عناصر الخطبة
1/معاناة الإنسان من العجز والخذلان 2/الافتقار إلى الله لُبّ العبودية 3/لجوء الصالحين إلى رب العالمين 4/لجوء الأنبياء في ذروة الضيق 5/إنجاء الله للمفتقرين إليهاقتباس
إِذَا انْقَطَعَتْ حِبَالُ البَشَرِ، وَضَاقَتْ رِحَابُ الأَرْضِ، وَتَوَقَّفَتْ أَسْبَابُ المَخْلُوقِينَ، فَأَيْنَ المَفَرُّ؟ وَأَيْنَ المَأْوَى؟ أَيْنَ يَذْهَبُ العَبْدُ الضَّعِيفُ المُحَاطُ بِأَسْبَابِ الهَلَاكِ وَالضِّيقِ؟ هنا مَكمَنُ العِبرةِ، وهنا تَتجلَّى عَظَمةُ الإلهِ الواحدِ القهَّارِ!... اللجوء إلى اللهِ لَيسَ باباً يَضيقُ بجمِيعِ الخَلْقِ، بل هو بابٌ وسِعَتْهُ الرَّحمةُ، وشَرُفَ مَنْ قَرَعَهُ بدمعةٍ وخُضُوعٍ...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الحَمْدَ لِلهِ؛ نَحْمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ ونَسْتَغْفِرُهُ ونَسْتَهْدِيهِ. نَحْمَدُكَ يَا رَبَّنَا حَمْداً يَمْلَأُ المِيزَانَ، حَمْداً يَلِيقُ بِكَ وَحْدَكَ، يَا مَنْ إِذَا انْقَطَعَتْ حِبَالُ الأَرْضِ بَقيت حِبَاله فَلَا يَرُدُّ كَفّاً وَلَا يُخَيِّبُ سُؤْلاً. وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
نشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ، أَنْتَ مَلَاذُ القُلُوبِ، وَيَا مَنْ لَا مَفَرَّ مِنْهُ إِلَّا إِلَيْهِ، مُنْجِي المَكْرُوبِينَ وَمُجِيبُ المُضْطَرِّينَ. وَنشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
قِفُوا بِقُلُوبِكُم لَا بِأَجْسَادِكُم، وتَأَمَّلُوا مَعِي فِي هَذَا الكَوْنِ الفَسِيحِ المُتَلَاطِمِ. أَلَيْسَ الضَّعْفُ قَاسِمَنَا المُشْتَرَكَ؟ أَلَيْسَ العَجْزُ قَيْدَنَا الَّذِي لَا نَفُكُّهُ؟ وَاللهِ إِنَّنَا نَعِيشُ فِي دُنْيَا مُتَقَلِّبَةٍ، تُبْكِي وَتُضْحِكُ، تُغْنِي وَتُفْقِرُ، تَضَعُ وَتَرْفَعُ. وَكَمْ مِنْ قَلْبٍ أَرْهَقَتْهُ الأَوْجَاعُ، وَكَمْ مِنْ نَفْسٍ أَضْنَاهَا الفَقْدُ، وَكَمْ مِنْ رُوحٍ سُدَّتِ الأَبْوَابُ فِي وَجْهِهَا، وَضَاقَتْ بِهَا السُّبُلُ، حَتَّى أَصْبَحَ البَعْضُ يَرَى الحَيَاةَ كَأَنَّهَا كَهْفٌ مُوحِشٌ مُظْلِمٌ، لَا يَجِدُ فِيهِ سِوَى الوَحْشَةِ وَالهَمِّ الثَّقِيلِ.
أَيُّهَا الكِرَامُ: إِنَّ العَجْزَ يَتَرَبَّصُ بِنَا، وَإِنَّ الخِذْلَانَ يُحِيطُ بِمَنِ اعْتَمَدَ عَلَى قُوَّةِ المَخْلُوقِ الفَانِي. فَكَمْ مِنْ صَدِيقٍ مَكَّنَّاهُ مِنْ أَسْرَارِنَا فَخَذَلَنَا! وَكَمْ مِنْ سَنَدٍ بَنَيْنَا عَلَيْهِ آمَالَنَا فَمَالَ وَانْهَار!، وَكَمْ مِنْ يَدٍ امْتَدَّتْ إِلَيْنَا فَمَا اسْتَطَاعَتْ أَنْ تَرْفَعَ عَنَّا قَدْرَ ذَرَّةٍ مِنْ ثِقَلِ الحُزْنِ!
إِذَا انْقَطَعَتْ حِبَالُ البَشَرِ، وَضَاقَتْ رِحَابُ الأَرْضِ، وَتَوَقَّفَتْ أَسْبَابُ المَخْلُوقِينَ، فَأَيْنَ المَفَرُّ؟ وَأَيْنَ المَأْوَى؟ أَيْنَ يَذْهَبُ العَبْدُ الضَّعِيفُ المُحَاطُ بِأَسْبَابِ الهَلَاكِ وَالضِّيقِ؟ هنا مَكمَنُ العِبرةِ، وهنا تَتجلَّى عَظَمةُ الإلهِ الواحدِ القهَّارِ!
أيها السائلُ عنِ النجاةِ والمُرتَجِي للكَشْفِ والعَافِيَةِ: اعلم أنَّ بابَ اللجوءِ إلى اللهِ لَيسَ باباً يَضيقُ بجمِيعِ الخَلْقِ، بل هو بابٌ وُسِعَتْهُ الرَّحمةُ، وشَرُفَ مَنْ قَرَعَهُ بدمعةٍ وخُضُوعٍ.
لا تَظُنُّوا أنَّ اللُّجُوءَ مَحبُوسٌ على أصحابِ الكوارثِ العُظمى، بل هو زادُنا اليوميُّ في كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ! اللجوءُ هو أنْ تَقومَ مِن نومِكَ مُعلِناً للهِ أنَّكَ فَقِيرٌ! اللجوءُ هو أنْ تُغادرَ بيتكَ خائِفاً من خُطواتِكَ فَتَسْتَودِعُ اللهَ أمرَك. اللجوءُ هو أنْ تَقِفَ أمامَ مرضٍ عُضالٍ أو دَينٍ ثَقِيلٍ أو فِتنةٍ مُهلِكَةٍ، فَتُدرِكُ أنَّ كلَّ الأسبابِ تَخُونُكَ إلا وِكَالةَ اللهِ لكَ.
واللهِ لَا مَفَرَّ وَلَا مَلْجَأَ إِلَّا إِلَى رَحْمَةِ مَنْ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، لَا مَفَرَّ إِلَّا إِلَى رَبٍّ عَظِيمٍ لَمْ يَقْطَعْ حَبْلَهُ عَنْ عِبَادِهِ يَوْماً. إِنَّهُ النِّدَاءُ الَّذِي يُفَتِّتُ ظَلَامَ اليَأْسِ وَيَشُقُّ سُحُبَ الحُزْنِ؛ (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ)[الذاريات: 50].
يَا إِخْوَةَ الإِيمَان: تَأَمَّلُوا هَذَا الأَمْرَ الإِلَهِيَّ العَجِيبَ: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ)؛ لَقَد أَجْمَعَ أَهْلُ العِلْمِ وَالمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا الفِرَارَ هُوَ فِرَارُ لُجُوءٍ وَاعْتِصَامٍ وَهُرُوبٌ مِنْ عِقَابِهِ إِلَى رَحْمَتِهِ، وَمِنْ غَضَبِهِ إِلَى رِضَاهُ. فَلَقَد قَالَ الإِمَامُ الطَّبَرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي تَفْسِيرِهِ: "فَاهْرُبُوا -أَيُّهَا النَّاسُ- مِنْ عِقَابِ اللَّهِ إِلَى رَحْمَتِهِ بِالإِيمَانِ بِهِ، وَاتِّبَاعِ أَمْرِهِ، وَالعَمَلِ بِطَاعَتِهِ".
وَقَالَ الإِمَامُ ابْنُ كَثِيرٍ: "أَي: الْجَئُوا إِلَيْهِ، وَاعْتَمِدُوا فِي أُمُورِكُمْ عَلَيْهِ". وَقَالَ الصَّالِحُونَ: "فِرُّوا مِنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ إِلَى طَاعَةِ الرَّحْمَنِ".
فَالْفِرَارُ إِلَيْهِ -يَا عِبَادَ اللهِ- هُوَ نَجَاةٌ؛ لِأَنَّ فِي الرُّجُوعِ لِغَيْرِهِ أَنْوَاعَ المَخَاوِفِ وَالمَكَارِهِ، وَفِي الرُّجُوعِ إِلَيْهِ وَحْدَهُ أَنْوَاعَ المَحَابِّ وَالأَمْنِ وَالسَّعَادَةِ وَالفَوْزِ.
تَذَكَّرُوا مَعِي ذَاكَ المَشْهَدَ الرَّهِيبَ، حِينَمَا رَأَى نَبِيُّ اللهِ إِبْرَاهِيمُ الخَلِيلُ -عليه السلام- النَّارَ تَتَأَجَّجُ وَتَتَطَايَرُ شَرَراً، وَقَدْ أُلْقِيَ إِلَيْهَا مُجَرَّداً مِنْ كُلِّ قُوَّةٍ بَشَرِيَّةٍ وَمَقْطُوعاً مِنْ كُلِّ حِيلَةٍ آدَمِيَّةٍ. فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ الَّتِي تَنْقَطِعُ فِيهَا الأَسْبَابُ المَادِّيَّةُ، وَيَئِسَ فِيهَا النَّاسُ مِنْ نَجَاتِهِ، سُئِلَ: أَلَكَ حَاجَةٌ؟ فَمَاذَا قَالَ؟ أَلَمْ يَقُلْ بِلِسَانِ اليَقِينِ: "أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا، وَأَمَّا إِلَى اللَّهِ فَنَعَمْ"؟
وَهُنَا يَصْدَحُ اللِّسَانُ بِكَلِمَةِ العَاجِزِ المُسْتَسْلِمِ، كَلِمَةِ العَبْدِ المُفْتَقِرِ، كَلِمَةِ مَنْ وَجَدَ فِي رَبِّهِ كِفَايَةً لَا تُضَاهَى، الكَلِمَةُ الَّتِي أَجْمَعَ المُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مَنْجَاةَ إِبْرَاهِيمَ -عليه السلام-، وَهِيَ الَّتِي قَالَهَا مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم- وَأَصْحَابُهُ يَوْمَ حَمْرَاءِ الأَسَدِ حِينَ خَوَّفَهُمُ النَّاسُ مِنْ جُمُوعِ المُشْرِكِينَ: (وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)[آل عمران: 173].
(حَسْبُنَا اللَّهُ)؛ أَيْ: اللهُ كَافِينَا وَحْدَهُ لَا سِوَاهُ، (وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)؛ أَيْ: نِعْمَ المَوْكُولُ إِلَيْهِ الأَمْرُ، وَنِعْمَ النَّاصِرُ وَالمُعِينُ! فَكَانَ الجَزَاءُ الإِلَهِيُّ الَّذِي يُقَلِّبُ طَبَائِعَ الأَشْيَاءِ: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ)[الأنبياء: 69].
وَاعْلَمْ -أَيُّهَا المُؤْمِن- أَنَّ الفِرَارَ إِلَى اللهِ هُوَ المَأْوَى وَالرَّاحَة:
يَا مَن يُجيبُ دُعاءَ المُضطَرِّ في الظُلَمِ *** يَا كاشِفَ الضُرِّ وَالبَلوى مَعَ السَقَمِ
قَد نِمتُ في جُبِّ ذُلّي طامِعاً *** فَرَجاً فَكُن لِأَمرِي إِذا أَصبَحتُ مُختَتَمِي
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ يَلْجَأُ إِلَيْكَ فِي كُلِّ أَمْرٍ، وَمِمَّنْ يَتَوَكَّلُ عَلَيْكَ حَقَّ التَّوَكُّلِ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ المُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ حَمْداً كَثِيراً طَيِّباً مُبَارَكاً فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى. نَحمَدُهُ وَنُمَجِّدُهُ تَمْجِيدَ المُفْتَقِرِ الَّذِي لَجَأَ إِلَيْهِ المُضْطَرُّ الَّذِي لَا يَمْلِكُ حَوْلاً وَلَا قُوَّةً إِلَّا بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ. هُوَ المُعِينُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ وَهُوَ النَّصِيرُ وَنِعْمَ المَوْلَى.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
سُبْحَانَ مَنْ لَا مَفَرَّ مِنْهُ إِلَّا إِلَيْهِ، وَلَا مَنْجَاةَ مِنْ قَضَائِهِ إِلَّا بِرَحْمَتِهِ.
أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ: اِتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَاِعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
إِنَّ اللُّجُوءَ إِلَى اللهِ لَيْسَ كَلَاماً يُقَالُ، بَلْ هُوَ حَالُ قَلْبٍ يَتَبَرَّأُ مِنَ الحَوْلِ وَالقُوَّةِ، وَيَسْتَسْلِمُ لِلْقُوَّةِ الإِلَهِيَّةِ المُطْلَقَةِ. إِنَّهُ إِفْرَادُهُ -سُبْحَانَهُ- بِالتَّوَكُّلِ، وَتَعْلِيقُ الأَمَلِ بِحَبْلِهِ المَتِينِ دُونَ سِوَاهُ. اللُّجُوءُ الصَّادِقُ يَعْنِي أَنَّكَ قَدْ أَسْلَمْتَ أَمْرَكَ لِمَنْ هُوَ أَحْكَمُ مِنْكَ وَأَعْلَمُ بِمَصِيرِكَ.
أَيْنَ نَحْنُ مِنْ لُجُوءِ الأَنْبِيَاءِ فِي ذِرْوَةِ الضِّيقِ؟ إِنَّهُمْ قِمَمُ البَشَرِ، وَلَكِنَّهُمْ أَشَدُّنَا اِفْتِقَاراً لِلهِ: تَأَمَّلُوا نَبِيَّ اللهِ مُوسَى -عليه السلام- حِينَ خَرَجَ مِنْ مِصْرَ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ، طَرِيداً، وَحِيداً، جَائِعاً. رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ أَنَّ مُوسَى سَارَ مِنْ مِصْرَ إِلَى مَدْيَنَ لَيْسَ لَهُ طَعَامٌ إِلَّا وَرَقُ الشَّجَرِ، حَتَّى بَلَغَ بِهِ الجُوعُ مَبْلَغاً عَظِيماً. فَلَمَّا سَقَى لِلْمَرْأَتَيْنِ، تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ وَقَالَ بِقَلْبٍ يَتَقَطَّعُ مِنْ فَقْرِهِ وَحَاجَتِهِ المُطْلَقَةِ: (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)[القصص: 24].
إِنَّهُ لَمْ يَسْأَلِ اللهَ بِلِسَانِهِ شَيْئاً مُعَيَّناً، بَلْ بِلِسَانِ الحَالِ المُفْتَقِرِ المُسْتَجْدِي. وَفِي تَفْسِيرِ اِبْنِ كَثِيرٍ: "إِنَّهُ لَمُحْتَاجٌ إِلَى شِقِّ تَمْرَةٍ". فَكَانَتِ النَّتِيجَةُ فَتْحاً عَظِيماً! جَاءَهُ الفَرَجُ فَوْراً! جَاءَتْهُ الزَّوْجَةُ، وَجَاءَهُ الأَمَانُ، وَجَاءَهُ العَمَلُ وَالرِّزْقُ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَكُلُّ ذَلِكَ بِبَرَكَةِ لُجُوءِ الفَقِيرِ لِلْغَنِيِّ.
وَتَذَكَّرُوا نَبِيَّ اللهِ يُونُسَ -عليه السلام- وَهُوَ فِي أَقْصَى الضِّيقِ، فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَظُلْمَةِ البَحْرِ، وَظُلْمَةِ بَطْنِ الحُوتِ. لَا يَرَاهُ أَحَدٌ، وَلَا يَسْمَعُ نِدَاءَهُ بَشَرٌ. فَنَادَى بِقَلْبٍ مَمْلُوءٍ بِالتَّوْحِيدِ وَالتَّوْبَةِ؛ (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)[الأنبياء: 87]؛ فَكَانَتِ النَّجَاةُ السَّرِيعَةُ (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي المُؤْمِنِينَ)[الأنبياء: 88]! اللَّجُوءُ فِي أَقْصَى الضِّيقِ نَجَاةٌ، وَوَعْدٌ إِلَهِيٌّ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ يُفْرِدُ اللهَ بِالْيَقِينِ.
وَانْظُرُوا إِلَى سَيِّدِنَا وَحَبِيبِنَا وَهُوَ فِي الغَارِ، وَالمُطَارِدُونَ عَلَى بُعْدِ خُطُوَاتٍ لَا تُرَى. قَالَ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ الخَالِصَةِ الَّتِي تُثَبِّتُ قَلْبَ الصِّدِّيقِ: "مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟"؛ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى القُلُوبِ، وَحَفِظَهُمَا بِحِمَايَةٍ غَيْبِيَّةٍ لَا تُدْرِكُهَا الأَبْصَارُ.
أَيُّهَا الكِرَامُ: إِنَّ المَشَاكِلَ وَالأَحْزَانَ الَّتِي تُثْقِلُكُمْ مَا هِيَ إِلَّا أَبْوَابٌ مُشَرَّعَةٌ لِلُّجُوءِ صَادِقٍ يُنْجِيكُمُ اللهُ بِهِ. لَا يُخَيِّبُ اللهُ عَبْداً وَقَفَ بِبَابِهِ بِقَلْبٍ مُنْكَسِرٍ وَصَوْتٍ مُرْتَجِفٍ، فَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رُوحِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ، وَاصْدُقُوا فِي فِرَارِكُمْ إِلَيْهِ.
اِفْزَعْ إِلَى اللهِ وَاِقْرَعْ بَابَ رَحْمَتِهِ *** فَهُوَ الرَّجَاءُ لِمَنْ أَعْيَتْ بِهِ السُّبُلُ
وَيَا صَاحِبَ الذَّنْبِ: ثِقْ بِرَحْمَةِ اللهِ.
إِنْ كَانَ لَا يَرْجُوكَ إِلَّا مُحْسِنٌ *** فَمَنِ الَّذِي يَدْعُو وَيَرْجُو المُجْرِمُ؟
أَدْعُوكَ رَبِّ كَمَا أَمَرْتَ تَضَرُّعاً *** فَإِذَا رَدَدْتَ يَدِي فَمَنْ ذَا يَرْحَمُ؟
اللَّهُمَّ يَا غَافِرَ الذَّنْبِ، وَيَا قَابِلَ التَّوْبِ، وَيَا مُجِيبَ دَعْوَةِ المُضْطَرِّينَ، اللَّهُمَّ إِنَّا لَجَأْنَا إِلَيْكَ، فَرَرْنَا إِلَيْكَ، وَوَقَفْنَا بِبَابِكَ الذَّلِيلِ، فَلَا تُخَيِّبْنَا يَا اللهُ. يَا كَاشِفَ الضُّرِّ، يَا مَنْ أَضَاءَ لِيُونُسَ فِي ظُلُمَاتِهِ، وَيَا مَنْ أَنْجَى إِبْرَاهِيمَ مِنْ نَارِهِ، وَيَا مَنْ كَفَى مُحَمَّداً وَأَبَا بَكْرٍ فِي غَارِهِ، اِكْشِفْ عَنَّا كُلَّ كَرْبٍ، وَأَزِلْ عَنَّا كُلَّ غَمٍّ، وَاجْعَلِ التَّوَكُّلَ عَلَيْكَ شِعَارَنَا، وَاللُّجُوءَ إِلَيْكَ دِثَارَنَا، وَهَبْ لَنَا قُلُوباً لَا تَرْكَنُ إِلَّا إِلَيْكَ.
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
عِبَادَ اللهِ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
فَاذْكُرُوا اللهَ العَظِيمَ يَذْكُرْكُمْ، وَاُشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ.
التعليقات