عناصر الخطبة
1/المراهقة وتربية المراهق مفهومهما وحقيقتهما 2/مراحل المراهقة وصعوباتها والتعامل الأمثل معها 3/دور البيت والمجتمع في تربية المراهق 4/محاذير في التعامل مع المراهق.اقتباس
هُنَاكَ مَحَاذِيرُ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الْمُرَاهِقِ يَنْبَغِي الْحَذَرُ مِنْهَا؛ فَمِنْ ذَلِكَ: اسْتِعْمَالُ الْقَسْوَةِ الْمُفْرِطَةِ فِي تَرْبِيَةِ الْمُرَاهِقِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، أَوْ عَزْلِهِ عَنْ جَمِيعِ الْأَصْدِقَاءِ، أَوْ مُوَاجَهَةِ بَعْضِ أَخْطَائِهِ، وَالْعَجَلَةِ فِي مُعَاقَبَتِهِ عَلَيْهَا...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: سُبْحَانَ مَنْ خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَأَبْدَعَ خَلْقَهُ، فَجَعَلَهُ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَسَوَّاهُ وَعَدَّلَهُ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَهُ، فَهَلْ رَأَيْنَا مَخْلُوقًا فِي إِحْسَانِ خَلْقِهِ كَهَذَا الْمَخْلُوقِ؟ وَصَدَقَ اللَّهُ: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ)[الذَّارِيَاتِ:21]، وَهَذَا الْإِنْسَانُ الْمُكَرَّمُ يَمُرُّ بِمَرَاحِلَ عُمْرِيَّةٍ فِي حَيَاتِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ، لِكُلِّ مَرْحَلَةٍ مِنْهَا خَصَائِصُهَا وَلَهَا مُمَيِّزَاتُهَا، وَعَلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ يُحْسِنُ الْعُقَلَاءُ وَالْحُكَمَاءُ وَالْمُرَبُّونَ التَّعَامُلَ مَعَ كُلِّ مَرْحَلَةٍ بِمَا يُنَاسِبُهَا، وَمِنْ تِلْكَ الْمَرَاحِلِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْمُهِمَّةِ؛ مَرْحَلَةُ الْمُرَاهَقَةِ.
وَالْمُرَادُ بِالْمُرَاهَقَةِ -أَيُّهَا الْفُضَلَاءُ- اقْتِرَابُ الْمُرَاهِقِ مِنَ الْبُلُوغِ وَالنُّضْجِ الْجِسْمِيِّ وَالْعَقْلِيِّ، وَالنَّفْسِيِّ وَالِاجْتِمَاعِيِّ".
وَفِي مَرْحَلَةِ الْمُرَاهَقَةِ يَكُونُ الطِّفْلُ قَدْ وَدَّعَ مَرْحَلَةَ الطُّفُولَةِ وَدَخَلَ فِي مَرْحَلَةٍ تَالِيَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ تُؤَهِّلُهُ لِلْحَيَاةِ فِي عَالَمٍ أَوْسَعَ مِنْ عَالَمِ الطُّفُولَةِ بِمَا يَحْدُثُ فِي جَسَدِهِ وَنَفْسِهِ وَعَقْلِهِ مِنَ التَّغَيُّرَاتِ الَّتِي تَتَطَلَّبُ أَشْيَاءَ جَدِيدَةً لَمْ تَكُنْ فِي مَرْحَلَتِهِ السَّابِقَةِ.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ مَرْحَلَةَ الْمُرَاهَقَةِ لَيْسَتْ مَرْحَلَةً وَاحِدَةً، بَلْ هِيَ مُمْتَدَّةٌ إِلَى ثَلَاثِ مَرَاحِلَ، وَأَنْتُمْ -أَيُّهَا الْآبَاءُ الْكِرَامُ- لَوْ دَقَّقْتُمُ النَّظَرَ لَوَجَدْتُمْ هَذَا التَّدَرُّجَ الْمَرْحَلِيَّ؛ فَنَجِدُ أَنَّ الْمَرْحَلَةَ الْأُولَى تَبْدَأُ مِنْ سِنِّ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ، إِلَى سِنِّ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ، وَيَحْصُلُ لِلطِّفْلِ فِيهَا تَغَيُّرَاتٌ سَرِيعَةٌ.
وَأَمَّا الْمَرْحَلَةُ الثَّانِيَةُ (وَهِيَ الْمَرْحَلَةُ الْوُسْطَى)، فَتَبْدَأُ مِنْ سِنِّ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ، وَتَمْتَدُّ إِلَى سِنِّ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ، وَفِي هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ تَتَطَوَّرُ تِلْكَ التَّغَيُّرَاتُ الَّتِي حَصَلَتْ فِي الْمَرْحَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَيْهَا.
وَأَمَّا الْمَرْحَلَةُ الثَّالِثَةُ (وَهِيَ الْمُرَاهَقَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ)، فَتَبْدَأُ مِنْ سِنِّ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ، وَتَنْتَهِي فِي سِنِّ الْحَادِيَةِ وَالْعِشْرِينَ، وَعِنْدَ هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ يُصْبِحُ الشَّابُّ أَوِ الْفَتَاةُ رَاشِدًا فِي تَصَرُّفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ.
وَكُلُّ مَرْحَلَةٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ الْمَرَاحِلِ لَهَا خَصَائِصُهَا، وَفِيهَا صُعُوبَاتٌ يُوَاجِهُهَا الْمُرَاهِقُ، وَصُعُوبَاتٌ يُوَاجِهُهَا الْأَبَوَانِ وَالْمُرَبُّونَ؛ فَفِي مَرْحَلَةِ الْمُرَاهَقَةِ تَحْصُلُ تَغَيُّرَاتٌ جِسْمِيَّةٌ، وَعَقْلِيَّةٌ وَنَفْسِيَّةٌ؛ وَلَعَلَّكُمْ تُلَاحِظُونَ فِي الْمُرَاهِقِينَ: شِدَّةَ الْغَضَبِ وَكَثْرَةَ الِانْتِقَادِ، وَإِحْدَاثَ الْمُشْكِلَاتِ مَعَ الْوَالِدَيْنِ، وَالتَّأَثُّرَ بِالْأَصْدِقَاءِ سَلْبًا أَوْ إِيجَابًا، وَسُرْعَةَ الِاقْتِنَاعِ بِالْأَفْكَارِ وَلَا سِيَّمَا الْأَفْكَارُ الْخَاطِئَةُ وَالْهَدَّامَةُ، وَالتَّمَرُّدُ عَلَى الْأُسْرَةِ، وَحُبُّ الِانْطِوَاءِ أَحْيَانًا، وَإِحْدَاثُ الْأَفْعَالِ الْمُزْعِجَةِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمُشْكِلَاتِ الَّتِي يُحْدِثُهَا الْمُرَاهِقُ، وَهَذَا -لَا شَكَّ- يُحَتِّمُ عَلَى الْأُسْرَةِ إِدْرَاكَ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ عَنْ أَوْلَادِهَا؛ حَتَّى تُحْسِنَ التَّعَامُلَ مَعَ أَهْلِهَا؛ فَكَمْ مِنْ أَبٍ أَوْ أُمٍّ أَسَاءَ أَيَّمَا إِسَاءَةٍ فِي تَرْبِيَةِ أَوْلَادِهِ حِينَ جَهِلَ هَذِهِ الْأُمُورَ!
وَالتَّعَامُلُ الْأَمْثَلُ مَعَ الْمُرَاهِقِ يَكُونُ: التَّوْجِيهَ الْمُسْتَمِرَّ وَالنُّصْحَ الدَّائِمَ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[التَّحْرِيمِ: 6].
وَلَابُدَّ أَنْ يُصَاحِبَ التَّوْجِيهَ اللَّيِّنُ وَالرِّفْقُ عِنْدَ الْإِرْشَادِ لِفِعْلِ الصَّوَابِ وَالْكَفِّ عَنِ الْخَطَأِ؛ فَإِيَّاكُمْ -أَيُّهَا الْآبَاءُ- أَنْ تُوَجِّهُوا النُّصْحَ لِأَوْلَادِكُمُ الْمُرَاهِقِينَ فِي قَالَبِ الْأَوَامِرِ الصَّارِمَةِ كُلَّ مَرَّةٍ، بَلِ اسْتَعْمِلُوا فِي ذَلِكَ أَسَالِيبَ التَّرْغِيبِ وَالْإِغْرَاءِ، وَلَاسِيَّمَا فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ؛ بِذِكْرِ مَا لِلْعَامِلِ بِالطَّاعَةِ مِنْ ثَوَابٍ وَأَجْرٍ؛ فَمَثَلًا جَاءَ فِي حَدِيثٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَرَجَ فِي الشِّتَاءِ وَالْوَرَقُ يَتَهَافَتُ، فَأَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ شَجَرَةٍ، قَالَ: فَجَعَلَ ذَلِكَ الْوَرَقَ يَتَهَافَتُ، فَقَالَ: "يَا أَبَا ذَرٍّ!". قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: "إِنَّ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ لَيُصَلِّي الصَّلَاةَ يُرِيدُ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ، فَتَهَافَتُ عَنْهُ ذُنُوبُهُ كَمَا يَتَهَافَتُ هَذَا الْوَرَقُ عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ).
وَمِنْ حُسْنِ التَّوْجِيهِ بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَصْحُوبًا بِابْتِسَامَةِ حَنَانٍ وَحُبٍّ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ أَدْعَى لِلِامْتِثَالِ عَنْ رَغْبَةٍ، وَأَسْرَعُ إِلَى الْقَبُولِ عَنْ مَحَبَّةٍ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ صَدَقَةٌ"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ).
وَالتَّعَامُلُ الْأَمْثَلُ مَعَ الْمُرَاهِقِ: الصَّبْرُ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُعْقِبُ صَلَاحًا وَاسْتِقَامَةً، وَالصَّبْرُ خُلُقٌ كَرِيمٌ حَثَّ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ، وَحَثَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فِي سُنَّتِهِ، قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ)[الْبَقَرَةِ:45]، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
الصَّبْرُ مِثْلُ اسْمِهِ مُرٌّ مَذَاقَتُهُ *** لَكِنْ عَوَاقِبُهُ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ
وَلَيْسَتِ الْقَسْوَةُ الْمُفْرِطَةُ وَالْعَجَلَةُ فِي الْعُقُوبَةِ عِلَاجًا نَاجِعًا لِتَعْدِيلِ سُلُوكِ الْمُرَاهِقِ، وَقَدْ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا الْمُرَبِّي، لَكِنْ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَبِقَدْرٍ.
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ: إِنَّ لِلْبَيْتِ وَالْمُجْتَمَعِ دَوْرًا عَظِيمًا فِي تَرْبِيَةِ الْمُرَاهِقِ، وَفَهْمِ حَالِهِ؛ وَمِنْ ثَمَّ الْقِيَامُ بِالتَّعَامُلِ الْمُنَاسِبِ مَعَ ظُرُوفِ هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ الْعُمْرِيَّةِ الَّتِي يَمُرُّ بِهَا؛ فَمِنَ التَّوْجِيهَاتِ الْمُهِمَّةِ لِلْبَيْتِ وَالْمُجْتَمَعِ بِشَأْنِ الْمُرَاهِقِ: فِقْهُ هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ، وَمَعْرِفَةُ نَفْسِيَّاتِ أَهْلِهَا، وَالتَّعَامُلُ بِمُوجِبِ ذَلِكَ، فَمِنْ فِقْهِ هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ أَلَّا يَسْتَغْرِبَ تِلْكَ الْأَفْعَالَ وَالتَّصَرُّفَاتِ مِنَ الْمُرَاهِقِ.
وَهَذَا الْفِقْهُ -أَيُّهَا الْكِرَامُ- فِي حَقِّ الْأَبَوَيْنِ وَالْمُعَلِّمِينَ وَالْمُعَلِّمَاتِ آكَدُ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ تَسُودُوا"، وَمِنَ السِّيَادَةِ: الزَّوَاجُ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ يُولَدَ لَكُمْ؛ يَعْنِي: تَعَلَّمُوا كَيْفِيَّةَ تَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ -وَلَاسِيَّمَا فِي مَرْحَلَةِ الْمُرَاهَقَةِ- قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ لَكُمْ أَوْلَادٌ.
وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ -مَعَاشِرَ الْآبَاءِ الْكِرَامِ- قَدْ رَأَى بَعْضَ الْمَرَاكِزِ الِاسْتِشَارِيَّةِ التَّرْبَوِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ تَقُومُ بِدَوْرَاتٍ فِي هَذَا الْمَجَالِ، فَمَا أَحْسَنَ الْمُشَارَكَةَ فِيهَا!
وَمِنَ التَّوْجِيهَاتِ الْمُهِمَّةِ لِلْبَيْتِ وَالْمُجْتَمَعِ بِشَأْنِ الْمُرَاهِقِ: حُسْنُ مُعَامَلَتِهِ وَتَقْدِيرُ حَالِهِ الَّتِي يَمُرُّ بِهَا، وَمِنْ صُوَرِ هَذَا الدَّوْرِ: الْإِصْغَاءُ لَهُ وَاسْتِمَاعُ مَا يَدُورُ فِي بَالِهِ؛ لِأَنَّ مُقَاطَعَتَهُ وَعَدَمَ الِاسْتِمَاعِ لَهُ يُوَلِّدُ الْكَبْتَ فِي نَفْسِهِ، وَيَقُودُهُ إِلَى التَّصَرُّفَاتِ الطَّائِشَةِ، وَانْظُرُوا إِلَى مَوْقِفِ رَسُولِ اللَّهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مَعَ أَبِي الْوَلِيدِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَاسْتِمَاعِهِ لَهُ حَتَّى أَتَمَّ كَلَامَهُ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا تَكَلَّمَ عُتْبَةُ أَصْغَى لَهُ رَسُولُ اللَّهِ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ لَهُ: "أَوَقَدْ فَرَغْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟"، فَتَأَمَّلُوا هَذَا الْإِصْغَاءَ النَّبَوِيَّ مَعَ كَافِرٍ، فَكَيْفَ مَعَ فِلْذَةِ الْكَبِدِ؟!
وَمِنْ صُوَرِ هَذَا الدَّوْرِ أَيْضًا: الرِّفْقُ بِالْمُرَاهِقِ، فَلَا تَعْنِيفَ وَلَا شِدَّةَ، وَلَا إِقْصَاءَ وَلَا احْتِقَارَ، قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)[آلِ عِمْرَانَ:159]، وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ ذُرِّيَّاتِنَا، وَيَجْعَلَهُمْ لَنَا قُرَّةَ عَيْنٍ.
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ؛ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[الْبَقَرَةِ: 281].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: هُنَاكَ مَحَاذِيرُ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الْمُرَاهِقِ يَنْبَغِي الْحَذَرُ مِنْهَا؛ فَمِنْ ذَلِكَ: اسْتِعْمَالُ الْقَسْوَةِ الْمُفْرِطَةِ فِي تَرْبِيَةِ الْمُرَاهِقِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، أَوْ عَزْلِهِ عَنْ جَمِيعِ الْأَصْدِقَاءِ، أَوْ مُوَاجَهَةِ بَعْضِ أَخْطَائِهِ، وَالْعَجَلَةِ فِي مُعَاقَبَتِهِ عَلَيْهَا.
وَلَا شَكَّ أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْقَسْوَةِ الشَّدِيدَةِ مِنْ قِبَلِ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْمُرَبِّينَ وَالْمُرَبِّيَاتِ أُسْلُوبٌ يَهْدِمُ وَلَا يَبْنِي، وَيُفْسِدُ وَلَا يُصْلِحُ، وَالْأَسْلَمُ وَالْأَقْوَمُ لِلْمُرَبِّي إِذَا مَا أَرَادَ صَلَاحَ أَبْنَائِهِ -لَا سِيَّمَا فِي هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ- أَنْ يَتَعَامَلَ بِالرَّحْمَةِ وَالرِّفْقِ؛ يَقُولُ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: "مَا ضُرِبَ عَبْدٌ بِعُقُوبَةٍ أَعْظَمَ مِنْ قَسْوَةِ قَلْبٍ، وَمَا غَضِبَ اللَّهُ عَلَى قَوْمٍ إِلَّا نَزَعَ الرَّحْمَةَ مِنْ قُلُوبِهِمْ".
وَمِنَ الْمَحَاذِيرِ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الْمُرَاهِقِ: تَرْكُ الْحَبْلِ عَلَى الْغَارِبِ، وَالْبُعْدُ عَنْ تَوْجِيهِهِ وَتَسْدِيدِهِ، وَهَذَا خَطَأٌ كَبِيرٌ؛ فَنَحْنُ عِنْدَمَا دَعَوْنَا إِلَى الرَّحْمَةِ وَالرِّفْقِ بِالْمُرَاهِقِ لَا يَعْنِي ذَلِكَ أَنْ نَتْرُكَهُ يَصْنَعُ مَا تَهْوَاهُ نَفْسُهُ، بَلْ سُلُوكُ الْحِكْمَةِ الْمُقْتَضِيَةِ الْحَزْمَ فِي وَقْتِهَا وَاللِّينَ فِي وَقْتِهِ؛ (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)[الْفَتْحِ:29].
وَمَا أَجْمَلَ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
فَقَسَا لِيَزْدَجِرُوا، وَمَنْ يَكِ رَاحِمًا *** فَلْيَقْسُ أَحْيَانًا عَلَى مَنْ يَرْحَمُ
أَيُّهَا الْآبَاءُ وَالْمُرَبُّونَ: يَنْبَغِي عَلَى الْمُرَبِّي، سَوَاءٌ كَانَ أَبًا أَوْ مُعَلِّمًا أَنْ يَتَعَرَّفَ عَلَى حَقِيقَةِ الْمُرَاهَقَةِ وَطَبِيعَتِهَا وَصُعُوبَاتِهَا؛ حَتَّى يَتَعَامَلَ فِيهَا مَعَ الْمُتَرَبِّي بِصُورَةٍ حَسَنَةٍ، وَيَسْلُكَ الْأَسَالِيبَ التَّرْبَوِيَّةَ النَّافِعَةَ فِي تَرْبِيَتِهِ؛ مِنَ الرِّفْقِ وَالرَّحْمَةِ وَالصَّبْرِ وَسَائِرِ الْوَسَائِلِ النَّاجِعَةِ، وَأَنْ يَقُومَ بِدَوْرِهِ الْمَنُوطِ نَحْوَهُ، مِنَ التَّعْلِيمِ وَالتَّرْبِيَةِ وَالتَّوْجِيهِ وَالْإِصْلَاحِ وَالتَّزْكِيَةِ، وَيُدْرِكَ كَذَلِكَ خُطُورَةَ التَّعَامُلِ مَعَ الْمُرَاهِقِ بِالتَّعْنِيفِ وَالْقَسْوَةِ عَلَيْهِ أَوِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، فَتِلْكَ الْأَسَالِيبُ لَا تُعِينُ الْمُرَبِّيَ عَلَى بُلُوغِ غَايَتِهِ وَلَا تُصْلِحُ لِلْمُتَرَبِّي حَالَهُ وَسَوْءَتَهُ؛ وَصَدَقَ الشَّاعِرُ حِينَ قَالَ:
وَلَا تَكُ فِيهَا مُفْرِطًا أَوْ مُفَرِّطًا *** كِلَا طَرَفَيْ قَصْدِ الْأُمُورِ ذَمِيمُ
نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُعِينَا عَلَى تَرْبِيَةِ أَوْلَادِنَا تَرْبِيَةً صَالِحَةً نَافِعَةً لَهُمْ وَلِمُجْتَمَعَاتِهِمْ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
التعليقات