عناصر الخطبة
1/المراد بمرحلة البلوغ وعلامتها 2/معاناة مرحلة البلوغ وصعوباتها 3/إرشاد المربي والمتربي لسبل التعامل فترة البلوغ 4/أخطاء يقع فيها بعض المربين وأولياء الأمور في فترة البلوغ.اقتباس
مِنَ الْخَطَأِ -مَعَاشِرَ الْمُرَبِّينَ الْفُضَلَاءِ- أَنْ نُقَرِّعَ وَنُوَبِّخَ وَنُعَيِّرَ الْمُرَاهِقَ إِذَا صَدَرَتْ مِنْهُ هَفْوَةٌ؛ فَإِنَّ هَذَا يُضْعِفُ شَخْصِيَّتَهُ، وَيُفْقِدُهُ الثِّقَةَ فِي نَفْسِهِ، وَقَدْ يَدْفَعُهُ إِلَى التَّمَادِي فِي غَيِّهِ، وَالصَّوَابُ -إِخْوَةَ الْإِسْلَامِ- أَنْ نُوَجِّهَ وَنُعَلِّمَ...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
عِبَادَ اللَّهِ: لَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- الْجَنِينَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ مُتَقَلِّبًا فِي الْأَطْوَارِ وَالْمَرَاحِلِ: (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ)[الزُّمَرِ:6]، وَبَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الرَّحِمِ يَتَقَلَّبُ كَذَلِكَ مِنْ طُفُولَةٍ إِلَى بُلُوغٍ وَمُرَاهَقَةٍ إِلَى شَبَابٍ وَعُنْفُوَانٍ، إِلَى رُجُولَةٍ أَوْ أُنُوثَةٍ، ثُمَّ إِلَى كِبَرٍ وَشَيْخُوخَةٍ وَهَرَمٍ... لَكِنَّ أَخْطَرَ تِلْكَ الْمَرَاحِلِ كُلِّهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَأَكْثَرَهَا تَغَيُّرًا وَتَقَلُّبًا وَأَعْظَمَهَا تَأْثِيرًا فِي حَيَاةِ الْإِنْسَانِ هِيَ مَرْحَلَةُ الْمُرَاهَقَةِ.
إِنَّهَا -مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ- تِلْكَ الْمَرْحَلَةُ الَّتِي يَنْمُو فِيهَا الْجِسْمُ فَيَتَحَوَّلُ مِنْ جَسَدٍ صَغِيرٍ لِطِفْلٍ غَرِيرٍ، إِلَى جَسَدٍ يَافِعٍ بَالِغٍ مُتَكَامِلٍ، فَتَظْهَرُ عَلَيْهِ عَلَامَاتُ الْبُلُوغِ؛ فَيَنْبُتُ الشَّعْرُ فِي أَمَاكِنَ عِدَّةٍ، وَيَكُونُ الِاحْتِلَامُ وَظُهُورُ الْمَيْلِ الْجِنْسِيِّ إِلَى الطَّرَفِ الْآخَرِ، وَتَخْتَصُّ الْفَتَاةُ الْمُرَاهِقَةُ بِبَدْءِ نُزُولِ دَمِ الْحَيْضِ، وَيَتَمَايَزُ جَسَدُ الْفَتَاةِ عَنْ جَسَدِ الْفَتَى بَعْدَ أَنْ كَانَا شِبْهَ مُتَمَاثِلَيْنِ.
وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُفَرِّقُ بِهَذِهِ الْعَلَامَاتِ بَيْنَ الطِّفْلِ الصَّغِيرِ وَبَيْنَ الْبَالِغِ الْمُرَاهِقِ، لِتَجْرِيَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الرِّجَالِ؛ فَعَنْ عَطِيَّةَ الْقُرَظِيِّ قَالَ: "عُرِضْنَا عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ قُرَيْظَةَ، فَكَانَ مَنْ أَنْبَتَ قُتِلَ، وَمَنْ لَمْ يُنْبِتْ خُلِّيَ سَبِيلُهُ، فَكُنْتُ مِمَّنْ لَمْ يُنْبِتْ فَخُلِّيَ سَبِيلِي"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ)، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ يَقُولُ عَطِيَّةُ الْقُرَظِيُّ: "كُنْتُ فِيمَنْ حَكَمَ فِيهِ سَعْدٌ فَجِيءَ بِي، وَأَنَا أَرَى أَنَّهُ سَيَقْتُلُنِي، فَكَشَفُوا عَنْ عَانَتِي، فَوَجَدُونِي لَمْ أُنْبِتْ فَجَعَلُونِي فِي السَّبْيِ".
وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا وَجَّهَهُ إِلَى الْيَمَنِ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ -يَعْنِي: مُحْتَلِمًا- دِينَارًا"(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ)، كَذَلِكَ فَقَدْ أَجْرَى الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ أَحْكَامَ الِاسْتِئْذَانِ عَلَى الِاحْتِلَامِ فَقَالَ: (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا)[النُّورِ:59]؛ أَيْ: إِذَا بَلَغُوا الِاحْتِلَامَ وَجَبَ عَلَيْهِمُ الِاسْتِئْذَانُ.
وَكَمَا يَتَحَوَّلُ جَسَدُ الْمُرَاهِقِ وَيَتَبَدَّلُ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- فَإِنَّ مَشَاعِرَهُ وَاهْتِمَامَاتِهِ وَأَفْكَارَهُ وَطُمُوحَاتِهِ تَتَغَيَّرُ وَتَتَبَدَّلُ كَذَلِكَ؛ فَبَعْدَ أَنْ كَانَتِ اهْتِمَامَاتُهُ مُنْصَبَّةً عَلَى اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ فَحَسْبُ، إِذَا بِالْمُرَاهِقِ السَّوِيِّ يَتَطَلَّعُ إِلَى مُنَافَسَةِ الرِّجَالِ وَالْحَمِيَّةِ لِلْقِتَالِ، فَهَذَا سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَقُولُ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعْرِضُ غِلْمَانَ الْأَنْصَارِ فِي كُلِّ عَامٍ فَيُلْحِقُ مَنْ أَدْرَكَ مِنْهُمْ، فَعُرِضْتُ عَامًا، فَأَلْحَقَ غُلَامًا وَرَدَّنِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ أَلْحَقْتَهُ وَرَدَدْتَنِي وَلَوْ صَارَعْتُهُ لَصَرَعْتُهُ! قَالَ: "فَصَارِعْهُ"، فَصَارَعْتُهُ فَصَرَعْتُهُ فَأَلْحَقَنِي"(رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ).
وَهَذَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَحْكِي عَنْ أَخِيهِ فَيَقُولُ: "رَأَيْتُ أَخِي عُمَيْرًا قَبْلَ أَنْ يَعْرِضَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَوَارَى، فَقُلْتُ: مَا لَكَ يَا أَخِي؟ قَالَ: أَخَافُ أَنْ يَسْتَصْغِرَنِي رَسُولُ اللَّهِ، فَيَرُدَّنِي وَأَنَا أُحِبُّ الْخُرُوجَ"، وَبِالْفِعْلِ قَدِ "اسْتَصْغَرَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا أَرَادَ الْمَسِيرَ إِلَى بَدْرٍ، فَبَكَى فَأَجَازَهُ، وَكَانَ سَيْفُهُ طَوِيلًا، فَعَقَدَ عَلَيْهِ حَمَائِلَ سَيْفِهِ".
وَكَذَلِكَ تَبْدَأُ الْفَتَاةُ الْمُرَاهِقَةُ السَّوِيَّةُ فِي الشُّعُورِ بِأُنُوثَتِهَا وَالِاسْتِحْيَاءِ مِنَ الرِّجَالِ، وَمُلَازَمَةِ بَيْتِهَا؛ لِذَا وَصَفَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِأَنَّهُ "أَشَدُّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَلَا يَظُنَّنَّ أَحَدٌ -عِبَادَ اللَّهِ- أَنَّ كُلَّ هَذِهِ التَّطَوُّرَاتِ وَالتَّغَيُّرَاتِ تَحْدُثُ بَيْنَ عَشِيَّةٍ وَضُحَاهَا، وَلَا أَنَّهَا تَتَبَدَّلُ فِي سُهُولَةٍ وَيُسْرٍ، وَإِنَّمَا تَتَمَخَّضُ تَمَخُّضًا مِنْ رَحِمِ الْمُعَانَاةِ وَالْمُكَابَدَةِ، كَمَا يَخْرُجُ الْجَنِينُ مِنْ رَحِمِ أُمِّهِ.
فَيُعَانِي الْمُرَاهِقُونَ مِنْ ثَوَرَانِ الْجَسَدِ وَنِيرَانِ الشَّهْوَةِ الَّتِي تَتَّقِدُ فِي أَجْسَادِهِمْ، حَتَّى لَقَدْ قَارَنَهَا عُلَمَاؤُنَا بِالنَّارِ فَقَالُوا: إِنَّ "لَذَّةَ الْوِقَاعِ لَوْ دَامَتْ لَكَانَتْ أَقْوَى لَذَّاتِ الْأَجْسَادِ، كَمَا أَنَّ النَّارَ وَآلَامَهَا أَعْظَمُ آلَامِ الْجَسَدِ"، وَمَا زَالَتْ تِلْكَ الشَّهْوَةُ تَؤُزُّ وَتَدْفَعُ شَابًّا مُرَاهِقًا حَتَّى جَعَلَتْهُ يَقِفُ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيُجَاهِرُ قَائِلًا: "ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا"(صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
وَيُعَانُونَ أَيْضًا مِنَ الصِّرَاعِ الدَّاخِلِيِّ بَيْنَ نَازِعِ التَّسَامِي وَالتَّرَقِّي، وَبَيْنَ جَوَاذِبِ الطِّينِ وَمُتَطَلَّبَاتِ الْجَسَدِ، فَمَرَّةً يَغْلِبُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَرَغَبَاتِهِمْ، وَمَرَّةً يَغْلِبُهُمْ شَيْطَانُهُمْ، فَهُمْ فِي مُنَازَعَةٍ وَمُغَالَبَةٍ.
لِذَا -مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ- يَنْبَغِي لِمَنْ خَوَّلَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- أَمْرَ فَتًى أَوْ فَتَاةٍ يُنَاهِزُونَ الْحُلُمَ أَنْ يُحْسِنَ إِلَيْهِمْ، وَيَتَرَفَّقَ بِهِمْ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَفَهِّمًا لِمَا يَمُرُّونَ بِهِ مِنْ تَحَدِّيَاتٍ، فَإِنَّ "الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
وَانْظُرُوا -أَعَزَّكُمُ اللَّهُ- كَيْفَ تَعَامَلَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَ ذَلِكَ الْفَتَى الشَّابِّ الَّذِي طَلَبَ الْإِذْنَ فِي الزِّنَا، لَقَدْ قَرَّبَهُ وَأَجْلَسَهُ، وَكَفَّ عَنْهُ الصَّحَابَةَ، ثُمَّ خَاطَبَ عَاطِفَتَهُ وَنُخْوَتَهُ فِي رِفْقٍ قَائِلًا: "أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟"، فَقَالَ: لَا، فَقَالَ: "فَكَذَلِكَ النَّاسُ لَا يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ!"، فَسَأَلَهُ الثَّانِيَةَ: "أَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟ "قَالَ: لَا، قَالَ: "وَكَذَلِكَ النَّاسُ لَا يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ، أَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟ "قَالَ: لَا، قَالَ: "فَكَذَلِكَ النَّاسُ لَا يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ، أَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟"، قَالَ: لَا، قَالَ: "فَكَذَلِكَ النَّاسُ لَا يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ، أَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟" قَالَ: لَا، قَالَ: "وَكَذَلِكَ النَّاسُ لَا يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ، فَاكْرَهْ لَهُمْ مَا تَكْرَهُ لِنَفْسِكَ، وَأَحِبَّ لَهُمْ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ"، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُطَهِّرَ قَلْبِي، فَوَضَعَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ"، فَلَمْ يَكُنِ الشَّابُّ بَعْدَ ذَلِكَ يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ. (صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ)، لَقَدْ خَرَجَ الْفَتَى الْمُرَاهِقُ -بِفَضْلِ الرِّفْقِ- بِقَلْبٍ غَيْرِ الَّذِي دَخَلَ بِهِ.
وَلْنُحَصِّنْ قُلُوبَ أَوْلَادِنَا الْمُرَاهِقِينَ بِالْإِيمَانِ وَالْعِبَادَةِ وَالصِّلَةِ بِاللَّهِ، فَهَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ الصَّحَابَةُ مَعَ أَوْلَادِهِمْ؛ يَشْهَدُ بِذَلِكَ جُنْدُبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَيَقُولُ: "كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَنَحْنُ غِلْمَانٌ حَزَاوِرَةٌ -أَيْ: قَارَبْنَا الْبُلُوغَ- فَتَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ نَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ فَازْدَدْنَا بِهِ إِيمَانًا"(رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ)، بَلْ هَذَا رَسُولُنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُرْشِدُنَا قَائِلًا: "مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ..."(صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
ثُمَّ لِنُشْعِرَ الْمُرَاهِقَ بِالِاحْتِرَامِ وَالتَّقْدِيرِ، وَبِأَنَّهُ أَصْبَحَ رَجُلًا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، لَهُ قِيمَتُهُ وَقَدْرُهُ، وَهَذَا مَا كَانَ قُدْوَتُنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَفْعَلُهُ؛ فَقَدْ أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقَدَحٍ، فَشَرِبَ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ هُوَ أَحْدَثُ الْقَوْمِ، وَالْأَشْيَاخُ عَنْ يَسَارِهِ، قَالَ: "يَا غُلَامُ، أَتَأَذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ الْأَشْيَاخَ"، فَقَالَ: "مَا كُنْتُ لِأُوثِرَ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ"، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، فَهَا هُوَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَطْلُبُ إِذْنَهُ، فَلَمَّا لَمْ يَأْذَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ نَزَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى رَغْبَتِهِ، وَقَدَّمَهُ عَلَى أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ.
وَلِكَيْ نَتَرَقَّى بِهِمْ، فَعَلَيْنَا -مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ- أَنْ نُعَلِّقَهُمْ بِمَعَالِي الْأُمُورِ وَأَشْرَافِهَا، وَنُزَهِّدَهُمْ فِي سَفَاسِفِهَا وَتَوَافِهِهَا، وَلْنُعَلِّمْهُمْ كُلَّ نَافِعٍ مُفِيدٍ لِيَنْشَغِلُوا بِهِ عَنِ الِانْسِيَاقِ خَلْفَ شَهَوَاتِهِمْ، وَرَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْفَارُوقِ عُمَرَ؛ إِذْ حَثَّ عَلَى ذَلِكَ قَائِلًا: "عَلِّمُوا أَوْلَادَكُمُ السِّبَاحَةَ وَالرِّمَايَةَ وَالْفُرُوسِيَّةَ"(تَنْبِيهُ الْغَافِلِينَ، لِلسَّمَرْقَنْدِيِّ).
وَبِهَذِهِ الْمُعَامَلَةِ الرَّاقِيَةِ مَعَ الْمُرَاهِقِينَ نَعْبُرُ بِهِمْ تِلْكَ الْفَتْرَةَ الْعَصِيبَةَ دُونَ أَذًى أَوْ ضَرَرٍ يَنْطَبِعُ فِي نُفُوسِهِمْ، بَلْ نَعْبُرُهَا بِهِمْ وَقَدْ تَرَقَّوْا فِي مَدَارِجِ الصَّلَاحِ وَالْفَلَاحِ.
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ؛ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[الْبَقَرَةِ: 281].
عِبَادَ اللَّهِ: لَعَلَّكُمْ تُلَاحِظُونَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُرَبِّينَ يَقْتَرِفُونَ مِنَ الْأَخْطَاءِ فِي تَعَامُلِهِمْ مَعَ الْمُرَاهِقِينَ مَا قَدْ يَتَسَبَّبُ فِي انْحِرَافِهِمْ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ، وَأَوَّلُ ذَلِكَ: تَقْدِيمُ الْقُدْوَةِ السَّيِّئَةِ: فَفِي فَتْرَةِ الْمُرَاهَقَةِ يَنْمُو الْحِسُّ النَّقْدِيُّ، فَيُصْبِحُ الْمُرَاهِقُ حَسَّاسًا جِدًّا لِكُلِّ خَطَأٍ؛ يُرَكِّزُ عَلَيْهِ النَّظَرَ وَيَصِفُهُ بِالْخَلَلِ وَقَدْ يَقْتَدِي بِذَلِكَ الزَّلَلِ؛ لِذَا حَذَّرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْكَذِبِ عَلَى الْأَطْفَالِ وَلَوْ كَانَ فِي أَصْغَرِ الْأَشْيَاءِ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّهُ قَالَ: دَعَتْنِي أُمِّي يَوْمًا وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَاعِدٌ فِي بَيْتِنَا، فَقَالَتْ: هَا تَعَالَ أُعْطِيكَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيَهُ؟" قَالَتْ: أُعْطِيهِ تَمْرًا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِهِ شَيْئًا كُتِبَتْ عَلَيْكِ كِذْبَةً"(حَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
كَذَلِكَ مِنَ الْخَطَأِ -مَعَاشِرَ الْمُرَبِّينَ الْفُضَلَاءِ- أَنْ نُقَرِّعَ وَنُوَبِّخَ وَنُعَيِّرَ الْمُرَاهِقَ إِذَا صَدَرَتْ مِنْهُ هَفْوَةٌ؛ فَإِنَّ هَذَا يُضْعِفُ شَخْصِيَّتَهُ، وَيُفْقِدُهُ الثِّقَةَ فِي نَفْسِهِ، وَقَدْ يَدْفَعُهُ إِلَى التَّمَادِي فِي غَيِّهِ، وَالصَّوَابُ -إِخْوَةَ الْإِسْلَامِ- أَنْ نُوَجِّهَ وَنُعَلِّمَ، فَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ قَالَ عَنِ الْأَمَةِ الزَّانِيَةِ: "إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ، فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا، فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ، وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)؛ أَيْ: لَا يُوَبِّخُهَا وَلَا يَلُومُهَا عَلَى الذَّنْبِ، فَإِنَّ فِلْذَاتِ أَكْبَادِنَا أَوْلَى بِهَذَا وَأَحَقُّ... ثُمَّ انْظُرْ إِلَى تَعَامُلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَ الَّذِي بَالَ فِي الْمَسْجِدِ، وَمَعَ الَّذِي شَمَّتَ عَاطِسًا فِي الصَّلَاةِ، وَمَعَ غَيْرِهِمَا مِنَ الْمُخْطِئِينَ تَرَى السَّمَاحَةَ وَالرِّفْقَ وَالرَّحْمَةَ مُتَجَلِّيًا، وَعَكْسُ ذَلِكَ أَيْضًا خَطَأٌ؛ وَهُوَ إِهْمَالُ الْمُرَاهِقِ وَعَدَمُ تَوْجِيهِهِ، وَتَرْكُهُ فَرِيسَةً لِلْفَضَائِيَّاتِ وَالنَّزَوَاتِ وَالْخَلَوَاتِ وَأَصْدِقَاءِ السُّوءِ، بَلِ التَّوَسُّطُ فِي كُلِّ أَمْرٍ خَيْرٌ.
أَيُّهَا الْأَبُ الْكَرِيمُ: تَعَامَلْ مَعَ ابْنِكَ الْمُرَاهِقِ بِرُقِيٍّ، وَوَجِّهْهُ فِي رِفْقٍ، وَقَدِّرْ مَشَاعِرَهُ وَأَحَاسِيسَهُ، وَكُنْ لَهُ خَيْرَ قُدْوَةٍ وَأَفْضَلَ مُعِينٍ عَلَى طَاعَةِ رَبِّهِ؛ فَإِنْ فَعَلْتَ نَشَأَ الْمُرَاهِقُ سَوِيًّا صَالِحًا، وَنَجَا -بِعَوْنِ اللَّهِ ثُمَّ بِجُهْدِكَ- مِنْ مَخَاطِرِ تِلْكَ الْمَرْحَلَةِ الْفَارِقَةِ؛ مَرْحَلَةِ الْمُرَاهَقَةِ، وَتَكُونُ قَدْ قَدَّمْتَ لِلْأُمَّةِ مُسْلِمًا قَوِيًّا نَاضِجًا يَبْنِي وَلَا يَهْدِمُ، وَتَكُونُ أَيْضًا قَدْ فُزْتَ بِالْأَجْرِ الْعَظِيمِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
التعليقات