عناصر الخطبة
1/طريق المعصية والإثم طريق موحش 2/التحذير من الاغترار بكثرة الساقطين 3/الكثرة لا تدل على الحق 4/من الآثار السيئة لاتباع الكثرةاقتباس
"كُلُّ النَّاسِ يَفْعلُونَ هذا" لا يَكادُ اِمْرُؤٌ يَنْجُو مِنْ شَائِبَةِ تِلْكَ الحُجَةِ، ولا يَكادُ اِمْرُؤٌ يَسْلَمُ مِن العَمَلِ بِها؛ فإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَقْلِها بِلِسانِ مَقالِهِ، تَمَثَّلَها بِلِسانِ حَالِه، يَهُونُ على بَعْضِ النَّاسِ مُواقَعَةُ ذَنْبٍ، حِيْنَ يَرَى كَثْرَةَ الوَاقِعِيْنَ فيهِ، وَيَغْضِيْ بَعْضُ الصُلحَاءِ عَنْ إِنْكارِ مُنْكَرٍ...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].
أيها المسلمون: كُلُّ طَرِيْقٍ لَهُ قَاصِدُوهُ، وكُلُّ مَسْلَكٍ لَهُ سالِكُوه، وإِذَا خَلا طَرِيْقٌ مِنْ سَالِكِيْهِ كَثُرَتِ المَخاوِفُ فيه، والنَّاسُ يُتَجَاسَرُونَ في طُرُقَاتِهِم، ويُؤَمِنُ بَعْضُهُم بعضَاً في تَقَلُّباتِهِم، فَالنَّاسُ للنَّاسِ أَشْياعٌ وأَتْباعُ، ومَنْ انْفَرَدَ في طَرِيْقٍ اسْتَوْحَشَ فيهِ، وفي الحِدِيْثِ: "والثَّلاثةُ رَكْبٌ".
كُلُّ طَرِيْقٍ في الحَياةِ تَزُولُ الوَحْشَةُ مِنُه إِذا كَثُرَ النَّاسُ فيهِ، إِلا طَرِيْقاً واحداً سَيَظَلُّ مُوحِشاً ولَو سَلَكَهُ أَهْلُ الأَرْضِ كُلُهُم جَمِيْعاً، طَرِيْقَ الإِثْمِ والسُّوءِ والمُنْكَر، طَرَيْقَ الفُحْشِ والمَعْصِيَةِ والحَرامِ، سَيَظَلُّ مُوْحِشاً مُفْزِعاً مَخُوفاً، لا أَمانَ ولا طُمأَنِيْنَةَ فِيْهِ، مُنْتَاهُ إِلى بُؤْسٍ، وعاقِبَتُهُ إِلى شَقاء.
يَغْتَرُّ المرءُ حِيْنَ يَرَى كَثْرَةَ المُفْتُونِيْنَ في دَرْبِ الحَرامِ، فَيَتَجَرأُ على اللحَاقِ بِهِم، يَظُنُّ أَنَّ الكَثْرَةَ دَلِيْلٌ على سَلامَةِ الطَرِيْقِ، ويَظُنُّ أَنَّ المُنْكَرَ يَهُونُ أَمْرُهُ حِيْنَ يَشِيْعُ في كُلِّ مُجْتَمَعٍ وفَرِيْق، وذَاكَ ظَنُّ الجَاهِليْن.
إِنَّ كَثْرَةَ المُتَهافِتِيْنَ على الحَرامِ لَنْ يُصَيِّرَ الحَرامَ حلالاً، ولنْ يُصَيِّرَ الباطِلَ حَقاً، ولَنْ يَقْلِبَ المُنْكَرَ مَعرُوفاً، وهَلْ اجْتِماعُ النَّاسِ في مَكانٍ خَطِيْرٍ سَيُزِيْلُ الخَطَرَ عَنْه؟! وهَلْ ازْدِحامُهُم في طَرِيْقٍ خاطِئٍ سَيَقْلِبُ الطَرِيْقَ إِلى الجِهَةِ التِيْ يَطْلُبُوها؟!.
الحَقُّ يُعْرَفُ بِدَلائِلِهِ وَعَلامَاتِهِ، ويُهْتَدى إِليهِ بِشَواهِدِهِ وبَيِّناتِه، وأَما الكَثْرَةُ فَإِنَّها لا تَكُونُ بِمُفْرَدِها دَلِيلاً على بَيانِ الحَقِّ، ولا تَكُونُ بِمُفْرَدِها دَلِيْلاً على صَوابِ وِجْهَةِ أَصْحابِها، ضَلَّ أَقْوَامُ انْحَرَفُوا عَن السَّبِيلِ، غَرَّتْهُم كَثْرَةُ المُنْحَرِفِيْنَ عَنْهُ، فَما أَغْنَتْ عَنْهُمُ الكَثْرَةُ شَيئاً؛ (وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ)[الأعراف: 48]، تَفَرَّقَتْ تِلْكَ الجُمُوعُ الهائِمَةُ، وانْهَزَمَتْ تِلْكَ الجُمُوعُ العَائِمَةُ، وأَقْبَلَ أَهْلُ الحَقِّ يَومَ الحِسابِ زُرافاتٍ ووحْدَانا؛ (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)[سبأ: 13]، عَنْ ابنِ عَبَّاسٍ -رضِي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَرَأَيْتُ النبيَّ وَمَعَهُ الرُّهَيْطُ، وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ والرَّجُلانِ، والنَّبِيَّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ"(مُتَّفقٌ عليه).
قِلَّةٌ هُمْ أُهْلُ الحَقِّ، قِلَّةٌ هُمْ أَتْباعُ المُرْسَلِيْن؛ (وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ)[هود: 40]، ذَاكَ نُوحٌ -عليه السلامُ-، وفي كُلِّ زَمانٍ لَمْ يَكُنْ أَهْلُ الحَقِّ هُمُ الأَكْثَرُون، في القُرآنِ قَالَ اللهُ: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ)[الأنعام: 116]، وَمِنْ مَواعِظِ الفُضَيْلِ -رحمه الله-: "عَلَيْكَ بِطَرِيقِ الْحَقِّ وَلَا تَسْتَوْحِشْ لِقِلَّةِ السَّالِكِينَ، وَإِيَّاكَ وَطَرِيقَ الْبَاطِلِ وَلَا تَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ الْهَالِكِينَ".
فِتْنَةٌ تَعْصِفُ بالمرءِ عَصِيْبَةٌ، حِيْنَ يَرَى مُنْكَراً عَمَّ في مُجْتَمَعِهِ، أَوَ سُلُوكاً مَشِيْناً شَاعَ بَيْنَ أَقْرانِهِ، فَيَهُونُ عَليْهِ ذَاكَ المُنْكَرُ، ويَقْتَرِبُ مِنْهُ شَيئِاً فَشَيئاً، حَتَى يَكُونَ مِنْ أَهْلِهِ، ومِنَ المُنْغَمِسِيْنَ فيه، "كُلُّ النَّاسِ يَفْعلُونَ هذا"، عِبارَةٌ يَلْجَأُ إِليها مَنْ فُتِنَ في دِيْنِهِ، على حِيْنِ ضَعْفِ إِيْمانٍ، وقِلَّةٍ عِلْمٍ، ووَهَنٍ عَزِيْمَتِهِ، وغَلَبَةِ هَواه، "كُلُّ النَّاسِ يَفْعلُونَ هذا" حُجَّةٌ يُقابَلُ بِها النَّاصِحُ، وعِبارَةٌ يُواجَهُ بِها مَنْ يُنْكِرُ المُنْكَرَ أَو يَلُوم.
وهَلْ فِعْلُ النَّاسِ مَصْدَرُ تَشْرِيْعٍ، وهْلُ كَثْرَةُ المُخالِفِيْنَ حُجَةٌ للمرءِ يُومَ الحِسَابِ؟! هَلْ سَيُحاسَبُ المرءُ عَنْ جِنايَةِ غَيرِهِ، وهَلْ سَيَحْمِلُ النَّاسُ وِزْراً عَمَّنْ اقْتَرَفَهُ وجَناه؟! (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا)[الإسراء: 13 - 14].
"كُلُّ النَّاسِ يَفْعلُونَ هذا"، إِنَّ الجُمُوعَ التِي تَتَهافَتُ على مَواطِنِ الفِتَنِ، ويُقَلِّدُ بَعْضُهُم بَعْضاً في الأَفْعالِ والأَعْمالِ المَشِيْنَةِ، كُلُّهُم سَيَفْتَرِقُونَ يَوماً؛ (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا)[مريم: 95]، قَالَ ابْنُ بازٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: "الوَاجِبُ على كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ لا يَعْتَمِدَ على العَادَاتِ، بَلْ يجِبُ أَنْ يَعْرِضَها على الشَّرْعِ المُطَهَّرِ، فَما أَقَرَّهُ مِنْها جَازَ فِعْلُهُ، وما لا، فَلا، ولَيْسَ اعْتِيادُ النَّاسِ للشَّيءِ دَلِيْلاً على حِلِّهِ".
"كُلُّ النَّاسِ يَفْعلُونَ هذا" مَا أَشْبَهَهَا بِعِبارَةٍ تُوارَثَتْها الأُمَمُ الغَابِرَةُ المُكَذِّبَةُ للمُرْسَلِيْنِ: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ)[الزخرف: 22]، قَالَ ابنُ عُثَيْمِينٍ -رحمه الله-: "وَالذِيْ يَنْبَغِيْ لِلمُسْلِمِ أَلا يَكُوْنَ إِمَّعَةً يَتْبَعُ كُلَّ نَاعِقٍ، بَلْ يَنْبَغِيْ أَنْ تَكَوِّنَ شَخْصِيَّتُهُ بِمُقْتَضَى شَرِيْعَةِ اللهِ -تَعَالى-؛ حَتَّى يَكُوْنَ مَتْبُوْعاً لا تَابِعاً، وحَتَّى يَكُوْنَ أُسْوَةً لا مُتَأَسِياً".
"كُلُّ النَّاسِ يَفْعلُونَ هذا" مَا سَرَتْ عَدْوى العَادَاتِ المَقِيْتَةِ في المُجْتَمعاتِ، وَمَا اتَّسَعَتْ طُرُقُ المُنْحَدَراتِ والتَّحُوُّلاتِ والتَنازُلاتِ عَنِ بَعْضِ القِيَمِ، إِلا بِسَبَبِ الخُنُوعِ والانْخِداعِ بِمثْلِ هذهِ العِبارَات، "كُلُّ النَّاسِ يَفْعلُونَ هذا" مَنْهَجٌ يَتَخَبَّطُ فيهِ مَنْ قَلَّ إِدْراكُهُ، وغَلَبَ جَهْلُهُ، ومَالَ بِهِ هَواهُ.
"كُلُّ النَّاسِ يَفْعلُونَ هذا"، شَابٌ يَقْتَحِمُ بِها مَوْجَةَ المُغْرِيْاتِ، ويَخُوضُ بِها لُجَجَ الشَّهَوات، ويتَخَلَى مُنْخَدِعاً بِها عَنْ بَعْضِ الثَوابِتِ، ويَتَساهَلُ في بَعْضِ الواجِبات، "كُلُّ النَّاسِ يَفْعلُونَ هذا" فَتاةٌ تَنازَلَتْ عَنْ لِباسِها المُحْتَشِمِ، وتَخَلَّتْ عَنْ حِجابها الضَّافِيْ، وتَساهَلَتْ في ارْتِيادِ مَواطِنِ الفِتَن، في الأَسْواقِ ومَيادِيْنِ العَمَلِ، والمَطَاعِمِ والكَافِيْهات.
"كُلُّ النَّاسِ يَفْعلُونَ هذا" أَرْهَقَتْ عائِلٌ وأَقَضَّتْ مَضْجَعُه، وأَلْحَقَتْ دِيْوناً وضَاعَفَتْ آلامَها، سَيْراً خَلْفَ خُطَى النَّاسِ في الأَسْفارِ وفي الحَفَلاتِ، وفي تَتَبُّعِ المَوْضاتِ، وفي المباهاةِ في المُناسَبات، "كُلُّ النَّاسِ يَفْعلُونَ هذا" ما أَفْسَدَها مِنْ قَاعِدَةٍ، وما أَضَلَّها مِنْ عِبارَة.
طُوبَى لِمَنْ تَفَكَّرَ فأَفاق، وتَنَبَّهَ فتَدارَك، وأَقامَ على دَرْبِ الصَّواب، فَلَمْ يَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ التَّائِهِيْن، ولَمْ يَنْجَرِفِ خَلْفَ جُمُوعِ المَخْدُوعِيْن، سَلامٌ عليهِ في الفائِزِيْن؛ (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ)[الصافات: 50 - 57].
أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأَشْهَدُ أَن لا إِله إلا اللهُ ولي الصالحين، وأَشهدُ أَن محمداً عبدهُ ورسولُهُ النبي الأَمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آلِهِ وأَصحابِه أجمعين.
أَما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- لعلكم ترحمون.
أَيُّهَا المُسْلِمُوْن: "كُلُّ النَّاسِ يَفْعلُونَ هذا" لا يَكادُ اِمْرُؤٌ يَنْجُو مِنْ شَائِبَةِ تِلْكَ الحُجَةِ، ولا يَكادُ اِمْرُؤٌ يَسْلَمُ مِن العَمَلِ بِها؛ فإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَقْلِها بِلِسانِ مَقالِهِ، تَمَثَّلَها بِلِسانِ حَالِه، يَهُونُ على بَعْضِ النَّاسِ مُواقَعَةُ ذَنْبٍ، حِيْنَ يَرَى كَثْرَةَ الوَاقِعِيْنَ فيهِ، وَيَغْضِيْ بَعْضُ الصُلحَاءِ عَنْ إِنْكارِ مُنْكَرٍ، حِيْنَ يَرَى مِنْ كَثْرَةِ المُتَّصِفِيْنَ بِه، أَوْهَنَتْ الكَثْرَةُ عَزِيْمَةَ ثَباتِهِم، وأَضْعَفَتْ جَذْوَةَ غَيْرَتِهِم، وما ذَاكَ بِهَدْيٍ لِمَنْ عَرَفَ اللهَ وعَرَفَ دِيْنَه، كَمْ خُولِفَتْ لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ سُنَّةٍ، وكَمْ تُرِكَ لَهُ مِنْ أَمْرٍ، وكَمْ شاعَ في الأُمَةِ مِنْ مُنكَرٍ، كَانَتْ مُسايَرَةُ النَّاسِ وتَقْلِيْدُهُم، سَبَبٌ في قَبُولِ ذلِك.
لَقْدَ قَالَ أَمَرَ اللهُ عِبادَهُ باتِّباعِ كِتابِهِ، وأَمَرَهُم بالاقْتِداءِ بِسُنَّةِ نَبِيِّهِ -صلى الله عليه وسلم-، وأَخْبَرَهُم أَنَّ ذاكَ هُوَ سَبِيْلُ النَجاةِ يَومَ القِيامَةِ: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[الأحزاب: 21]، فَرَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- هُوَ الإِمَامُ المَتْبُوعُ، وهُوَ النَّبِيُّ المَعْصُومُ، وهُوَ الرَّسُولُ المُطَاعُ، وما عداهُ مِنَ النَّاسِ فَلا هَدِيٌ ولا رَشَدُ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَةِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَدْ رَغِبَ عَنْ أَكْمَلِ هَدِيٍ، ومَنْ اتَبَعَ غَيْرَهُ طَرِيْقَتِهِ فَقْد اتَّبَعَ مَنْ تَخَبَّطَ في هَواهُ؛ (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)[النور: 54].
"كُلُّ النَّاسِ يَفْعلُونَ هذا" لَمْ تَزَلْ تِلْكَ العِبارَةُ مُسْتَنَداً لأَفْعالِ أَهْلِ الهَوى، حَتَى تَجاوَزُوا أَقْصَى الحُدودِ، وتَخَطَّوا أَخْطَرَ العَقَباتِ، تَشَبَّهُوا بالكَافِرِيْنَ والكَافِرَاتِ، وتَبِعُوهُم في كَثِيْرٍ مِنَ الأَفْعَالِ، والأَقْوالِ، والتَقَالِيْدِ، والأَعيادِ، والاحِتفالاتِ، والأَلِبِسَةِ، والمَوْضاتِ، زَهِدُوا بالاقْتِداءِ بِأَكْرَمِ قُدْوَةِ، ورَغِبُوا عَنْ التَمَسُّكِ بأَشْرَفِ شَرِيْعَةٍ، فَابْتَلاهُمُ اللهُ أَنْ جَعَلَهُ أَذْناباً يَتَّبِعُونَ كُلَّ سَافِلٍ، ويُعْجَبُونَ بِعَمَلِ كُلِّ لَقِيْط، ومَنْ تَأَمَلَ قَولَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَدْرَكَ ذَلِك: "لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ -يَعْنِي اليَهُودَ والنَصَارَى- شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ"(متفق عليه).
اللهُم اهدِ قُلُوبَنا للإِيْمان، واشْرَحْ صُدورنا للإِسْلام، وثَبِّتْ قُلُوبنا على الدِيْن.
التعليقات