَالسَّاكِتُ، هَكَذَا هِيَ سُنَّةُ اللهِ، قَالَ -تَعَالَى-: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ *  كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)[المائدة:78 - 79]، وقَالَ -تَعَالَى-: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)[الإسراء: 16].

 

أَيُّ مَجَاهَرَةٍ بِالْمَعْصِيَةِ مِنَ الْمَجَاهَرَةِ فِي كَبِيرَةٍ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ وَالتَّبَجُّحِ بِهَا، بَلْ وَمِنْ رُؤَسَاءِ أَقْوَامِهِمْ وعِلَيتِهِمْ، دُونَ مُبَالَاةٍ مِنْ عُقُوبَةِ اللهِ؟! إِنَّهَا كَبِيرَةُ الْإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ وَالتَّخَوُّضِ فِي مَالِ اللهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَكَيْفَ إِذَا صَاحَبَهَا كَبِيرَةٌ أُخْرَى لَا تَكَادُ تَنْفَكُّ عَنْهَا، وَهِيَ: الْخُيَلَاءُ وَالْكِبْرُ وَالتَّبَاهِي؟!.

 

وكم تعرض لَنَا وَسَائِلُ التَّوَاصُلِ الْاجْتِمَاعِيِّ مَشَاهِدَ مُحْزِنَةً مَخْزِيَةً مِنْ مَشَاهِدِ الْآثَامِ وَالْمَعَاصِي، وكم هم الذينَ يَضَعُون الْوَلَائِمَ الَّتِي يَأْكُلُهَا أَهْلُ بَلَدٍ بِأَكْمَلِهِ لِشَخْصٍ أَوْ شَخْصَيْنِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ تُرْمَى فِي النُّفَايَاتِ!.

 

إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْكَفْرَانُ بِالنِّعَمِ الْمُتَوَعَّدِ عَلَيْهِ بِالْعُقُوبَةِ، كَمَا قَالَ اللهُ: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)[النحل: 112]، كَانَتْ بَلْدَةٌ لَيْسَ فِيهَا زَرْعٌ وَلَا شَجَرٌ، وَلَٰكِنْ يَسَّرَ اللهُ لَهَا الرِّزْقَ يَأْتِيهَا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، فَجَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ يَعْرِفُونَ أَمَانَتَهُ وَصِدْقَهُ، يَدْعُوهُمْ إِلَى أَكْمَلِ الْأُمُورِ، وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْأُمُورِ السَّيِّئَةِ، فَكَذَّبُوهُ وَكَفَرُوا بِنِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِمْ، فَأَذَاقَهُمُ اللهُ ضِدَّ مَا كَانُوا فِيهِ، وَأَلْبَسَهُمْ لِبَاسَ الْجُوعِ الَّذِي هُوَ ضِدَّ الرَّغَدِ، وَالْخَوْفِ الَّذِي هُوَ ضِدَّ الْأَمْنِ، وَذَٰلِكَ بِسَبَبِ صُنْعِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَعَدَمِ شُكْرِهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ اللهُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ الْعَظِيمَةِ: (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)[النحل:114].

 

إِنَّ مِنَ الْخَطَإِ الْكَبِيرِ أَنْ تَعْتَقِدَ أَنَّ هَذَا الْمَالَ هُوَ لَكَ تَتَصَرَّفُ فِيهِ كَمَا تَشَاءُ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، كَلَّا، هَذِهِ الْمَقُولَةُ قَالَتْهَا أُمَمُ الْكَفْرِ، كَمَا قَالَ اللهُ عَنْهُمْ: (قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ)[هود: 87]، فَالـمَالُ مَالُ اللهِ كُلُّهُ لَهُ كما قال -تعالى-: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ)[النور: 33]، فَالـمَالُ لَيْسَ لَكَ التَّصَرُّفُ فِيهِ إِلَّا فِي طَاعَةٍ أَوْ مُبَاحٍ، وَأَنْتَ مُسْتَخْلَفٌ فِيهِ كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ)[الحديد: 7].

 

فَأَكْبَرُ خَطَأٍ فِي التَّوَهُّمِ وَالتَّصَوُّرِ أَنْ تَعْتَقِدَ أَنَّ هَذَا الْمَالَ لَكَ تَعْمَلُ بِهِ فِيمَا تَشَاءُ مِنْ مَعَاصِي اللهِ، إِمَّا بِالْإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ، أَوْ شِرَاءِ الْمُحَرَّمِ، أَوْ اسْتِخْدَامِهِ فِي الذَّهَابِ إِلَى مُحَرَّمٍ، كُلُّ هَذَا لَيْسَ لَكَ؛ وَلِهَذَا سَتُسْأَلُ عَنْ هَذَا الْمَالِ، وَلَوْ كَانَ لَكَ مِلكًا تَامًّا لَمَا سُئِلْتَ عَنْهُ، سَيَسْأَلُكَ اللهُ عَنْهُ، كَمَا جَاءَ عِندَ التِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ: عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ؟ وَعَنْ مَالِهِ من أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ؟ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلاهُ؟".

 

فَأَنْتَ مَسْؤُولٌ عَنْ هَذَا الْإِسْرَافِ: لِمَ صَنَعْتَ هَذِهِ الْمَائِدَةَ الَّتِي لَا تُؤْكَلُ؟ وَلِمَ أَفْسَدْتَ الْمَالَ بِتَبْذِيرِكَ؟ وَلِمَ أَفْسَدْتَ هَذِهِ الْمَرْكَبَةَ بِتَفْحِيطِكَ وَتَهَوُّرِكَ وَعَدَمِ الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا؟ وَلِمَ اشْتَرَيْتَ هَذِهِ الْأَجْهِزَةَ الَّتِي تَضُرُّ وَلَا نَفْعَ فِيهَا؟

 

لَوْ كُنَّا نُحَاسِبُ أَنْفُسَنَا هَذِهِ الْمُحاسَبَةَ الدَّقِيقَةَ لَوَجَدْنَا أَنْفُسَنَا أَمَامَ مَسْؤُولِيَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ فَرَّطْنَا فِيهَا تَفْرِيطًا عَظِيمًا، إِغْرَاقٌ فِي شِرَاءِ الْمُبَاحَاتِ، وَتَسَاهُلٌ فِي شِرَاءِ مَا لَا نَحْتَاجُ، وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يَكْرَهُهُ اللهُ وَلَا يُحِبُّهُ، قَالَ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: "وَأَمَّا النَّفَقَاتُ فِي الْأُمُورِ الَّتِي لَا يُحِبُّهَا اللهُ -إِمَّا فِي الْمَعَاصِي، وَإِمَّا فِي الْإِسْرَافِ فِي الْمُبَاحَاتِ- فاللهُ لَمْ يَضْمَنِ الخُلْفَ لِأَهْلِهَا، بَلْ لَا تَكُونُ إِلَّا مُغْرَمًا"، وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: "وَالْنَّعِيمُ الْمَسْؤُولُ عَنْهُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ أُخِذَ مِنْ حِلِّهِ وَصُرِفَ فِي حَقِّهِ، فَيَسْأَلُهُ عَنْ شُكْرِهِ، وَنَوْعٌ أُخِذَ بِغَيْرِ حِلِّهِ وَصُرِفَ فِي غَيْرِ حَقِّهِ، فَيَسْأَلُ عَنْ مُسْتَخْرَجِهِ وَمَصْرَفِهِ".

 

وَقَدْ وَجَّهَنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى التَّعَقُّلِ مَعَ هَذَا الْمَالِ، فَقَالَ -كَمَا عِندَ أَحْمَدَ وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مُعَلَّقًا-: "كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ"، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "كُلْ مَا شِئْتَ، وَالْبَسْ مَا شِئْتَ، مَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ: سَرَفٌ، أَوْ مَخِيلَةٌ"(أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه وعلقه البخاري).

 

أَعُوذُ باللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا)[الإسراء: 26 - 27].

 

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنبٍ وَخَطِيئَةٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

الخطبة الثانية:

 

الحَمدُ للهِ علَى إحسانِهِ، والشُّكرُ علَى توفيقِهِ وامتنَانِهِ، وأَشهدُ أَن لَا إلهَ إِلَّا اللـهُ تَعْظِيمًا لِشَأنِهِ، وأَشهدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى جَنَّتِهِ ورِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وأَصحَابِهِ وأَعْوَانِهِ، أَمَّا بَعْدَ:

 

أَيُّهَا الإخوةُ فِي اللهِ: إنَّ مِن شَدَّةِ بُغْضِ اللهِ لِلْإسْرَافِ نَهَى عَنْهُ فِي أَجَلِّ العِبَاداتِ والطَّاعَاتِ، فَنهَى عَنْهُ فِي الوُضُوءِ، بَلْ جَعَلَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- تَعَدِّيًا وظُلْمًا، وَنهَى عَنْهُ فِي الصَّدَقَةِ بِحَيْثُ يَضُرُّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى مَنْ يَمُونُ، فَلِمَاذَا هَذِهِ الفِكْرَةُ الْبَاطِلَةُ فِي أَذْهَانِ الكَثِيرِينَ، وَهِيَ أَنْ الـمَالَ لِي أَتَصَرَّفُ فِيهِ كَمَا أَشَاءُ؟! كَلَّا؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ مِن رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- كَمَا فِي "صَحيحِ البُخَارِي" مِن حَدِيثِ خَوْلَةَ الأَنْصَارِيَّةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يَقُولُ: "إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ: "إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، مَنْ أَصَابَهُ بِحَقِّهِ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَرُبَّ مُتَخَوِّضٍ فِيمَا شَاءَتْ بِهِ نَفْسُهُ مِنْ مَالِ اللهِ وَرَسُولِهِ لَيْسَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلاَّ النَّارُ"، أَهناكَ أَشَدُّ مِنْ هَذَا الْوَعِيدِ؟!.

 

قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِين -رَحِمَهُ اللهُ- فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ: "فِي قَوْلِهِ: "يَتَخَوَّضُونَ" دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ يَتَصَرَّفُونَ تَصَرُّفًا طَائِشًا غَيْرَ مَبْنِيٍّ عَلَى أُصُولٍ شَرْعِيَّةٍ، فَيُفْسِدُونَ الْأَمْوَالَ بِبَذْلِهَا فِيمَا يَضُرُّ، مِثْلَ: مَن يَبْذِلُ أَمْوَالَهُ فِي الدُّخَانِ، أَوْ فِي الْمُخَدِّرَاتِ، أَوْ فِي شَرْبِ الْخُمُورِ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَٰلِكَ، وَكَذَلِكَ -أَيْضًا- يَتَخَوَّضُونَ فِيهَا بِالسَّرِقَاتِ وَالْغَصْبِ وَمَا أَشْبَهَ ذَٰلِكَ، وَكَذَلِكَ يَتَخَوَّضُونَ فِيهَا بِالدَّعَوَى الْبَاطِلَةِ، كَأَنْ يَدَّعِي مَا لَيْسَ لَهُ وَهُوَ كَاذِبٌ وَمَا أَشْبَهَ ذَٰلِكَ، فَالْمُهِمُّ أَنْ كُلَّ مَنْ يَتَصَرَّفُ تَصَرُّفًا غَيْرَ شَرْعِيٍّ فِي الْمَالِ -سَوَاءً في مَالِهِ أَوْ مَالِ غَيْرِهِ- فَإِنَّ لَهُ النَّارَ -وَالْعِيَاذُ باللهِ- يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِلَّا أَنْ يَتُوبَ، فَفِيهِ تَحْذِيرٌ مِنْ بَذْلِ الْمَالِ فِي غَيْرِ مَا يَنفَعُ وَالتَّخَوُّضِ فِيهِ، فَإِذَا بَذَلَهُ فِي غَيْرِ مَصْلَحَةٍ كَانَ مِنَ الْمَتَخَوِّضِينَ فِي مَالِ اللهِ بِغَيْرِ حَقٍّ".

 

أَصْبَحْنَا نَرَى إِضَاعَةَ الْمَالِ سِـمَةً بَارِزَةً عِندَ كَثيرٍ مِنَ النَّاسِ، لَا أَقُولُ عِندَ الْأَغْنِيَاءِ، بَلْ عِندَ الْفُقَرَاءِ!، وَالرَّسُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ كَمَا فِي "صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ" مِنْ حَدِيثِ الْمَغِيرَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِنَّ اللهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الـمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ"، نَهَى عَن إِضَاعَةِ المَالِ بِإنْفَاقِهِ بِمِثْلِ هَذِهِ الأَعْمَالِ الـمُحْرَّمَةِ فِي التَّبْذِيرِ وَالتَّبَاهِي وَالْخُيْلَاءِ.

 

أنْسِينَا حَالَنَا قَبْلَ أَقَلِّ مِن مِئَةِ عَامٍ؟ مَاذَا كُنَّا؟ وَمَاذَا نَمْلُكُ؟ هَلْ وَجَدْنَا مَوَائِدَ الطَّعَامِ هَذِهِ؟ هَلْ وَجَدْنَا وَقْتًا لِلتَّنَزُّهِ وَالتَّفَسُّحِ؟ هَلْ وَجَدْنَا هَذَا الأَمْنَ وَهَذَا الرَّغَدَ مِنَ الْعَيْشِ؟ إِنَّهَا نُذُرٌ!، كَانَتْ دُولٌ نَذْهَبُ إِلَيْهَا لِغِنَاهَا، وَالْآنَ تَأْتِي إِلَيْنَا!، إِنَّهَا سُنَنُ اللهِ، وَإِنَّ الْمُلْكَ مُلْكُهُ، وَالسُّلْطَانَ سُلْطَانُهُ، وَصَدَقَ اللهُ: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى)[العلق: 6 - 8]، الْإِنْسَانُ -لِجَهْلِهِ وَظُلْمِهِ- إِذَا رَأَى نَفْسَهُ غَنِيًّا طَغَى وَبَغَى وَتَجَبَّرَ وَفَرِحَ وَبَطَرَ، وَنَسِيَ أَنَّ إِلَى رَبِّهِ الرَّجْعَى!، وَلَمْ يَخَفِ الْجَزَاءَ، وَنَسِيَ لِقَاءَ اللهِ وَسُؤَالَهُ!.

 

إِنَّ هَذِه التَّبِعَاتِ فِي الْمَالِ هِيَ الَّتِي جَعَلَتْ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعِيشُ الْكَفَافَ وَيَتَمَنَّاهُ لِأَهْلِهِ، وَهِيَ الَّتِي جَعَلَتْ أَصْحَابَ الْأَمْوَالِ يَطُولُ حِسَابُهُمْ وَتَكْثُرُ تَبِعَاتُهُمْ، فَنِدَاءٌ لَنَا جَمِيعًا بِأَنْ نَخَافَ اللهَ فِي أَمْوَالِنَا، فِي اسْتِهْلاكِنا، فِي شِرَائِنَا، عَوِّدْ نَفْسَكَ عَلَى تَذَكُّرِ حِسَابِ اللهِ لَكَ فِي كُلِّ مَا تُنفِقُهُ وَتَبْذُلُهُ، واللهُ الْمُسْتَعَانُ.

 

ثُمَّ صَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى رَسُولِ الْهُدَى وَإِمَامِ الْوَرَى، فَقَدْ أَمَرَكُمْ رَبُّكُمْ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: (إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56]، اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ عَلَى نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَعَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَعَنَّا مَعَهُم بِعَفْوِكَ وَكَرَمِكَ، يَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ.

 

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life