عناصر الخطبة
1/ مظاهر فشل الحضارات المادية في القيم والأخلاق. 2/ التوازن بين غذاء الجسد والعقل والروح في الإسلام. 3/ أثر الإيمان والقرآن في سعادة الإنسان واستقامته. 4/ نماذج من سموّ أرواح المؤمنين وثباتهم.اقتباس
أين الصبر في مجتمعات العالم؟ أين المروءة؟ أين الغيرة؟ أين الرحمة؟ أين العفو؟ أين الإيثار؟ هذه هي المعاني التي تحتاجها البشرية اليوم، ها هو غذاء الروح الذي لا يملكه إلا المسلمون في هذا العالم...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله مِن شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضْلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
إنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هديُ محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71]؛ أما بعد:
معاشر المسلمين: لقد تفوقت أوروبا علينا في التحضر والتمدُّن، وتفوقت اليابان علينا في نظام التعليم، وتفوقت الصين علينا في الصناعة، وتفوقت أمريكا علينا في التقنية، وتفوقت الهند علينا في العدد، ولكن كلهم فشلوا في الأخلاق والقيم، فشلوا في النظام الاجتماعي، فشلوا في ضبط الحرية، فشلوا في إشباع الروح والعقل، ليس بينهم وبين الخالق -سبحانه- إلا خيط رفيع لا يسمع ولا يغني من جوع.
لكنهم رغم التطور المادي والتقدم التقني ستجد الأنساب مختلطة، والمخدرات محترمة، والفواحش مرسّمة، وتعاليم الأديان التي يؤمنون بها لا قيمة لها في الواقع؛ فما فائدة حريتهم، ونظافتهم، ولباقتهم، وأموالهم، وترفيههم؟ وما هي إلا أغلفة زائفة وراءها الشقاء والتفرق والخواء.
لقد وقع غالبية الناس هناك بين أقصى حالات التطرف المخالف للعادة واليأس الشديد، وبأن شيئاً ما قد مُني بالإخفاق، وأن الدفة ضلت الاتجاه، وأن الحضارة تمضي عائمة على غير هدى، وتلوح في الأفق عقبات خطيرة مجهولة، وليست لدى أحد فكرة واضحة عما يمكن أن يقوموا به بأنفسهم للمساعدة على تصحيح مسار انحراف الثقافة والسياسة والأخلاق.
عباد الله: خلق الله -سبحانه- الإنسان وله جسد وروح وعقل، ولكلٍّ منها غذاؤه ورواؤه؛ فالجسد غذاؤه الطعام والشراب، والعقل غذاؤه العلم والمعرفة، والروح غذاؤها الوحي والشرع، ومتى اختل أحد هذه الثلاثة خرج الإنسان عن كونيته إلى كائن آخر، ولا نظام في العالم يمكن أن يشبع رغبات الإنسان وحاجياته كالنظام الإسلامي القويم.
الجسد في الإسلام يشبعه الحلال لا الحرام، والمؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء، والحلال له أثر في صحة الجسم لأنه طاهر وليس نجساً، وطيبٌ وليس خبيثاً، (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)؛ فيبارك الله به في قوة الإنسان وصحته، يتغذى المؤمن فيسمِّي الله -سبحانه- ويشكره، ويلزم حدود الأكل والشرب الشرعية فتتقوّم إرادته، وتضبط غرائزه، ويغلب عقله على شهوته.
أيها الأخوة الأفاضل: العقل في الإسلام يغذيه العلم بالله -سبحانه، وبشرعه الحكيم، ورسوله الكريم، والمعرفة البشرية المفيدة، لا يتعدى حدّه في نسبة صفات الألوهية والعظمة له، ولا يتشعب فيهيم في خرافات العقل البشري، يتفكر في الكون وعجائبه ودلائل قدرة الله فيه، ويكتشف ما يحسّن حياته وييسرها، لا ما يساويها بالبهائم التي لا عقل لها، وهل نزلت الشريعة إلا لقوم يعقلون ويتفكرون ويعلمون؟
أما الروح في الإسلام -وهو مدار الخطبة- فغذاؤها القرآن، يحرك أشجانها، ويبني عاطفتها، ويملؤها رضى ويقيناً وسعادة، يخاطب القرآن العظيم الروح فيربطها بالسماء، ويوجهها للعلوّ، ويرفعها للملأ الأعلى، ويضعها في مجتمع القدسية، فتشعر بالقيمة الحقيقية للإنسان، الإنسان الذي يُلهم الحكمة، ويرى بنور الله.
وانظروا كيف انتشل الإسلام العرب من أناس همهم ما يشبع البطن ويغذي الشهوة ويقوي بطشه بالآخرين في الحروب، إلى مجتمع راقٍ في أخلاقه وقيمه وإيمانه؛ لأنه ربى أرواحهم على المعاني السامية: الزهد، والخشوع، والإنابة، والتواضع، والورع، ومحاسبة النفس، والإخلاص، والتوكل، والحياء، والإيثار.
عباد الله: يقف أحدهم وهو فقير أمام كنوز كسرى وجواهره الفاخرة النادرة، بعد أن فاز بفتحها والانتصار على جيوشها؛ فلا يأخذ منها شيئاً لنفسه، ولا يطمع في قرشٍ منها، ووالله لو حصلت له كنوز قارون وفرعون وهامان لكان منه نفس الموقف.
يضحّي الواحد منهم بطعام زوجه وأبنائه ويجيعهم ليلة من أجل والديه، ويحمل أحدهم أمه على ظهره يطوف بها حول الكعبة وهو يعتقد أنه لم يؤدِّ لها حقها، ويعفو -صلى الله عليه وسلم- عن رجل أراد أن يقتله، فلما تمكن منه -صلى الله عليه وسلم- سأله: "من يمنَعُك منِّي؟!". فقال الأعرابيُّ: كُن خيرَ آخِذٍ. فقال: "أتشْهَدُ أن لا إله إلا الله؟!"، قال: لا، ولكنِّي أُعاهِدُك ألا أقاتِلَك ولا أكونَ مع قومٍ يُقاتِلُونَك. فخلَّى سبيلَه، فذهبَ إلى أصحابِه فقال: جِئتُكم من عند خيرِ الناس.
ويعذّب أحدهم في الله -سبحانه- فيصبر راضياً بقضاء الله -سبحانه-؛ قائلا:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً *** على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ *** يبارك على أوصال شلو ممــزّع
وقبلهم يتخلى نبي الله يوسف -عليه السلام- الشاب عن حظه الغريزي مع كل الدواعي لذلك من أجل الله -سبحانه-، خشية منه ورغبة فيما عنده.
عباد الله: أين الصبر في مجتمعات العالم؟ أين المروءة؟ أين الغيرة؟ أين الرحمة؟ أين العفو؟ أين الإيثار؟ هذه هي المعاني التي تحتاجها البشرية اليوم، ها هو غذاء الروح الذي لا يملكه إلا المسلمون في هذا العالم، ولن يسود السلام والرحمة والعدل والجمال في العالم إلا بذلك.
قلت ما سمعتم ولي ولكم فاستغفروا الله ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول لا إلا هو إليه المصير، كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه..
أيها المسلمون: رأس غذاء الروح الإيمان بالله -سبحانه-، وتوحيده والتعلق به، وخشيته وتعظيمه ومحبته وتمجيده وشكره وعبادته والاعتراف له بكل جلال وجمال وكمال؛ فإذا فعل الإنسان ذلك فلا تسأل عما يحدثه في القلب والروح من آثار نفسية تغير حياة الفرد والمجتمع، أرواح الصالحين تعيش في جنة قبل دخول الجنة، ونعيم في الدنيا قبل نعيم الآخرة، يمرض أحدهم مرض الموت فيقول: غداً ألقى الأحبة محمداً وصحبه، ويطعن أحدهم فيقول: فزت ورب الكعبة، يتعب أحدهم نفسه في العبادة ويقول: راحتها أريد، ويقول أحدهم: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم، لجالدونا عليه بالسيوف.
وأما إمامهم وقدوتهم محمد -صلى الله عليه وسلم- من امتلأت روحه وقلبه بالوحي الفكان يقول: "جُعلت قرة عيني في الصلاة"، وكان يصلّي -صلى الله عليه وسلم- الليل كله ولا يحسّ بالتعب، ويقوم عثمان -رضي الله عنه- بركعة واحدة يختم فيها القرآن كاملاً.
وهكذا كل امتلأ القلب إيمانا وأخذت الروح حظها من غذائها ارتقت وصفت وأتت بالأعاجيب وفعلت المستحيل، ولم تجدها إلا في مرضاة الله ثابتة مضحية؛ فاحرصوا -رحمكم الله- على غذاء الروح مما أشار إليه القرآن الكريم وجاءت به السنة المطهرة.
عباد الله: (إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليّ صلاة"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة؛ فأكثروا عليّ من الصلاة فيه؛ فإن صلاتكم معروضة علي"، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه.
اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ.
اللهم أمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل هذا البلد آمناً مباركاً وجميع بلاد المسلمين.
اللَّهُمَّ إنَّا نَسْألُكَ مُوجِباتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزائِمَ مَغْفِرَتِكَ، والسَّلامَةَ مِنْ كُلِّ إثمٍ، والغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ، والفَوْزَ بالجَنَّةِ، والنَّجاةَ مِنَ النَّارِ.
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل بلادنا آمنةً مطمئنة وسائر بلاد المسلمين.
التعليقات