عناصر الخطبة
1/ شِكاية الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى ربه. 2/ صور هجر القرآن. 3/ لماذا هجر أولئك القرآن؟

اقتباس

وهذا أخطرُ أنواعِ الهجرِ وأكثرُها شيوعًا؛ فإنَّك ترى المسلمَ ربَّما يحفظُ القُرآنَ ويتلوهُ ويسمعُهُ آناءَ الليلِ وأطرافَ النهارِ وربَّما يفقهُ معانيَهُ، ثم هو غائبٌ عن حياتِهُ وواقعهُ، لا يعملُ بجميعِهِ، إنّما ينتقي منهُ ما...

الخُطْبَةُ الأُوْلَى:

 

الحمدُ للهِ الَّذي أنزلَ القرآنَ ولمْ يجعلْ لهُ عِوجًا، تمَّتْ كلماتُهُ صدقًا وعدلًا، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعدُ: فاتقوا اللهَ -عبادَ اللهِ- حقَّ التقوى، وراقبوهُ في السِّرِّ والنَّجوى، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

 

كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يخطُبُ الجمُعةَ قائمًا على جِذعِ نخلة، وفي ذاتِ يومٍ قيلَ له: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلاَ نَجْعَلُ لَكَ مِنْبَرًا؟ قَالَ: “إِنْ شِئْتُمْ”، فَجَعَلُوا لَهُ مِنْبَرًا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ الجُمُعَةِ دُفِعَ إِلَى المِنْبَرِ، فَصَاحَتِ النَّخْلَةُ صِيَاحَ الصَّبِيِّ، ثُمَّ نَزَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَضَمَّهُ إِلَيْهِ، تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِيِّ الَّذِي يُسَكَّنُ.

 

أتدري ما الذي أبكاه؟ قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: “كَانَتْ تَبْكِي عَلَى مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنَ الذِّكْرِ عِنْدَهَا”. رواه البخاري.

 

عباد الله: إنَّ كتابَ اللهِ هوَ أعظمُ الذِّكرِ، والذِّكرُ الحكيمُ، ولقدْ منَّ اللهُ علينا فأدركْنا شهرَ رمضانَ، الشَّهرَ الذي أَنزلَ اللهُ فيهِ القرآنَ، فأقبلَ المسلمونَ على كتابِ اللهِ يتلونهُ ويستمعونَ آياتِهِ، فأحيا اللهُ بهِ النُّفوسَ، وخشعتْ لعظمتِهِ القلوبُ ودمعتْ منْ أنوارِهِ العيونُ.

 

إلَّا أنَّ الناسَ بعدَ شهرِ رمضانَ، منهم مَنْ وفَّقَهُ اللهُ فصاحَبَ القُرآنَ حتى صارَ جليسَهُ وأنيسَهُ؛ فهو حالٌّ مرتحِلٌ، يقرأُ كتابَ اللهِ حتى يختمَهُ، ثم يعودَ فيقرأَهُ حتى يختمَهُ، كلَّما حلَّ ارتحَلَ، حالُ قلبِهِ كمِثلِ هذا الجذعِ الذي أنّ، بل أرقُّ، تراهُ مصاحِبًا كتابَ اللهِ تلاوةً وفَهمًا وتدَبُّرًا وعملًا وتحاكُمًا، جعلَهُ منهاجَ حياتِهِ، يحكِّمُهُ في كلِّ شأنِهِ، لا يُطيقُ عنهُ بُعدًا، ولا يرضى بغيرِهِ عوضًا.

 

ومن الناسِ مَنْ يَشْكُوهُم رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إلى ربِّهِ.

 

أتدري ما شِكايةُ الرَّسولِ -صلى الله عليه وسلم- إلى ربِّهِ؟ قال -تعالى-: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ ‌مَهْجُورًا) [الفرقان: 30].

 

إنَّهُ يشكو إلى ربِّهِ أنَّ قومَهُ هجَروا القرآنَ، أعرضوا عنهُ وتركوهُ حتى صارتْ تلكَ سَجِيّتَهم وعادتَهم مع كتابِ اللهِ.

 

إنْ كُنتَ لا تُريدُ أنْ تكونَ محلَّ شِكايةِ الرَّسولِ -صلى الله عليه وسلم-؛ فإليكَ صورَ الهاجرينَ لكتابِ اللهِ حتى لا تكونَ منهم.

 

إنَّ أعظمَ صورِ هَجْرِ القرآنِ هجرُ الإيمانِ بهِ؛ فإنَّ الكفرةَ لما سمعوا القرآنَ أعلنوا ذلكَ قائلين كما أخبرَنا -سبحانهُ-: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ‌لَنْ ‌نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ) [سبأ: 31].

 

لكنَّ السؤالَ المهمَّ: ما معنى أن تؤمن بالقرآن؟

إنَّ الإيمانَ بالقرآنِ يعني أنْ تُصدِّقَ تصديقًا جازمًا أنَّهُ كلامُ اللهِ، وتؤمنَ أنَّ كلَّ كلمةٍ فيهِ، كلَّ خبرٍ، كلَّ حُكمٍ، كلَّ حدثٍ، كلَّ واقعةٍ، كلَّ آيةٍ، كلَّ سورةٍ، هي حقٌّ ونورٌ، وهدًى ورحمةٌ، وفرقانٌ وعدلٌ وكمالٌ، وتؤمنَ أنَّهُ كتابٌ محفوظٌ من التَّبديلِ والتَّحريفِ، وتؤمنَ أنَّهُ منهجُ حياةٍ أنزلَهُ اللهُ ليُخرجَ الناسَ بهِ من الظلماتِ إلى النورِ، أنزلَهُ بيانًا وتِبيانًا وتعليمًا ورحمةً وموعظةً وشفاءً وتذكِرةً وتثبيتًا، أنزلَهُ اللهُ ليكونَ حاكمًا لا محكومًا، متبوعًا لا تابعًا.

 

إنَّ بعضَ الناسِ قد يؤمنُ بالقرآنِ أنَّهُ كلامُ اللهِ، كتابٌ مقدَّسٌ، لكنَّهُ منزوعُ الصَّلاحياتِ، محجوبٌ عنِ التَّأثيرِ في الواقعِ والحياةِ، إنما نزلَ ليُتبرَّكَ بصفَحاتهِ أو بتلاوةِ ألفاظِهِ؛ فهلْ آمنَ هذا بالقرآنِ الإيمانَ الواجبَ؟

 

وإنَّ مِنْ هَجْرِ القرآنِ هجرَ تلاوتِهِ؛ فإنَّ اللهَ أمرَ نبيَّهُ -صلى الله عليه وسلم- أنْ يتلوَ القرآنَ ويُرتِّلَهُ ترتيلًا، فقال: (‌وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ) [الكهف: 27]، وقال -سبحانهُ-: (‌وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) [المزمل: 4].

 

ولقدِ امتثلَ نبيُّنا -صلى الله عليه وسلم-، فكانَ يقرأُ القرآنَ في ليلِهِ ونهارِهِ، في حلِّهِ وتَرحالِهِ، ووصّى بذلك أصحابَهُ، حتى إنَّهُ قالَ لعبدِ اللهِ بنِ عمرو بنِ العاصِ -رضيَ اللهُ عنهُما-: “اقْرَأِ القُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ”. رواه البخاري ومسلم.

 

وثبت أنّه -رضي الله عنه- سأله: في كَمْ يُقْرَأُ الْقُرْآنُ؟ قَالَ: “فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا”. رواه أبو داود. قالَ العلماءُ: هذا أطولُ حدٍّ يُختمُ فيهِ القرآنُ، يعني أنّ منْ زادَ على ذلكَ فلَهُ منْ هجرِهِ نصيبٌ.

 

إنَّ اللهَ أمرَ كلَّ مسلمٍ أنْ يقرأَ ما تيسَّرَ له منَ القرآنِ، ولو كانَ مجاهدًا أو تاجرًا، بلْ ولو كانَ مريضًا، فقال: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ ‌سَيَكُونُ ‌مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) [المزمل: 20].

 

فيا عبدَ اللهِ: اجعلْ لكَ وِردًا وحِزبًا منْ كتابِ اللهِ، منْ أوَّلِهِ لآخرِهِ، حتى تختمَهُ، ولا تكنْ منَ الغافلينَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: “مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الغَافِلِينَ”. رواه أبو داود.

 

ومِنْ هَجْرِ القرآنِ هجرُ الإنصاتِ إليهِ؛ فإنَّ الكفّارَ قدْ أعرضوا عنْ سماعِ القرآنِ وأوصَوا بذلكَ أتباعَهم، فقالوا: (‌لَا ‌تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت: 26].

 

أمَّا المؤمنُ فإنَّهُ ما إنْ تُتلى عليهِ آياتُ اللهِ حتى يُلقي لها سمعَهُ، يُنصتُ إليها بتعظيمٍ وقلبٍ حاضرٍ غيرِ غافلٍ؛ فإنَّ هذا شرطُ الانتفاعِ بعِظاتِ القرآنِ كما قال -تعالى-: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ ‌أَلْقَى ‌السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق: 37]، وقدْ وعدَ اللهُ -تعالى- المؤمنينَ على استماعِهم للقرآنِ وإنصاتِهم إليهِ أنْ يرحمَهم، فقال: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ ‌فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأعراف: 204].

 

ومِنْ هَجْرِ القرآنِ هجرُ تعلُّمِهِ وفهمِهِ وتدبُّرِهِ؛ فكيفَ يحيى ويهتدي بالقرآنِ منْ كانَ بهِ جاهلًا؟!

 

إنَّ اللهَ عابَ على المنافقينَ أنَّهُم لا يتدبَّرونَ القرآنَ، فقال: (أَفَلَا ‌يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) [النساء: 82].

 

وإنَّ العلمَ بالقرآنِ ومعانيهِ بوابةُ العملِ بهِ، لذا يقولُ التابعيُّ أبو عبدِ الرحمنِ السُّلَميُّ رحمهُ اللهُ: “حَدَّثَنَا مَنْ كَانَ يُقْرِئُنَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتَرِئُونَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَشْرَ آيَاتٍ فَلَا يَأْخُذُونَ فِي الْعَشْرِ الْأُخْرَى حَتَّى يَعْلَمُوا مَا فِي هَذِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ قَالُوا فَعَلِمْنَا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ”. رواه أحمد.

 

ومِن أعظمِ هَجْرِ القرآنِ هجرُ اتّباعِهِ، والعملِ بهِ، وتحكيمِهِ في شؤونِ الحياةِ، قال -تعالى-: (‌اتَّبِعُوا ‌مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) [الأعراف: 3]، وقال -سبحانهُ-: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ‌لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ) [النساء: 105].

 

وهذا أخطرُ أنواعِ الهجرِ وأكثرُها شيوعًا؛ فإنَّك ترى المسلمَ ربَّما يحفظُ القُرآنَ ويتلوهُ ويسمعُهُ آناءَ الليلِ وأطرافَ النهارِ وربَّما يفقهُ معانيَهُ، ثم هو غائبٌ عن حياتِهُ وواقعهُ، لا يعملُ بجميعِهِ، إنّما ينتقي منهُ ما يحقِّقُ مصلحتهُ في ظنِّهِ، أو يأخذُ منهُ حديثَهُ عن العباداتِ وربما الأخلاقِ، فإذا جاءَ إلى آياتِ العقائدِ والشرائعِ كان عنها بمعزِلٍ، يقرأُ تلكَ الآياتِ التي تنهاهُ عن موالاةِ اليهودِ والنصارى ولا يلتفتْ، يسمعُ الآياتِ تحرّمُ الربا وكأنَّهُ لم يسمعْها، آياتُ الحجابِ تطرقُ سمعَ المرأةِ لكنّها تُعْرِضُ كأن لم تسمعْها، تُتلى على الرجلِ آياتُ المواريثِ ولكنهُ رَغْم ذلكَ يَحْرِمُ أخواتِهِ من الميراثِ، تراهُ يستبدلُ بمنهجِ القُرآنِ المناهجَ الأرضيةِ، أفكارَ الناسِ، وآراءَ المفكرينَ والفلاسفَةِ والساسةِ، وهذا هو أعظمُ الإعراضِ والهِجرانِ، يقول أبو الدَّرداء رضي الله عنه: “كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَشَخَصَ بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ قَالَ: “هَذَا أَوَانُ يُخْتَلَسُ العِلْمُ مِنَ النَّاسِ، حَتَّى لاَ يَقْدِرُوا مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ!”. فَقَالَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ الأَنْصَارِيُّ: كَيْفَ يُخْتَلَسُ مِنَّا وَقَدْ قَرَأْنَا القُرْآنَ؟ فَوَاللَّهِ لَنَقْرَأَنَّهُ وَلَنُقْرِئَنَّهُ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا! فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: “ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا زِيَادُ! إِنْ كُنْتُ لأَعُدُّكَ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ! هَذِهِ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ عِنْدَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى فَمَاذَا تُغْنِي عَنْهُم؟!” رواه الترمذي.

 

لقد كانتِ التوراةُ والإنجيلُ عند أهلِ الكتابِ؛ فماذا فعلوا؟ أخذوا منهُ ما شاؤوا، وحرَّفوا منها ما شاؤوا، وتركوا منها ما شاؤوا؛ فهل أغنَتْ عنهم شيئًا؟

 

إخوةَ الإسلام: وإنَّ مِن هَجْرِ القرآنِ هَجْرَ الاستشفاءِ بهِ وتزكيةَ القلوبِ بهداياتِهِ؛ فإن الله قال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ‌وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [يونس: 57].

 

كمْ في النفوسِ من آلامٍ وأدواءٍ، وإنَّ في القرآنِ شفاءً لها، يشفي بهِ اللهُ القلوبَ من أمراضِها، ويزكِّي بهِ اللهُ النُفوسَ من أدرانِها، إلَّا أنَّ مِنَ الناسِ مَن يشقى فيبحثُ عن دواءِ علَّتِهِ وطهارةِ قلبِهِ في آراءِ الناسِ وتجارِبِهم وطُرُقِهم وحَسْبُ، فيزدادُ الدّاءُ، وتَعْظُمُ العلَّةُ حتى تموتَ القلوبُ وتُطمَسَ الأرواحُ. أمَّا المؤمنُ فيقرأُ القرآنَ بنفسيَّةِ المُستشفي، فيجدُهُ يصفُ الدّاءَ والدَّواءَ خالصًا سائغًا للشاربينَ.

 

باركَ اللهُ لي ولكُم في القرآنِ العظيمِ، ونَفَعني وإيّاكم بما فيهِ من الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ، وأَستغفرُ اللهَ لي ولكُم فاستغفِروهُ، إنَّه هو الغَفورُ الرّحيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رَسُولِ الله، وعلى آلِهِ وصَحبِهِ ومَن والاهُ، وبعد:

 

إنَّ السؤالَ الأهمَّ الآن: لماذا هجَرَ الهاجِرونَ القرآنَ؟

 

إنَّ لذلك سبَبَينِ رئيسَينِ:

إمَّا أنَّهُم لم يُدركوا قدرَ القرآنِ، وعظمتَهُ وجلالَهُ وكمالَهُ وعدلَهُ وشمولَهُ ولماذا نزلَ، وإمَّا أنَّهُم كرهوا الحقَّ الذي فيهِ، لـمَّا عارضَ الحقُّ الذي في القرآنِ أهواءَهم، كرِهوا أحكامَهُ وآياتِه.

 

وتأمَّلْ قولَ الملكِ -سبحانهُ-، وهوَ يحكي لنا عنِ الهاجرينَ لكتابِهِ فقال: (حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ * لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ * قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا ‌تَهْجُرُونَ * أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ * أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) [المؤمنون: 64-70].

 

فإن كنتَ -يا عبدَ اللهِ- ممَّن عرفَ القرآنَ وعظمتَهُ وقدرَهُ، وعرفتَ لماذا أنزلَ اللهُ القرآنَ، وكنتَ تُحبُّ الحقَّ ولا تتَّبعُ الهوى، فأقبِلْ على كتابِ ربِّك، فاتلُهُ حقَّ تلاوتِهِ، واستمعْ لآياتِهِ وأنصِتْ، أقبلْ عليهِ فتعلَّمْ معانيَهُ وتدبَّرْ آياتِهِ، كُنْ من أهلِهِ العاملينَ بهِ، الذينَ يتحاكمونَ إليهِ ويحكمونَ بهِ، اتَّخِذْهُ دواءً وشفاءً؛ فإنَّ فيهِ الكفايةَ والهُدى كما قال الله: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ ‌يُتْلَى ‌عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [العنكبوت: 51].

 

اللَّهُمَّ اجعلِ القرآنَ ربيعَ قلوبِنا، ونورَ صدورِنا، وجِلاءَ أحزانِنا، وذهابَ همومِنا، اللَّهُمَّ اجعلْنا مِمَّن عظَّمَ القرآنَ حقَّ تعظيمِهِ، وأقامَ حروفَهُ، وتدبَّرَ معانيَهُ، وحفِظَ حدودَهُ، وعمِلَ بهِ، وتلاهُ حقَّ تلاوتِهِ، ولا تجعلْنا ممَّن هجرَ القرآنَ وأعرضَ عنهُ.

 

اللَّهُمَّ انصُرِ الإسلامَ وأعِزَّ المسلمينَ، وأهْلِكِ اليهودَ المجرمينَ، اللَّهُمَّ وأنزِلِ السَّكينةَ في قلوبِ المجاهدينَ في سبيلِكَ، ونَجِّ عبادَكَ المستضعَفينَ، وارفعْ رايةَ الدِّينِ، بقُوَّتِكَ يا قويُّ يا متينُ.

 

اللّهُمَّ آمِنَّا في أوطانِنا، وأصلِحْ أئمَّتَنا ووُلاةَ أمورِنا، واجعل وِلايتَنا فيمن خافَكَ واتّقاكَ واتّبعَ رِضاك.

 

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات
زائر
17-04-2025

السلام عليكم 

زائر
17-04-2025

بارك الله فيكـــم 

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life