عناصر الخطبة
1/قصة تبين عاقة الكذب 2/من أضرار ومساوئ الكذب 3/سرعة انتشار الكذبة في زماننا 4/عذاب الكذاب في قبرهاقتباس
فَكَمْ قَد أُزِيلَتْ بِالكَذِبِ مِنْ دُولٍ وَمَمَالِكَ، وَكَمْ قَد أَوقَعَ البِلادَ فِي الخَرابِ والمَهَالكِ، وكَمْ قَد استُلِبَتْ بِهِ مِنْ نِعَمٍ، وَكَم قَد نَزَلَ بِالنَّاسِ مِن نِقَمٍ، وكَم قَد تَعَطَّلَتْ بِهِ مِنْ مَعَايشَ، وكَم قَد فَسَدَتْ بِهِ مِنْ مَصَالِحَ، وكَم قَد غُرِسَتْ بِهِ مِنْ عَدَاوَاتٍ، وهُدِمَتْ بِهِ مِنْ مَوَدَّاتٍ...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ للهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوْذُ باللهِ مِنْ شُرُوْرِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ الله فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إلهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].
أَمَّا بَعْدُ: مِنَ القَصَصِ التي سَمعنَاهَا قَديمَاً وَنَحنُ أَطفَالُ، ولا تَكَادُ أَن تَغِيبَ مِنْ حُسنِهَا عَنِ البَالِ، هِيَ قِصَةُ ذَلِكَ الرَّاعي الذي كَانَ يَرعَى أَغنَامَ أَهلِ القَريَّةِ فِي أَطرَافِ الجِبَالِ، وفِي يَومٍ مِنَ الأَيَامِ نَادَى بِأَعلَى صَوتِهِ: "الذِّئبُ الذِّئبُ، أَنقِذُوني أَيَّهَا الرِّجَالُ"، فَخَرَجَ رِجَالُ القَريَّةِ سَريعَاً لإنقَاذِ الغَنَمِ والرَّاعي، بالعِصِيِّ والسِّلاحِ، فَلَمَّا جَاؤوا إليهِ وَجدُوهُ يضحَكُ ويَقُولُ: "إنَّمَا هَذا دُعَابَةٌ ومُزاحٌ"، وَكَرَّرَ هَذِهِ الخُدعَةَ مَرَّةً ثَانيَّةً فَخَرَجَ الرِّجَالُ، وَجَاءُوهُ وَهُوَ يَضحَكُ وَقَالَ لَهُم مِثلَ مَا قَالَ، وِفِي يَومٍ مِنَ الأَيَامِ رَأى الرَّاعي ذِئبِاً ضَخمَاً قَد هَجَمَ عَلى الأَغنَامِ يَأكُلُ وَيَقتُلُ، فَنَادى يَستَغِيثُ: "الذِّئبُ الذِّئبُ فَتَعَالُوا"، فَقَالَ النَّاسُ: "إنَّ الرَّاعيَّ يَكذِبُ عَلينَا كَعَادَتِهِ فَلا تُبَالُوا"، فَوَقَعَ مَا وَقَعَ مِنَ الخَسَارةِ وَذَهَابِ الغَنَمِ، وَهَكَذا عَاقِبَةُ الكَذِبِ حَيثُ لا يَنفَعُ النَّدَمُ!.
لَقَد كَانَ لِهَذِهِ القِصَّةِ عَلِينَا ونَحنُ صِغَارٌ أَثَرٌ كَبِيرٌ، وَكَمْ مَنَعَتْ ذَلِكَ الجِيلَ الجَمِيلَ مِن كَذِبٍ كَثيرٍ، ثُمَّ كَبَرنَا وعَرفنَا أَنَّ الكَذِبَ لَيسَ مِن صِفَاتِ المُؤمنِينَ، بَل هُو مِن عَلامَاتِ السُّفَهَاءِ والتَّافِهِينَ وَالمُنَافِقينَ.
لا يَكذِبُ المَرءُ إلَّا من مَهَانتِهِ *** أو عَادَةِ السُّوءِ أَو مِنْ قِلَّةِ الأدَبِ
لبَعضُ جِيفَةِ كَلبٍ خَيرُ رَائحَةٍ *** مِنْ كَذْبةِ المَرءِ في جِدٍّ وفي لَعِبِ
أَيُّهَا الأَحِبَّةُ: هَل تَعلَمُونَ شَهَادَةً أَعظَمُ مِن شَهَادَةِ اللهِ -تَعَالى-؟ فَهَا هُوَ يَشهَدُ أَنَّ الكَذِبَ صِفَةٌ مُلازِمَةٌ لِلمُنَافِقينَ، كَمَا قَالَ -سُبحَانَهُ-: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)[المنافقون: 1]، وهَا هُوَ النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَمَ- يُخبِرُنَا عَن صِفَاتِ المُنَافقينَ فَيَقُولُ: "آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ"، فَنَعُوذُ بِاللهِ تَعالى مِنَ كَذِبِ النِّفَاقِ، الذي لا يَصدِقُ صَاحِبَهُ في قَولٍ ولا فِعلٍ ولا أَخلاقٍ.
وَلَرُبَّما كَذَبَ اِمرُؤٌ بِكَلامِهِ *** وَبِصَمتِهِ وَبُكائِهِ وَبِضِحكِهِ
فَكَمْ قَد أُزِيلَتْ بِالكَذِبِ مِنْ دُولٍ وَمَمَالِكَ، وَكَمْ قَد أَوقَعَ البِلادَ فِي الخَرابِ والمَهَالكِ، وكَمْ قَد استُلِبَتْ بِهِ مِنْ نِعَمٍ، وَكَم قَد نَزَلَ بِالنَّاسِ مِن نِقَمٍ، وكَم قَد تَعَطَّلَتْ بِهِ مِنْ مَعَايشَ، وكَم قَد فَسَدَتْ بِهِ مِنْ مَصَالِحَ، وكَم قَد غُرِسَتْ بِهِ مِنْ عَدَاوَاتٍ، وهُدِمَتْ بِهِ مِنْ مَوَدَّاتٍ، وكَم قَد افتَقرَ بِهِ غَنيٌّ، وَذَلَّ بِهِ عَزيزٌ، وَهُتِكَتْ بِهِ مَصُونةٌ، وَرُمِيَتْ بِهِ مُحصَنةٌ، وَخَلَتْ بِسَبَبِهِ دُورٌ وَقُصُورٌ، وَعُمِّرَتْ لأَجلِهِ سُجُونٌ وقُبُورٌ، وكَمْ قَد َأُزيلَ بِهِ أُنسٌ، وَاستُجلِبَتْ بِهِ وَحْشَةٌ، وَأُفسِدَ بِهِ بَينَ الابنِ وَأبيهِ، وَفُرِّقَ بَينَ الأَخِ وَأَخيهِ، وَصَارَ بِهِ الصَّديقُ عَدوًّا مُبينًا، وأَمسَى العَزيزُ ذَلِيلًا مِسكِينًا، فَالكَذَّابُ سَاءَ جَليساً وقَريناً!.
وَدَعِ الكَذُوبَ فَلَا يكُنْ لَكَ صَاحِباً *** إِنِّ الكَذوبَ لَبِئْسَ خِلًّا يُصْحَبُ
الكَذِبُ يُكسِبُ صَاحِبَهُ أَحقَرَ الأَلقَابِ، حَتَّى يُعرفَ عِندَ اللهِ بِفُلانٍ الكَذَّابِ، يَقُولُ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ؛ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا"، فَبِئسَ المَنزِلَةُ فِي المَلأِ الأعلى، أَن تُكتَبَ بِهَذا اللَّقبِ الأَدنى.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيْمِ، وَنَفَعَنِي وَاِيِّاكُمْ بِمَا فِيْهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيْمِ، أقُوْلُ قَوْلِي هَذا، وَأسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيْمَ لَيْ وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، فَاسْتَغْفِرُوْهُ إنَّهُ هُوَ الْغَفُوْرُ الرَّحِيْمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانِه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشأنِه، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وسلَّمَ تسليمًا مزيدًا، أما بعد:
أَيُّهَا الأَحِبَّةُ: إنَّ مِن آثَارِ الكَذِبِ فِي العَصرِ الحَديثِ للاتِّصَالاتِ، هُو انتِشَارِ الكَذِبَةِ سَريعَاً إلى أَقطَارِ القَاراتِ، وَقَد تَعجَّبَ النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وسلم- مِن شِدَّةِ عُقُوبَةِ هَذِهِ الكَذِبَاتِ، كَمَا فِي حَديثِ الرُّؤيا الطَويلِ: "فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لِقَفَاهُ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِكَلُّوبٍ مِنْ حَدِيدٍ، وَإِذَا هُوَ يَأتِي أَحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ فَيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَمَنْخِرَاهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنَاهُ إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِالْجَانِبِ الْأَوَّلِ، فَمَا يَفْرُغُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ حَتَّى يَصِحَّ الْأَوَّلُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ يَعُودُ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِهِ الْمَرَّةَ الْأُولَى"، فَسَأَلَ عَنهُ فَقِيلَ لَهُ: "إِنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ فَيَكْذِبُ الْكَذِبَةَ تَبْلُغُ الْآفَاقَ"، فَالحَذَرَ الحَذَرَ أَن تَكذِبَ فِي وَسَائلِ التَّواصُلِ فَيَنتَشِرَ الخَبَرُ.
وَأَمَا مَا يحدُثُ فِي المَجَالسِ مِن الكَذِبِ لأجِلِ إضحَاكِ الحُضُورِ، ولأَجلِ أَن يُقَالَ مَجَالسُ فُلانٍ تَمتَازُ بِالمَرحِ والسُّرورِ، فَقد جَاءَ عَلى ذَلِكَ الوَعِيدُ الشَّديدُ، لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ، كَمَا قَالَ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَمَ-: "وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ بِالْحَدِيثِ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ فَيَكْذِبُ، وَيْلٌ لَهُ، وَيْلٌ لَهُ"، فَالكَذِبُ عَاقِبَتُهُ خَطيرةٌ فِي الحَيَاةِ وبَعدَ المَمَاتِ، فَهَل فِي هَذِهِ الخُطبَةِ مِن عِبرَةٍ ونَذِيرٍ وعِظَاتٍ؟.
اللهمَّ اهدِنَا لأحسنِ الأخلاقِ والأقوالِ والأفعالِ لا يَهدي لأَحسنِها إلا أَنتَ، اللهمَّ طَهرْ قُلوبَنا من النفاقِ وأعينَنا من الخِيانةِ وألسنتَنا من الكَذبِ والمِراءِ والجِدالِ، اللهمَّ احفظ ألسنتَنا من الغِيبةِ والنـَّميمةِ والطَّعنِ والهَمزِ واللَّمزِ والسَّبِّ والأَذَى والفَاحِشِ من القَولِ بِرحمتِكَ يَا أرحمَ الرَّاحمينَ، اللهمَّ اجعل ألسنتَنا حَربَاً على أَعدَائكَ سِلمَاً لأوليائكَ، اللهمَّ إنا نسألُكَ سَكينةً في النَّفسِ وانشِرَاحَاً في الصَّدرِ، اللهمَّ اجعلنا من الصَّالحينَ المُصلحِينَ وَمِن جُندِكَ المُخلصِينَ، وَانصرْ بِنَا الدِّينَ وَاجعلْ لَنَا لِسَانَ صِدقٍ في الآخِرينَ، اللهمَّ آمنَّا في أَوطَانِنا وَأَصلحْ أئمتَنَا وَوُلاةَ أُمُورِنا وَأَيِّدْ بِالحَقِّ إمَامَنَا وَوَليَ أَمرِنا وَهيءْ لَهُ البِطَانةَ الصَّالحةَ التي تُعينُهُ عَلى الخَيرِ، اللهمَّ مَنْ أَرَادَ بِلادَنا وَبِلادَ المُسلمينَ بِسُوءٍ فَأَشغلْهُ بِنَفسِهِ وَرُدَّ كَيدَهُ في نَحرِهِ يَا سَميعَ الدُّعاءِ، اللهمَّ احفظْ بِلادَنَا وَبِلادَ المُسلمِينَ مِنْ شَرِّ الأَشرَارِ وَكَيدِ الفُجَّارِ بِرحمتِكَ يَا أَرحمَ الرَّاحمينَ.
التعليقات