عناصر الخطبة
1/مفهوم تعلق المراهق ومعناه2/بعض مظاهر تعلق المراهق 3/خطورة داء التعلق وآثاره على المراهق4/ سبل حماية المراهق وعلاجه من داء التعلق.اقتباس
أَيُّهَا الْمُرَبُّونَ: صَاحِبُوا الْمُرَاهِقِينَ؛ كَيْ يُفْضُوا لَكُمْ بِأَسْرَارِهِمْ، وَيَسْتَشِيرُوكُمْ فِيمَا أَهَمَّهُمْ، فَتَكُونُوا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ سَبَبَ هِدَايَةٍ وَرَشَادٍ... يَا أَيُّهَا الْمُرَاهِقُونَ: إِنَّ لِلْأُمَّةِ فِيكُمْ آمَالًا وَطُمُوحَاتٍ وَأُمْنِيَاتٍ؛ إِنَّهَا تَنْتَظِرُكُمْ لِتَأْخُذُوا بِيَدِهَا وَتَرْفَعُوهَا، وَتَتَقَدَّمُوا بِهَا حَتَّى تَجْعَلُوهَا فِي صَدَارَةِ الْأُمَمِ، فَلَا تَخْذُلُوا أُمَّتَكُمْ...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
فَيَا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: سَعِدَ مَنْ تَعَلَّقَ بِاللَّهِ، وَخَابَ وَخَسِرَ مَنْ تَعَلَّقَ بِسِوَاهُ؛ فَإِنَّ مَنْ تَعَلَّقَ بِهِ -سُبْحَانَهُ- كَفَاهُ وَهَدَاهُ وَوَقَاهُ وَآوَاهُ، وَمَنْ تَعَلَّقَ بِغَيْرِ اللَّهِ -تَعَالَى- خَذَلَهُ وَأَذَلَّهُ وَأَضَلَّهُ وَأَخْزَاهُ! فَالتَّعَلُّقُ بِاللَّهِ سَعَادَةٌ وَفَلَاحٌ، وَالتَّعَلُّقُ بِسِوَاهُ بُؤْسٌ وَضَنْكٌ وَشَقَاءٌ.
وَلِلْأَسَفِ فَإِنَّ أَكْثَرَ مَا يَكُونُ التَّعَلُّقُ بِغَيْرِ اللَّهِ فِي سِنِّ الْمُرَاهَقَةِ؛ حَيْثُ صِغَرُ السِّنِّ، وَسَطْحِيَّةُ الْعَقْلِ، وَضَحَالَةُ الْإِيمَانِ، وَفَوَرَانُ الرَّغَبَاتِ وَالشَّهَوَاتِ! فَيَنْزِعُ بَعْضُ الْمُرَاهِقِينَ قِيَادَهُ مِنَ الرَّحْمَنِ، وَيُسَلِّمُهُ مُخْتَارًا إِلَى الشَّيْطَانِ! فَيَخْرُجُ مِنْ جَنَّةِ الْأُنْسِ بِاللَّهِ إِلَى الْأُنْسِ بِفُلَانٍ مِنَ الْبَشَرِ؛ فَيَتَعَلَّقُ بِزَمِيلِهِ أَوْ بِقَرِيبِهِ أَوْ بِجَارِهِ تَعَلُّقًا لَا يَرْضَاهُ الْجَلِيلُ -عَزَّ وَجَلَّ-، حَتَّى يُسْبِيَ فُؤَادَهُ، وَيَمْلِكَ عَلَيْهِ حَالَهُ، فَسَعَادَتُهُ فِي قُرْبِهِ مِنْهُ، وَتَعَاسَتُهُ فِي بُعْدِهِ عَنْهُ! وَحِينَهَا تَرْتَبِطُ سَعَادَةُ الْمُرَاهِقِ وَطُمَأْنِينَتُهُ بِغَيْرِ اللَّهِ! فَلَا يَسْعَى لِإِرْضَائِهِ -سُبْحَانَهُ-، بَلْ لِإِرْضَاءِ سِوَاهُ!... وَهَذَا هُوَ الشَّرُّ الْوَبِيلُ وَالْخِذْلَانُ الْمُسْتَطِيرُ.
وَلِوُقُوعِ الْمُرَاهِقِ فِي بَرَاثِنِ التَّعَلُّقِ -عِبَادَ اللَّهِ- مَظَاهِرُ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا:
الْإِفْرَاطُ فِي مُلَازَمَةِ فُلَانٍ مِنَ النَّاسِ، وَالْإِفْرَاطُ فِي حُبِّهِ، وَإِذَا سَأَلْتَهُ: لِمَاذَا تَتَقَرَّبُ مِنْهُ وَتُبَالِغُ فِي التَّوَدُّدِ إِلَيْهِ؟! فَرُبَّمَا أَجَابَكَ: "إِنِّي أُحِبُّهُ فِي اللَّهِ"، وَلَأَيْمُ اللَّهِ مَا فِي اللَّهِ أَحَبَّهُ؛ فَإِنَّ الْحُبَّ فِي اللَّهِ طَهَارَةٌ وَنَقَاءٌ، لَا رِجْسَ فِيهِ وَلَا رِيبَةَ؛ فَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَشْتَرِطُ فِي الْمُتَآخِيَيْنِ فِي اللَّهِ أَلَّا يَكُونَ حُبُّهُمَا إِلَّا فِيهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وَحْدَهُ، قَائِلًا: "لَا يَجِدُ أَحَدٌ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ..."(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، نَعَمْ؛ "لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ"، وَالِاسْتِثْنَاءُ بَعْدَ النَّفْيِ هُوَ أَقْوَى دَرَجَاتِ الْحَصْرِ.
وَأَمَّا حُبُّهُ لِصَاحِبِهِ فَهُوَ حُبُّ شَهْوَةٍ وَغَرِيزَةٍ فِي بَعْضِهَا؛ كَحُبِّ قَوْمِ لُوطٍ لِأَصْحَابِهِمْ! (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ)[الْأَعْرَافِ:80-81].
عِبَادَ اللَّهِ: وَمِنَ الْمُرَاهِقِينَ مَنْ يَتَعَلَّقُ بِأَحَدِهِمْ لَا لِشَهْوَةٍ؛ بَلْ لِانْبِهَارٍ بِقُدُرَاتِهِ وَبِسَطْوَتِهِ، كَذَلِكَ الَّذِي حَكَى عَنْهُ ابْنُ الْقَيِّمِ قَائِلًا: "وَيُرْوَى أَنَّ بَعْضَ رِجَالِ النَّاصِرِ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ، فَجَعَلَ ابْنُهُ يَقُولُ: قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَالَ: النَّاصِرُ مَوْلَايَ! فَأَعَادَ عَلَيْهِ الْقَوْلَ، فَأَعَادَ مِثْلَ ذَلِكَ! ثُمَّ أَصَابَتْهُ غَشْيَةٌ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: النَّاصِرُ مَوْلَايَ، وَكَانَ هَذَا دَأْبَهُ، كُلَّمَا قِيلَ لَهُ: قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ: النَّاصِرُ مَوْلَايَ، ثُمَّ قَالَ لِابْنِهِ: يَا فُلَانُ، النَّاصِرُ إِنَّمَا يَعْرِفُكَ بِسَيْفِكَ، وَالْقَتْلَ الْقَتْلَ، ثُمَّ مَاتَ".
وَمِنْ مَظَاهِرِ التَّعَلُّقِ: أَنْ يُطِيلَ النَّظَرَ إِلَى فَتَاةٍ بِعَيْنِهَا، حَتَّى تَغْزُوَ أَحْلَامَهُ، وَتَكُونَ هِيَ هَمَّهُ فِي يَقْظَتِهِ وَمَنَامِهِ، وَيَعْتَقِدَ أَلَّا فَتَاةَ فِي الدُّنْيَا غَيْرَهَا، وَلَا أُخْرَى تَحُلُّ مَحَلَّهَا! وَتَسْتَمِرُّ بِهِ النَّظَرَاتُ وَالْخَطَرَاتُ حَتَّى تُورِدَهُ الْمَوَارِدَ.
كُلُّ الْحَوَادِثِ مَبْدَؤُهَا مِنَ النَّظَرِ *** وَمُعْظَمُ النَّارِ مِنْ مُسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ
كَمْ نَظْرَةٍ فَتَكَتْ فِي قَلْبِ صَاحِبِهَا *** فَتْكَ السِّهَامِ بِلَا قَوْسٍ وَلَا وَتَرِ
لِذَلِكَ كُلِّهِ -مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ- فَإِنَّ دَاءَ التَّعَلُّقِ خَطِيرٌ عَلَى جَمِيعِ الْبَشَرِ، لَكِنَّهُ عَلَى الْمُرَاهِقِينَ أَخْطَرُ؛ فَإِنْ يُعْطَبِ الْعُودَ الْأَخْضَرَ الَّذِي يُرْجَى صَلَاحُهُ فَيَعْوَجُّ قَبْلَ فَلَاحِهِ، وَهَذِهِ بَعْضُ الْآفَاتِ الَّتِي تُصِيبُ الْمُرَاهِقَ مِنْ جَرَّاءِ تَعَلُّقِهِ بِغَيْرِ رَبِّهِ:
فَأَوَّلُهَا: أَنْ يَعِيشَ فِي سَكْرَةٍ وَيَمُوتَ فِي حَسْرَةٍ: فَيُفْسِدُ عَلَيْهِ التَّعَلُّقُ قَلْبَهُ وَعَقْلَهُ، يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ: "فَالتَّعَلُّقُ بِالصُّوَرِ يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْلِ، وَعَمَهَ الْبَصِيرَةِ، وَسُكْرَ الْقَلْبِ، كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:
سَكْرَانُ سُكْرَ هَوًى وَسُكْرَ مُدَامَةٍ *** وَمَتَى إِفَاقَةُ مَنْ بِهِ سُكْرَانِ".
وَكَمَا قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى- عَنْ قَوْمِ لُوطٍ: (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ)[الْحِجْرِ:72].
وَرَوَى عُلَمَاؤُنَا "أَنَّ رَجُلًا عَشِقَ شَخْصًا فَاشْتَدَّ كَلَفُهُ بِهِ، وَتَمَكَّنَ حُبُّهُ مِنْ قَلْبِهِ، حَتَّى وَقَعَ أَلَمٌ بِهِ وَلَزِمَ الْفِرَاشَ بِسَبَبِهِ، وَتَمَنَّعَ ذَلِكَ الشَّخْصُ عَلَيْهِ، وَاشْتَدَّ نِفَارُهُ عَنْهُ، فَلَمْ تَزَلِ الْوَسَائِطُ يَمْشُونَ بَيْنَهُمَا حَتَّى وَعَدَهُ بِأَنْ يَعُودَهُ، فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ النَّاسُ، فَفَرِحَ وَاشْتَدَّ سُرُورُهُ وَانْجَلَى غَمُّهُ، وَجَعَلَ يَنْتَظِرُ الْمِيعَادَ الَّذِي ضُرِبَ لَهُ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَهُ السَّاعِي بَيْنَهُمَا، فَقَالَ: إِنَّهُ وَصَلَ مَعِي إِلَى بَعْضِ الطَّرِيقِ وَرَجَعَ، وَرَغِبْتُ إِلَيْهِ وَكَلَمْتُهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ ذَكَرَنِي وَصَرَّحَ بِي، وَلَا أَدْخُلُ مَدَاخِلَ الرِّيبَةِ، وَلَا أُعَرِّضُ نَفْسِي لِمَوَاقِعِ التُّهَمِ، فَعَاوَدْتُهُ فَأَبَى وَانْصَرَفَ، فَلَمَّا سَمِعَ الْبَائِسُ أُسْقِطَ فِي يَدِهِ، وَعَادَ إِلَى أَشَدَّ مِمَّا كَانَ بِهِ، وَبَدَتْ عَلَيْهِ عَلَائِمُ، فَجَعَلَ يَقُولُ فِي تِلْكَ الْحَالِ:
يَا سَلْمُ يَا رَاحَةَ الْعَلِيلِ *** وَيَا شِفَا الْمُدْنِفِ النَّحِيلِ
رِضَاكَ أَشْهَى إِلَى فُؤَادِي *** مِنْ رَحْمَةِ الْخَالِقِ الْجَلِيلِ
فَقُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ اتَّقِ اللَّهَ، قَالَ: قَدْ كَانَ، فَقُمْتُ عَنْهُ، فَمَا جَاوَزْتُ بَابَ دَارِهِ حَتَّى سَمِعْتُ صَيْحَةَ الْمَوْتِ، فَعِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ، وَشُؤْمِ الْخَاتِمَةِ".
وَثَانِيهَا: انْتِكَاسُ الْفِطْرَةِ: حَتَّى يَصِيرَ الْقَبِيحُ عِنْدَهُ حَسَنًا، وَالْحَسَنُ عِنْدَهُ قَبِيحًا، كَمَا وَقَعَ لِقَوْمِ لُوطٍ، الَّذِينَ انْسَلَخُوا مِنَ الْفِطْرَةِ السَّوِيَّةِ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِمُ الشَّبَقُ وَالْبَهِيمِيَّةُ! (وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ * قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ)[هُودٍ:78-79]، وَفِي "إِغَاثَةِ اللَّهْفَانِ": "وَقَدْ آلَ الْأَمْرُ بِكَثِيرٍ مِنْ هَؤُلَاءِ إِلَى تَرْجِيحِ وَطْءِ الْمُرْدَانِ عَلَى نِكَاحِ النِّسْوَانِ، وَقَالُوا: هُوَ أَسْلَمُ مِنَ الْحَبَلِ وَالْوِلَادَةِ وَمُؤْنَةِ النِّكَاحِ وَالشَّكْوَى إِلَى الْقَاضِي وَفَرْضِ النَّفَقَةِ وَالْحَبْسِ عَلَى الْحُقُوقِ!!".
ثُمَّ لَا تَنْتَهِي عَوَاقِبُ التَّعَلُّقِ الْوَخِيمَةُ عَلَى الْمُرَاهِقِ، فَإِنَّهَا تَقْطَعُهُ عَنْ دِرَاسَتِهِ، وَتَتَسَبَّبُ فِي فَشَلِهِ وَخَيْبَتِهِ، وَتَأَخُّرِهِ فِي دُنْيَاهُ ثُمَّ فِي آخِرَتِهِ.
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ؛ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[الْبَقَرَةِ: 281].
عِبَادَ اللَّهِ: وَكَيْفَ نُعَالِجُ مَنِ ابْتُلِيَ مِنَ الْمُرَاهِقِينَ بِدَاءِ التَّعَلُّقِ اللَّعِينِ؟ وَنُجِيبُ: إِذَا وَقَعَ الدَّاءُ وَحَلَّ الْبَلَاءُ، فَهَذِهِ بَعْضُ جُرُعَاتِ الدَّوَاءِ:
وَأَوَّلُهَا: الِالْتِجَاءُ إِلَى اللَّهِ لِيَطْرُدَ الدَّاءَ: فَإِنَّهُ (لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ)[التَّوْبَةِ:118]، وَإِنَّهُ -وَحْدَهُ- الْقَادِرُ عَلَى جَلْبِ النَّفْعِ وَدَفْعِ الضُّرِّ، لَا شَرِيكَ لَهُ، وَمَا سِوَاهُ إِنَّمَا هِيَ مُجَرَّدُ أَسْبَابٍ، لِذَا فَقَدَ نَصَحَنَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ قَائِلًا: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ)[الذَّارِيَاتِ:50].
وَمِنْهَا: مِلْءُ قَلْبِ الْمُرَاهِقِ بِحُبِّ اللَّهِ -تَعَالَى-؛ لِيَطْرُدَ كُلَّ حُبٍّ أَوْ تَعَلُّقٍ بِسِوَاهُ -سُبْحَانَهُ-، يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ: "وَهَلْ فِي الْوُجُودِ مَحَبَّةُ حَقٍّ غَيْرُ بَاطِلَةٍ إِلَّا مَحَبَّتَهُ -سُبْحَانَهُ-؟ فَإِنَّ كُلَّ مَحَبَّةٍ مُتَعَلِّقَةٍ بِغَيْرِهِ فَبَاطِلَةٌ زَائِلَةٌ بِبُطْلَانِ مُتَعَلَّقِهَا، وَأَمَّا مَحَبَّتُهُ -سُبْحَانَهُ- فَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَزُولُ وَلَا يَبْطُلُ"، فَإِنِ امْتَلَأَ الْقَلْبُ بِمَحَبَّةِ اللَّهِ طَرَدَ مِنْهُ كُلَّ مَا عَدَاهُ، فَإِنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ التَّعَلُّقُ الزَّائِلُ إِلَّا بِقَلْبٍ فَارِغٍ:
أَتَأَنِي هَوَاهَا قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ الْهَوَى *** فَصَادَفَ قَلْبًا خَالِيًا فَتَمَكَّنَا
وَمِنْهَا: تَعْلِيمُ الْمُرَاهِقِ أَنْ يَلْقَى مَنْ يُغْوِيهِ بِوَجْهٍ عَابِسٍ: تِلْكَ نَصِيحَةُ الْعَارِفِينَ الْمُحَقِّقِينَ؛ فَقَدْ كَانُوا يَقُولُونَ: "مَتَى كَشَفْتَ لِلْمَرْأَةِ أَوِ الصَّبِيِّ عَنْ بَيَاضِ أَسْنَانِكَ كَشَفَا لَكَ عَمَّا هُنَالِكَ، وَمَتَى لَقِيتَهُمَا بِوَجْهٍ عَابِسٍ وُقِيتَ شَرَّهُمَا".
وَمِنْهَا: إِدْمَانُ ذِكْرِ اللَّهِ: فَهُوَ الْحِصْنُ الَّذِي لَا يَخِيبُ مَنْ قَصَدَهُ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "وَآمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللَّهَ؛ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ الْعَدُوُّ فِي أَثَرِهِ سِرَاعًا، حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ؛ كَذَلِكَ الْعَبْدُ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِلَّا بِذِكْرِ اللَّهِ"(صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ)، فَمَا دَامَ مُقِيمًا عَلَى ذِكْرِ رَبِّهِ فَهُوَ فِي مَعِيَّةِ الْحَفِيظِ الَّذِي لَنْ يُسَلِّمَهُ إِلَى شَيْطَانِهِ.
وَمِنْهَا: الْحَيْلُولَةُ بَيْنَ الْمُرَاهِقِ وَبَيْنَ مَنْ تَعَلَّقَ بِهِ، وَقَطْعُ كُلِّ الْعَلَائِقِ بَيْنَهُمَا؛ مِنْ أَمَاكِنَ تَجْمَعُهُمَا، وَمِنْ وَسَائِلِ التَّوَاصُلِ بِمُخْتَلَفِ أَنْوَاعِهَا وَأَشْكَالِهَا... فَإِنَّهُ لَنْ يَنْجُوَ إِلَّا بِذَلِكَ.
خِتَامًا -أَيُّهَا الْآبَاءُ- لَا تَرْفَعُوا عَيْنَ الرَّقَابَةِ وَلَا سَوْطَ التَّأْدِيبِ عَنْ أَوْلَادِكُمْ، وَتَذَكَّرُوا أَمْرَ نَبِيِّكُمْ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "عَلِّقُوا السَّوْطَ حَيْثُ يَرَاهُ أَهْلُ الْبَيْتِ، فَإِنَّهُ لَهُمْ أَدَبٌ"(حَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ)، وَوَازِنُوا بَيْنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ.
وَيَا أَيُّهَا الْمُرَبُّونَ: صَاحِبُوا الْمُرَاهِقِينَ؛ كَيْ يُفْضُوا لَكُمْ بِأَسْرَارِهِمْ، وَيَسْتَشِيرُوكُمْ فِيمَا أَهَمَّهُمْ، فَتَكُونُوا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ سَبَبَ هِدَايَةٍ وَرَشَادٍ.
وَيَا أَيُّهَا الْمُرَاهِقُونَ: إِنَّ لِلْأُمَّةِ فِيكُمْ آمَالًا وَطُمُوحَاتٍ وَأُمْنِيَاتٍ؛ إِنَّهَا تَنْتَظِرُكُمْ لِتَأْخُذُوا بِيَدِهَا وَتَرْفَعُوهَا، وَتَتَقَدَّمُوا بِهَا حَتَّى تَجْعَلُوهَا فِي صَدَارَةِ الْأُمَمِ، فَلَا تَخْذُلُوا أُمَّتَكُمْ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
التعليقات