عناصر الخطبة
1/إخبار النبي بما سيحدث بعده إلى قيام الساعة 2/الدجال أعظم فتنة حذر منها النبي أمته 3/بيان شيء من فتنة الدجال 4/نزول عيسى بن مريم وقتله للدجال 5/من أسباب النجاة من فتنة الدجالاقتباس
تِلْكَ فِتْنَةُ الدَّجَالِ، وأَنَى لِمَنْ وَهَنَ إِيْمانُهُ أَنْ يَثْبُتَ أَمامَها؟! أَنَّى لِمَنْ يَقِفُ أَمَامَ أَدْنَى شُبْهَةٍ يُقَلِّبُ طَرْفَهُ فيها حائِراً، أَنْ يَصْمُدَ أَمامَ عَظائِمِ الفِتَن؟! أَنَى لِمَنْ يَتَخَبَّطُ في شَيءٍ مِنْ مَسائِلِ العَقِيْدَةِ، ويَتَرَددُ في إِثْباتِ شَيءٍ مِنْ أُصُولِ الدِيْنِ، أَنْ يَقُومَ في تِلْكَ الفِتْنَةِ العُظْمَى...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالميِن، وَكُلُّ مَعْبُودٍ سِوَى اللهِ بَاطِل، هُوَ الأَوَّلُ والآخِرُ والظَّاهِرُ والبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيْم، وَأَشْهَدُ أَنَّ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيْكَ لَهُ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيْعُ البَصِيْرُ، (يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[الحشر: 24]، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحمداً عَبْدُهُ وَرَسُوُلُهُ، صَلَّى اللهُ وسَلَّمَ وبارَكَ عليهِ وعَلى آلِهِ وأَصْحابِهِ، ومَن اتَّبَعَهُمْ إِلى يَومِ الدِّيْنِ.
أمَّا بَعْدُ: فإنَّ خيرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الهَدْيِ هَدْيُ محمد، وَشَرَّ الأُمُوْرِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وعَلِيْكُمْ بِتَقْوَى اللهِ أَيْنَما كَنْتُم، وحَيْثُما أَقَمْتُم، فَإِنَّ اللهَ لا يَخْفَى علَيْهِ مِنْكُمْ خَافِيَة؛ (وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)[يونس: 61].
أيها المسلمون: وَعَلى امْتِدادِ تارِيْخِ البَشَرِيَّةِ على هذهِ الأَرْضِ، خَلَتْ أُمَمٌ ومَضَتْ قُرُون، أُمَمٌ تَتْلُوها أُمَمٌ، وقُرُونُ تَتْلُوها قُرُون؛ (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)[يونس: 14]، وكُلُ أَمَةٍ خَلَتْ أَرْسَلَ اللهُ إِليها رَسُولاً، وخَتَمَ اللهُ المُرْسَلِينَ بِخاتَمِ النَّبِيينَ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-؛ (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ)[فاطر: 24].
ولَمَّا كَانَ مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم- هُو خَاتَمُّ النَّبِيينَ، وأَنَّهُ بُعِثَ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ، فلَيْسَ بَيْنَهُ وبَيْنَ السَّاعَةِ نَبِيٌ ولا رَسُول، أَوْحَى اللهُ إِليهِ بِما هُو كائِنٌ إِلى يَومِ القِيامَة؛ لِتَبْقَى الأُمَةُ على بَصِيْرَةِ مِنْ أَمْرِها، ولِيَسْتَقِيْمَ العِبادُ إِلى رَبِهِم على طَرِيْقٍ قَوِيْم، قال حُذَيْفَةُ -رضي الله عنه-: "قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مَقَامًا، ما تَرَكَ شيئًا يَكونُ في مَقَامِهِ ذلكَ إلى قِيَامِ السَّاعَةِ إلَّا حَدَّثَ به، حَفِظَهُ مَن حَفِظَهُ وَنَسِيَهُ مَن نَسِيَهُ"(رواه البخاري)، وقال عَمْرَو بْنُ أَخْطَبَ الأنصاريُ -رضي الله عنه-: "صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الْفَجْرَ، وَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتِ الظُّهْرُ، فَنَزَلَ فَصَلَّى، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتِ الْعَصْرُ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَخَطَبَنَا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَأَخْبَرَنَا بِمَا كَانَ وَبِمَا هُوَ كَائِنٌ، فَأَعْلَمُنَا أَحْفَظُنَا"(رواه مسلم).
وأَعْظَمُ فِتْنَةٍ حَذَّرَ مِنْها رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أُمَتَهُ، فِتْنَةُ المَسِيْحِ الدَّجَال، عن عمرانَ بنِ حُصينٍ -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يقولُ: "مَا بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ إلى قِيَامِ السَّاعَةِ أَمْرٌ أكْبَرُ مِنَ الدَّجَّالِ"(رواه مسلم).
فِتْنَةُ الدَّجَالِ فِتْنَةٌ لا نَظِيْرَ لَها، رَجُلٌ مِنْ بَنِيْ آدَمَ كَافِرٌ باللهِ العَظِيْم، يُعْطِيْهِ اللهُ مِنَ المُعْجِزاتِ والخَوارِقِ ما لا يَقْدِرُ عليهِ مَخْلُوقٌ، فَيَدَّعِيْ الدَّجَالُ أَنَهُ هُو اللهُ رَبُّ العَالَمِيْن، ويَدْعُو النَّاسَ إِلى عِبادَتِهِ وإِلى الإِيْمانِ بِه، فَيُؤْمِنُ بِهِ أَكْثَرُ النَّاسِ ويَسْتَجِيبُونَ لَه، يرتدُّ في تِلْكَ الفِتْنَةِ عَنِ الإِيْمانِ أَقْوَامٌ وَأَقْوَامٌ، وَيَهْلَكُ فِيْها فِئَامٌ وَفِئَام، ولا ينجو منها إِلا ثُلَّةٌ مِنَ عِبادِ اللهِ المُؤْمِنِيْن، ويَعْصِمُهُمُ اللهُ ويحْفَظَ لَهُم دِيْنَهُم، هُم خِيارُ أَهْلِ الأَرْضِ يَومَئِذ.
فِتْنَةُ الدَّجَالِ لا تُقارِبُها فِتْنَةَ، تَسْلِبُ العُقُولَ وتُزَلْزِلُ الأَفْئِدَةَ، خَوارِقُ يأَتِيْ بِها، ما للمُرْتابِ أَمَامَها مِنْ ثَبَات، في شأَنِها قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "فَيَأتِي عَلَى القَوْمِ فَيدْعُوهُم فَيُؤمِنُونَ بِهِ، وَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ، فَيَأمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ، وَالأرْضَ فَتُنْبِتُ، فَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ -أَي: أَغْنامُهُم وماشِيَتُهُم- أطْوَلَ مَا كَانَتْ ذُرًى، وَأسْبَغَهُ ضُرُوعًا، وأمَدَّهُ خَوَاصِرَ، ثُمَّ يَأتِي القَوْمَ فَيَدْعُوهُمْ، فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَولَهُ، فَيَنْصَرفُ عَنْهُمْ، فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ لَيْسَ بِأيْدِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ أمْوَالِهِمْ، وَيَمُرُّ بِالخَرِبَةِ، فَيَقُولُ لَهَا: أخْرِجِي كُنُوزَكِ، فَتَتْبَعُهُ كُنُوزُهَا كَيَعَاسِيبِ النَّحْلِ، ثُمَّ يَدْعُو رَجُلًا مُمْتَلِئًا شَبَابًا فَيَضْرِبُهُ بِالسَّيْفِ، فَيَقْطَعُهُ جِزْلَتَيْنِ رَمْيَةَ الغَرَضِ، ثُمَّ يَدْعُوهُ، فَيُقْبِلُ، وَيَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ يَضْحَكُ -أَيْ: يُقْبِلُ حَياً بَعْدَ ما قَتَلَه-"(رواه مسلم).
يَخْرُجُ الدَّجَالُ أَوَّلَ مَا يَخْرُجُ مِنْ جِهَةِ المَشْرِقِ مِنْ أَرْضِ خُرَاسَانَ مَارّاً بِأَصْبَهَانَ -إِحْدَى مُدُنِ إِيْرَانَ اليَوْم- ثُمَّ يَكُوْنُ خُرُوْجُهُ مِنْ خُلَّةٍ -أَي: من طَرِيْقٍ- بَيْنَ الشَّامِ وَالعِرَاقِ، قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "يَتْبَعُ الدَّجَّالَ مِنْ يَهُودِ أَصْبَهَانَ سَبْعُونَ ألْفًا عَلَيْهِم الطَّيَالِسَةُ"(رواه مسلم)، ثُمَّ يَتَكَاثَرُ أَتْبَاعُهُ وَجُنُوْدُهُ وَالمفْتُوْنُوْنَ بِهِ، قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لَيسَ مِنْ بَلَدٍ إلاَّ سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ إلاَّ مَكَّةَ وَالمَدِينَةَ، وَلَيْسَ نَقْبٌ مِنْ أنْقَابِهِمَا إلاَّ عَلَيْهِ المَلاَئِكَةُ صَافِّينَ تَحْرُسُهُمَا، فَيَنْزِلُ بالسَّبَخَةِ، فَتَرْجُفُ المَدِينَةُ ثَلاَثَ رَجَفَاتٍ، يُخْرِجُ اللهُ مِنْهَا كُلَّ كافِرٍ وَمُنَافِقٍ"(رواه مسلم).
فِتْنَةٌ عَسِيْرَةٌ، تَتَهاوَى أَمامَها أَعِمِدَةٌ لَمْ تُدْعَمْ بِدَعائِمِ الإِيْمانِ، وتَتَزَلْزَلُ أَمامَها حُصُونٌ لَمْ يُشَيَّد على تَقْوَى، تَوالَتْ أَحادِيْثُ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- في بَيانِ فِتْنَةِ الدَّجَالِ، وتَكاثَرَتْ أَحادِيْثُهُ في التَّحْذِيْرِ مِنْها، قَالَ النَّوَّاسُ بنُ سَمْعَانَ -رضي الله عنه-: "ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الدَّجَّالَ ذَاتَ غَدَاةٍ، فَخَفَّضَ فِيهِ وَرَفَّعَ، حَتَّى ظَنَنَّاهُ في طَائِفَةِ النَّخْلِ"، وقَالَ عَبدُ اللهِ بِنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: قَامَ رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- في النَّاسِ، فأثْنَى علَى اللَّهِ بما هو أهْلُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ الدَّجَّالَ، فَقالَ: "إنِّي أُنْذِرُكُمُوهُ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إلَّا وقدْ أنْذَرَهُ قَوْمَهُ، لقَدْ أنْذَرَهُ نُوحٌ قَوْمَهُ"(رواه البخاري ومسلم)، ورَوى مُسْلِمٌ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنْ يَخْرُجْ وَأنَا فِيكُمْ فَأنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ، وَإنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ، فَامْرُؤٌ حَجيجُ نَفْسِهِ، واللهُ خَلِيفَتي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، إنَّهُ شَابٌّ قَطَطٌ عَيْنُهُ طَافِيَةٌ، كَأنّي أُشَبِّهُهُ بعَبْدِ العُزَّى بنِ قَطَنٍ، فَمَنْ أدْرَكَهُ مِنْكُمْ، فَلْيَقْرَأ عَلَيْهِ فَواتِحَ سُورَةِ الكَهْفِ"(رواه مسلم).
فِتْنَةٌ عَظِيْمَةٌ يُطَوِّفُ الدَّجَالُ بِها أَرْجاءَ الأَرْضِ، ويَظَلُ مُكْثُهُ في الأَرْضِ زَمناً، قَالَ، قُلْنا: يَا رسُولَ اللهِ، وَمَا لُبْثُهُ في الأرْضِ؟ قال: "أرْبَعُونَ يَومًا، يَوْمٌ كَسَنَةٍ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كَجُمْعَةٍ، وَسَائِرُ أيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ"(رواه مسلم).
وتَنْتَهِيْ فِتْنَةُ المَسِيْحِ الدَّجَالِ بِمَقْتَلِهِ على يَدِ المَسِيْحِ عِيْسَى بنِ مَرْيَمَ -عليه السلامُ-، يُنْزِلُ اللهُ عَيْسَى مِنَ السَماءِ، يُعِيْدُهُ إِلى الأَرْضِ بَعْدَ أَنْ رَفَعَه مِنْها؛ (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا)[النساء: 158]، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "فَبَيْنَمَا هُوَ كَذلِكَ -أَي: الدَّجَالُ- إذْ بَعَثَ اللهُ -تَعَالَى- المَسيحَ ابْنَ مَرْيَمَ -صلى الله عليه وسلم- فَيَنْزِلُ عِنْدَ المَنَارَةِ البَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشقَ بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ، وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ، إذا طَأطَأَ رَأسَهُ قَطَرَ، وَإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنهُ جُمَانٌ كَاللُّؤْلُؤ، فَلاَ يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إلاَّ مَاتَ، وَنَفَسُهُ يَنْتَهِي إلى حَيثُ يَنْتَهِي طَرْفُهُ، فَيَطْلُبُهُ -أَيْ: يَطْلُبُ الدَّجَالَ- حَتَّى يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُدٍّ -موضِعٍ قَرِيْبٍ مِنْ بَيْتِ المَقْدِس- فَيَقْتُلُهُ، ثُمَّ يَأتِي عِيسَى -صلى الله عليه وسلم- قَومًا قَدْ عَصَمَهُمُ اللهُ مِنهُ، فَيَمْسَحُ عَنْ وُجُوهِهِمْ، وَيُحَدِّثُهُمْ بِدَرَجَاتِهِمْ فِي الجَنَّةِ"(رواه مسلم).
وَخُرُوْجُ الدَّجَالِ مِنَ العَلامَاتِ الكُبْرَى للسَّاعَةِ، وكَذا نَزُولُ عِيٍسَى بنُ مَرْيَمَ، ثُمَّ تَتَوالَى أَشْرَاطُ السَّاعَةِ سِراعاً حَتَى يُنْفَخَ في الصُّورِ، وَتَنْتَهِيْ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وتَبْدَأُ الحَيَاةُ الآخِرَة؛ (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ)[محمد: 18].
أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ رَبِّ العَالمين، وأَشْهَدُ أَن لا إله إلا اللهُ ولي الصالحين، وأَشْهَدُ أَنَّ محمداً رسول رب العالمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليماً.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- لعلكم ترحمون.
أيها المسلمون: فِتْنَةُ الدَّجَالِ مِنْ أَخْطَرِ الفِتَنِ وأَعظَمِها، فِتْنَةٌ يُمْتَحُنُ فيها تَوْحِيُدُ الرُّبُوبِيَّةِ، وتَوْحِيْدُ الأُلُوهِيَّةِ، فِتْنَةٌ يُواجِهُ فيها المرءُ مَشاهِدَ مِنَ البَلاءِ يَعْسُرُ الثَباتُ أَمامَها، فَلا يَثْبُتُ أَمامَها إِلا مَنْ تَسَلَّحَ بالعِلْمِ والإِيْمانِ، ولا يُصْمُدُ إِلا مَنْ تَضَلَّعَ باليَقِيْنِ والتَّقْوَى، ومَنْ لَمْ يَعْصِمْهُ اللهُ هَلَك، ومَنْ لَمْ يَلْتَجِئ إِلى الله زَلّ.
وَكَمَا أَخْبَرَنَا رَسُوْلُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ هَذِهِ الفِتْنَةِ، فَقَدْ أَخْبَرنَا عَنْ أَسْبابِ النَجَاةِ مِنْها، فَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ النَّجَاةِ مِنَ فِتْنَةِ الدَّجَالِ، كَثْرَةُ الاسْتِعاذَةِ باللهِ مِنْها، عَنْ أَبِيْ هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ -أَي: بَعدَ التَّشَهدِ الأَخِيْرِ في الصَلاة- فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ مِنْ أرْبَعٍ، يقُول: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ"(رواه مسلم).
وَمِنْ أَسْبَابِ النَّجَاةِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَالِ: مَا أَرْشَدَ إِليهِ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "فَمَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ، فَلْيَقْرَأ عَلَيْهِ فَواتِحَ سُورَةِ الكَهْفِ"(رواه مسلم)، و"مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الكَهْفِ، عُصِمَ مِنَ الدَّجَّالِ"، وفي رواية: "مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الكَهْفِ عُصِمَ مِنَ الدَّجَّالِ"(رواه مسلم).
والفِرارُ مِنْ الدَّجَالِ وعَدَمُ التَّعَرُّضِ لَه من أَسْبابِ النَّجَاةِ مِنْ فِتْنَتِه، عَنْ أمُّ شَرِيْكٍ -رضي الله عنها-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لينْفِرَنَّ النَّاسُ مِنَ الدَّجَّالِ فِي الجِبَالِ"(رواه مسلم).
والعِلْمُ المُقْتَرِنُ بِصِحَّةِ الإِيْمانِ، عِصْمَةٌ للمَرءِ مِنْ تِلْكَ الفِتْنَةِ، وأَعْظَمُ العِلْمِ، عِلْمُ العَبْدِ بِرَبِه، وأَنَّ اللهُ هُو الأَحَدُ الصَّمَدُ الذي لَمْ يَلِد، ولَمْ يُولَدْ ولَمْ يَكُنْ لَهُ كَفواً أَحد، وأَنَّهُ -تَعالى- (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[الشورى: 11]، وأَنَّ اللهَ -تَعالى- هُو الخَلاقُ العَلِيْم، الكَامِلُ مِنْ جَمِيْعِ الوُجُوه، وأَنَّهُ -تَعالى- عالٍ عَلى خَلْقِهِ، قَدْ اسْتَوَى عَلى عَرْشِهِ، لا تُدْرِكُهُ الأَبْصارُ وهو يُدْرِكُ الأَبْصارَ، لا تَراهُ في الدُّنْيا العُيُونُ، إِنَّما يَراهُ المؤْمِنُونَ في الآخِرَةِ.
وأَما المَسِيْحُ الدَّجَالُ فَإِنَّهُ إِنَّما أُعْطِيْ بَعْضُ الخَوارِقِ التِي لا يَقْدِرُ على مِثْلِها البَشَرُ، ابْتِلاءً مِنَ اللهِ لِعبادِه، وهو آدَمِيٌ ضَعِيْفٌ مُفْتَقِرٌ لله، لا يُقِيْمُ ذاتَهُ بِذاتِهِ، وإِنَّما يأَكُلُ ويَشْرَبُ، ويَبُولُ ويَتَغَوَّطُ، ويَنامُ ويَمُوت، وهو أَعْوَرٌ، قَالَ عَنْهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَلا وَإِنَّ المَسِيْحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ العَيْنِ اليُمْنَى، كَأنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طافِئَةٌ"(رواه مسلم).
عِبادَ الله: تِلْكَ فِتْنَةُ الدَّجَالِ، وأَنَى لِمَنْ وَهَنَ إِيْمانُهُ أَنْ يَثْبُتَ أَمامَها؟! أَنَّى لِمَنْ يَقِفُ أَمَامَ أَدْنَى شُبْهَةٍ يُقَلِّبُ طَرْفَهُ فيها حائِراً، أَنْ يَصْمُدَ أَمامَ عَظائِمِ الفِتَن؟! أَنَى لِمَنْ يَتَخَبَّطُ في شَيءٍ مِنْ مَسائِلِ العَقِيْدَةِ، ويَتَرَددُ في إِثْباتِ شَيءٍ مِنْ أُصُولِ الدِيْنِ، أَنْ يَقُومَ في تِلْكَ الفِتْنَةِ العُظْمَى مَقَامَ ثَبات؟! شُبْهَةٌ يَقْذِفُ بِها مُلْحِدٌ، فَيَظَلُّ المَفْتُونُ بِعدَها حائراً يَتَقَلَّبُ قَلْبَهُ في الشَّك، فَأَنَّى لَهُ أَنْ يَثْبُتَ أَمَامَ فِتْنَةٍ قَالَ عَنْهَا رَسُوْلُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ خَلْقٌ أَكْبَرُ مِنَ الدَّجَّالِ"؟!.
ربنا توفنا مسلمين، وأعذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، يا أرحم الراحمين.
التعليقات