لا تقدم ولا عمران إلا بالإيمان

صالح بن عبد الله بن حميد

2025-04-26 - 1446/10/28
عناصر الخطبة
1/الارتباط الوثيق بين الإيمان والعبادة وعمارة الأرض 2/أمثلة لأمم طغت واستكبرت فحان هلاكها 3/التقدم المادي دون إيمان هباء لا يساوي شيئا 4/ارتباط الحضارة والعمران بمكانة الإنسان

اقتباس

الصلاح لا يكون إلا بالإيمان الصحيح، فهو الذي يطبع النفوس على الصدق والإخلاص والأمانة، والعفاف، ومحاسبة النفس، وضبط نوازعها، وإيثار الحق، وسعة النظر، وعلو الهمة، والكرم والتضحية والتواضع، والاستقامة، والقناعة، والسمع والطاعة، والتزام النظام...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله أجزَل العطاءَ لمن شاء بفضله، ومنَع مَنْ شاء بحكمته وعدله، لا ينازعه ذو عقل بعقله، ولا يسأله مخلوقٌ عن فعله؛ (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)[الْأَنْبِيَاءِ: 23]، أحمده -سبحانه- وأشكره، كما حَمِدَ نفسَه، وكما حمده الحامدون، من خلقه، مَنْ اهتدى بهديه ما ضلَ، ومَنْ لَزِمَ تقواه عَزَّ وما ذَلَّ، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، علم فغفر، واطلع فستر، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، اصطفاه ربه واجتباه، وأكرمه وهداه، صلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك عليه، ما هبت النسائم، وما ناحت على الأيك الحمائم، وعلى أهله الطيبين الأطهار، وأصحابه السادة الأخيار، من المهاجرين والأنصار، والتابعين، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ ما تعاقب الليل والنهار.

 

أما بعدُ: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله -رحمكم الله-، طهروا قلوبكم قبل أبدانكم، وألسنتكم قبل أيديكم، عاملوا الناس بما ترون، لا بما تسمعون، واسمعوا من إخوانكم قبل أن تسمعوا عنهم، ظنوا بإخوانكم خيرًا، واتقوا شرَّ ظنون أنفسكم، ومن أدب الفراق دفن الأسرار، ومن أغلق دونكم بابه فلا تطرقوه، واكسبوا إخوانكم بصدقكم، لا بتصنعكم، وكل ساق سيسقى بما سقى؛ (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا)[الْإِسْرَاءِ: 53].

 

معاشرَ المسلمينَ: الإيمان والعبادة وعمارة الأرض وإصلاحها أركان متلازمة؛ (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)[هُودٍ: 61]، والمسلم يقوم بالإعمار قُربةً لله، ونفعًا لنفسه ولعباده، فيستثمر في كل ما ينفع العباد والبلاد، الإيمان مقرون بالعمل الصالح؛ (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، والقراءة مقرونة باسم الله؛ (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ)[الْعَلَقِ: 1]، والعلم مربوط بخشية الله؛ (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)[فَاطِرٍ: 28]، الإيمان هو قائد العقل، حتى لا يطغى العقل فيعبد نفسه، والإيمان هو الضابط للعِلْم، حتى لا تؤدِّي سلبياته إلى اضطراب تنهار معه البشريَّة.

 

أيها المسلمون: القرآن الكريم تكلَّم عن الأمم السابقة، وما وصلت إليه من القوة والبناء والإعمار، ثم بيَّن ما كان من أسباب هلاكها وفنائها، من أجل أن نعرف سُنَّتَه -سبحانه-، فقد أخبر عن عظمة ما وصَل إليه قومُ عاد، فقال -جل وعلا-: (إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا في الْبِلَادِ)[الْفَجْرِ: 7-8]؛ ممَّا يدلُّ على عظمتها وجمالها وتقدمها، ولكنه في مقام آخر قال -جل وعلا-: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا في الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ)[فُصِّلَتْ: 15]، غرتهم قوتهم، وكذبوا رسل الله، وتنكروا لدعوة الإيمان؛ استكبارًا وجحودًا، ومن أعرض عن ذكر الله وكذب بآياته يبقى مرتكسًا في الظلمات مهما أوتي من العِلْم والقوى؛ (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ في الظُّلُمَاتِ)[الْأَنْعَامِ: 39]، وقد خاطَب اللهُ نبيَّه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ)[إِبْرَاهِيمَ: 1]، وقال -جل وعلا-: (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)[الْحَدِيدِ: 9]، فالقوة والعزة بالإيمان والتقوى، والانتصار والبقاء بتعظيم شعائر الله، والعلوم مهما كانت قوتها، والصناعات مهما بلغت مخترعاتها وتقنياتها فإنَّها لا تجلب حياة سعيدة، ولا طمأنينة منشودة؛ (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ)[الْبَقَرَةِ: 221]، وهذا في ديننا ليس ذمًّا للعلوم واكتشافاتها، ولا للصناعات وأدواتها، ولا للمخترعات وتطويرها، ولا تنقصا من مكانتها وقيمتها، وإنَّما هو التأكيد على أنَّه لا بد من نور الوحي لتزكية النفوس، وهداية البشريَّة واستنارة الطريق.

 

أيها المسلمون: إن الازدهار الذي أحرزته التراكمات المعرفيَّة من بيت اللَّبِن والطين إلى ناطحات السحاب وشاهقات المباني، وما حصل في وسائل النقل عبر التاريخ من التحول من ركوب الدواب، إلى امتطاء الطائرات، مرورًا بالسيارات والقاطرات، وفي بريد الرسائل من الراجل والزاجل، إلى البريد الرَّقْميّ، كل ذلك على عظيم اختراعه وابتكاره وعلى جماله والراحة في استعماله لكنَّه لم يقدم البديل عن الإيمان، وتزكية النفس، واحترام الإنسان، وتأملوا ذلك -حفظكم الله- في مَيْدان الأخلاق، وحقوق الإنسان، وضحايا الحروب، والتشريد، والتهجير، والفقر، والتسلُّط، والاستبداد واضطراب المعايير، والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين.

 

ونور الوحي أعظم النور وأعلاه وأغلاه، وعلى المؤمن أن يعرف قيمته، ومنزلته وقوته، ولا يستصغر نفسه أمام الماديات، أو يشعر بالحرج تجاهها، وقد قال -عز شأنه-: (كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ في صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)[الْأَعْرَافِ: 2].

 

وبعدُ -حفظكم الله- فالإيمان هو القائد للعقل، وهو الحامي للعِلْم، وحين ينفصل العقل عن الإيمان ينهار العمران البشري، وحين يعبث العقل بالعلم تنهار الحواجز بين الحق والباطل، والصالح والفاسد، والظلم والعدل، وتضطرب المعايير، وتتحول السياسات من سياسات مبادئ إلى سياسات مصالح، بالعلم والإيمان يستقيم العمران، وتسير القاطرة على القطبان؛ (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)[يُوسُفَ: 21]، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ)[الشُّورَى: 52-53].

 

نفعني الله وإيَّاكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، المتفرد بكل كمال، المنعم بجزيل النوال، في الغدو والآصال، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، شهادة خالصة مخلصة تنجي من يوم لا بيع فيه ولا خلال، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، شريف النسب، وكريم الخصال، صلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبه، خير صحب وآل، والتابعين ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم المآل.

 

أمَّا بعدُ، معاشرَ المسلمينَ: بناء العمران وانهياره مرتبط بالإنسان، فالله -سبحانه وتعالى- استخلَف الإنسان ليقوم بعمارة الأرض؛؛ ومِن ثَمَّ فإن أسباب تقدم المجتمع وتأخره يعود -بإذن الله- إلى الإنسان نفسه، فالتغيير في الخارج لا يكون إلا حين يكون التغيير في النفوس؛ (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)[الرَّعْدِ: 11]، وسنة الله أن الصالح يبقى لأن فيه نفعًا للبشرية، وغير الصالح لا يبقى؛ لأنَّه لا نفع فيه؛ (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ في الْأَرْضِ)[الرَّعْدِ: 17]، (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)[مُحَمَّدٍ: 38].

 

ألَا فاتقوا الله -رحمكم الله-، واعلموا أن الصلاح لا يكون إلا بالإيمان الصحيح، فهو الذي يطبع النفوس على الصدق والإخلاص والأمانة، والعفاف، ومحاسبة النفس، وضبط نوازعها، وإيثار الحق، وسعة النظر، وعلو الهمة، والكرم والتضحية والتواضع، والاستقامة، والقناعة، والسمع والطاعة، والتزام النظام.

 

ألَا وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، نبيِّكم محمد رسول الله؛ فقد أمرَكم بذلك ربُّكم فقال -عزَّ قائلًا عليمًا-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِكْ على عبدك ورسولك، نبينا محمد، وعلى آله وأزواجه وذريته، وارض اللهمَّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، والتابعين ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وإحسانك، يا أكرم الأكرمين.

 

اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، ، وأذلَّ الشركَ والمشركينَ، واحمِ حوزةَ الدينِ، وانصر عبادك المؤمنين، واخذلِ الطغاةَ والملاحدةَ وسائرَ أعداء الملة والدين، اللهمَّ انصر دينك وكتابك وسُنَّة نبيِّكَ محمد -صلى الله عليه وسلم- وعبادك الصالحين.

 

اللهمَّ آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِحْ أئمتَنا وولاةَ أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك، يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ أيد بالحق والتوفيق والتسديد إمامَنا ووليَّ أمرنا خادم الحرمين الشريفين، اللهمَّ وفقه لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، وارزقه البطانة الصالحة وأعز به دينك وأَعْلِ به كلمتَكَ، واجعله نصرة للإسلام والمسلمين، واجمع به كلمة المسلمين على الحق والهدي يا ربَّ العالمينَ، ووفقه ووليَّ عهده وإخوانَه وأعوانَه للحق والهدى، وكل ما فيه صلاح العباد والبلاد، اللهمَّ وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وبسنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم- واجعلهم رحمة لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتهم على الحق والهدى يا ربَّ العالمينَ.

 

اللهمَّ انصر إخواننا في فلسطين، اللهمَّ كن لهم وليًّا ونصيرًا، ومُعينًا وظهيرًا، اللهمَّ تول أمرهم، واجمع شملهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، اللهمَّ إنهم ضعفاء فقوهم، وجياع فأطعمهم، وعراة فاكسهم، وحفاة فاحملهم، اللهمَّ قو عزائمهم، وانصرهم نصرًا مؤزرا، اللهمَّ منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزم اليهود الغاصبين الظالمين، اللهمَّ إنهم قد طغوا وبغوا، وأفسدوا وآذوا، اللهمَّ رد كيدهم في نحورهم، واجعل دائرة السوء عليهم يا قوي يا عزيز.

 

اللهمَّ احفظنا من شر الأشرار، وكيد الفجار، ومن شر طوارق الليل والنهار؛ (رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصَّافَّاتِ: 180-182].

 

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life