يختص برحمته من يشاء

أحمد بن عبد العزيز الشاوي

2024-12-30 - 1446/06/28
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/أكثر البشر في جاهلية وضلال 2/التوفيق للإيمان من فضل الله 3/الثبات على الهداية فضل من الله 4/ الاختصاص الرباني اختبار وابتلاء 5/ما يقابل به المسلم ما اختصه الله به

اقتباس

إذا اختصك الله برحمة منه ورأيت غيرك محروما منها، فليكن حظه منك الدعوة والدعاء، واحذر من التعيير والكبرياء، فلربما اختصه الله برحمة أخرى وحرمك منها، وإن الله قسم بين الناس أخلاقهم كما قسم بينهم أرزاقهم...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

الحمد لله الذي ارتضى لنا الإسلام ديناً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أرجو بها فوزاً مبيناً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أرسله الله رحمة ونوراً، ونبياً أميناً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته وسلم تسليماً كثيراً.

 

أما بعد: فاتقوا الله -أيها المسلمون- وكونوا عباد الله إخواناً.

 

قلِّب نظرك في هذا العالم فستجد أمما حولك في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء، ما بين عابدٍ لبقر أو لشجر أو حجر أو شمس أو قمر، وأنت تقف شامخا؛ قد هديت إلى دين قد ارتضاه الله لك، فيه سعادة الدنيا والفوز في الآخرة؛ (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)[المائدة: 3]، لا بجهدك ولا بوجاهتك، ولكن فضلا من الله ونعمة؛ (لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[الحجرات: 17]، فهل أدركت السبب؟.

 

وأمام قوافل المتساقطين والمنتكسين والزائغين الذين يعبدون الله على حرف، ففي كل يوم لهم منهج، ومبادئهم  تتقلب مع كل شهوة وتتبدل لأدنى شبهة، وتجد نفسك ثابتا على منهجك محافظا على مبادئك وقيمك، لا تحركك الضغوط، ولا يستفزك الواقع ولا تهزك الشهوات والشبهات، فتذكر أن ذلك ليس بحولك ولا بطولك؛ (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا)[الإسراء: 74]، (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ)[النساء: 113]، فهل عرفت السبب؟.

 

في الهزيع الأخير من الليل، وبعد نداء منادي الله للصلاة والفلاح، تهجر فراشك الوثير، وتخرج من بيتك لتواجه لسعات الهواء ونسمات البرد؛ لتقف بين يدي الله، وفي طريقك ستمر على بيوت أهلها خامدون، لا يجيبون لله نداء، ولا يرجون لله وقارا، قد بال الشيطان في آذانهم، ورضوا بأن يكونوا مع الخوالف، وأنت تتسامى على مغريات الحياة، وتسابق إلى مغفرة من الله ورضوان، فهل أدركت السبب؟.

 

تعيش في بلد آمن وعيش رغيد، بينما يتخطف الناس من حولك، يصارعون الخوف ويواجهون الفقر والجوع، يلتحفون السماء ويفترشون الغبراء، فلماذا أنت في نعيم وأمم في شقاء؟! هل أدركت السبب؟.

 

ستجد آباء وأمهات قد ابتلوا بأبناء أو بنات قد أرهقوهم طغيانا وتمردا، وأنت تنعم بذرية طيبة يتسابقون إلى برك ويستجيبون لأمرك، فهل ذلك لفضل فيك، أو لحولك وطولك، هل تريد أن تعرف السبب؟.

 

تعيش المرأة المسلمة المحتشمة وهي ترى أصنافا من النساء المخدوعات، اللاتي خدعتهن دعايات المنافقين، ووساوس شياطين الإنس والجن، ممن يريدون أن تميل الأمة ميلا عظيما، فتخلين عن الحجاب، وتجردن من الحياء، وتمردن على فطرة الله التي فطر الناس عليها، وتقف تلك الشامخة ثابتة مفاخرة بحجابها، لا تحركها الاستفزازات، ولا تغير مسارها الاستهزاءات، تدرك أن العباءة عبادة، وحجاب الوجه حجاب عن النار، فما السر في هذا الثبات في زمن المتغيرات؟.

 

إن السر في هذا التميز الذي تعيشه في دينك واستقامتك وثباتك، وفي كل نعمة تتفيؤها في نفسك وأهلك وبلدك وولدك، السر هو في جملة واحدة: (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)[البقرة: 105]، (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)[النحل: 53]، (ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ)[النساء: 70]، وليس أعظم من فضله على أمة بالهدى ممثلاً في كتاب، وبالخير ممثلاً في رسالة، وبالرحمة ممثلة في رسول.

 

فإذا سمع المسلمون هذا أحسوا مدى النعمة وقيمة المنة في اختيار الله لهم، واختصاصه إياهم بهذا الفضل، واستمسكوا به في إعزاز وحرص، وأخذوه بقوة وعزم، ودافعوا عنه في صرامة ويقين، وتيقظوا لكيد الكائدين وحقد الحاقدين، وهذا ما كان يربيهم به القرآن الكريم والذكر الحكيم.

 

إن ما تعيشه -أيها المسلم- من نعم في دينك ودنياك إنما هو رحمة من الله بك، والله يختص برحمته من يشاء، فاحمد الله على أن هديت للإسلام والسنة، فلست ممن يجثو عند صنم، ولا ممن يتمسح ببقر ولا شجر، ولست ممن ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، وجوههم خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية، واسأل الله الثبات، فإنما هي نعمة عظمى ومنة كبرى؛ (اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[الحجرات: 17].

 

وصدق الله، فماذا فقد من وجد الأنس بحقائق الإسلام ومعانيه، وعاش بها ومعها، وقطع رحلته في هذه الدنيا في ظلالها وعلى هداها؟ وماذا وجد من فقدها، ولو تقلب في أعطاف النعيم، وهو يتمتع ويأكل كما تأكل الأنعام؟.

 

فيا رب أوزعنا أن نشكر نعمتك التي أنعمت علينا وعلى والدينا، وأن نعمل صالحا ترضاه، أقول هذا القول، واستغفر الله لي ولكم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

أما بعد: إن اختصاص الله بعض عباده برحمة من رحماته إنما هو ابتلاء وامتحان؛ ليعلم أيشكرون أم يكفرون؟.

 

امتحان خاضه المصطفون الأخيار فاجتازوه، فهذا رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم- يختصه الله بمغفرة ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيقابل الاصطفاء بالخضوع لرب الأرض والسماء، فيقوم من الليل حتى تتفطر قدماه ويقول: "أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟".

 

ونبي الله سليمان -عليه السلام- يختصه ربه ويسخر له مخلوقاته، حتى ليأتيه عرش بلقيس في طرفة عين، فيعلن خضوعه وتذلله لربه قائلا: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ)[النمل: 40].

 

ومريم كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا، فيقول: أنى لك هذا؟ فتنسب الفضل لصاحب الفضل قائلة: (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[آل عمران: 37].

 

إن الناس في مقابل هذا الاختصاص الرباني بين فريقين، فريق حداؤه: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي)[النمل: 40]، وآخر شعاره: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي)[القصص: 78]، (مَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ)[النمل: 40].

 

حينما يختصك الله برحمة من عنده فليكن موقفُك الشكرَ لله وحمده، وحينما يختص غيرك برحمة فلا تحسُد الناس على ما آتاهم الله من فضله؛ (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ)[النساء: 32]، فالمسلم يتمنى لإخوانه ويحب لهم ما يحبه لنفسه، بل ويؤثرهم على نفسه ولو كان به خصاصة.

 

وإن الهداية والثبات منةٌ من الله ونعمة، وشكرها بالخضوع للحق والتواضع للخلق، وليست مجالاً للمفاخرة والمكابرة، والاستعلاء بها على الآخرين، والشماتة بالمذنبين، فالمهتدي أرق الناس قلباً، وأكثرهم بالناس رحمة، وأعرفهم بمقدار نفسه وفضل الله عليه، (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[النور: 21].

 

إذا اختصك الله برحمة منه ورأيت غيرك محروما منها، فليكن حظه منك الدعوة والدعاء، واحذر من التعيير والكبرياء، فلربما اختصه الله برحمة أخرى وحرمك منها، وإن الله قسم بين الناس أخلاقهم كما قسم بينهم أرزاقهم.

 

إن الإيمان بأن الله يختص برحمته من يشاء، يوجب عليك أن تكون حذرا من أن يسلب الله منك هذا الاختصاص، حينما تعرض وتتولى، أو تستغني وتطغى، وهو القائل: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)[محمد: 38]، فكن على وجل دائم ودعاء بالثبات لا ينقطع، فكم ترى وتسمع من حولك من أخبار الزائغين.

 

اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا.

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life