أبواب القلب (1)

أمير محمد محمد المدري

2025-02-07 - 1446/08/08 2025-04-23 - 1446/10/25
عناصر الخطبة
1/أهمية القلب 2/وجوب الحرص على سلامة القلب 3/حراسة القلب وحمايته من الوساوس 4/طرق الشيطان في إفساد القلوب 5/خطورة إطلاق اللسان 6/نماذج من الكلمات القاتلة.

اقتباس

أسهل باب يتسلل منه الشيطان إلى القلب، بل هو أكثر باب يرتاده الشيطان ويمر خلاله كل يوم، وذلك لأنه أكثر الأعضاء عملاً وأسهلها شُغلاً وأقلها تعبًا عندما يعمل، فمن غفل عن حراسة لسانه تسلل الشيطان منه إلى قلبه وسيطر على كيانه....

الخطبةُ الأولَى:

 

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان.

 

 (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].

 

أما بعد: عبد الله: اتقوا الله واتقوا يومًا تُرجعون فيه إلى الله، يومَ يُنفخ في الصورِ، ويُبعث من في القبورِ، ويظهرُ المستورُ، يومَ تُبلىَ السرائرَ، وتُكشَفُ الضمائرُ ويتميزُ البرُ من الفاجر.

 

نقف وإياكم مع أشرف شيء في الإنسان. مع المضغة التي لو صلحت صلُح سائر الجسد؛ إنه القلب الذي صفاؤه ونقاؤه وسلامته شرطٌ لدخول الجنة؛ قال -تعالى-: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشعراء: 88- 89]؛ فالقلب محل نظر الخالق -جل وعلا-، فالله لا ينظر إلى الصور والأموال والرُّتب، وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال.

 

القلب هو المُحرّك الذي يُغذّي أكثر من (300) مليون مليون خلية في جسم الإنسان، ويبلغ وزنه (285) جرام، وهو بحجم قبضة اليد، ويسكن في الجهة اليسرى من الصدر، ورغم ذلك فهو ذو سرٍ كبير من أسرار الخالق العظيم؛ فهو رمز الحياة.

 

أخي الكريم: يقوم قلبك منذ أن كنتَ جنينًا في بطن أمك -بعد (21) يومًا من الحمل- بالعمل على ضخ الدم في مختلف أنحاء جسدك، وعندما تصبح بالغًا يضخ قلبك في اليوم أكثر من سبعين ألف لتر من الدم وذلك كل يوم، هذه الكمية يضخّها أثناء انقباضه وانبساطه، فهو ينقبض أو يدق كل يوم أكثر من مئة ألف مرة، وعندما يصبح عمرك (70) سنة يكون قلبك قد ضخ مليون برميل من الدم خلال هذه الفترة!

 

هذا القلب بحاجة إلى حراسة وحماية من الشيطان ووساوسه. قال بعض الحكماء: "مثَلُ القلب مثَلُ بيتٍ له ستة أبواب، ثم قيل لك: احذر أن يدخل عليك من أحد الأبواب شيء؛ فيُفسد عليك البيت، فالقلب هو البيت، والأبواب: اللسان، والبصر، والسمع، والشم، واليدان، والرجلان، فمتى انفتح باب من هذه الأبواب بغير علم ضاع البيت".

 

ولذا كان من حرَس قلبه من أعظم الخلق وأزكاهم حتى لا يدخل منه العدو، فيجوس خلال الديار، ويفسد ما قُدِّر عليه فالمرابطة لزوم هذه الثغور، ولا يخلي مكانها، فيصادف العدو والثغر خاليًا، فيدخل منها.

 

وهذه المرابطة حُكمها الشرعي أنها فرض عين على كل مسلم؛ كما أوضح ذلك أبو حامد الغزالي -رحمه الله- فقال: "حماية القلب عن وسواس الشيطان واجبة، وهو فرض عين على كل عبدٍ مُكلَّف، وما لا يُتوصَّل إلى الواجب إلا به فهو أيضًا واجب، ولا يُتوصَّل إلى دفع الشيطان إلا بمعرفة مداخله، فصارت معرفة مداخله واجبة".

 

أخي الحبيب: كم يساوي دينك عندك؟ اسمع ما يقول حازم سلمة بن دينار -رحمه الله-: "قد رضيت من أحدكم أن يُبقي على دينه كما يُبقي على نعليه".

 

وهي كلمة قاسية، ولعله يعني بها أن أحدنا إذا دخل المسجد ومعه حذاءٌ غالٍ؛ خاف عليه اللصوص، فوضعه أمامه مخافة أن يُسرق، حتى لا يخرج من المسجد حافي القدمين، فإن حدث ونسي ووضع حذاءه وراء ظهره تشتت ذهنه في صلاته، وضاع خشوعه من أجل حذاء! وكان أول ما يفعل بعد التسليم: أن يلتفت بسرعة إلى مكان الحذاء يطمئن عليه!! وإن حدث وسُرِق حذاؤه وكان غالي الثمن؛ ظل حزينًا مكروبًا أيامًا عِدة حُزنًا لعله لم يحزن مثله قط لضياع صلاة أو أكل حرام!!

 

والشيطان سارق الإيمان، فكيف لا يخاف الإنسان على إيمانه؟! وكيف لا يحذر أعدى أعدائه؟! وقد يترك إيمانه وراء ظهره؛ يسرق منه الشيطان ما يريد، وينهب منه كلما شاء، فيا أخي.. إيمانك أم حذاؤك؟! دينك أم نعلك؟! آخرتك أم أحقر ما في دنياك؟!

 

أخي الحبيب: لو أنك ورثت مالاً كثيرًا أو كنزًا ثمينًا، وأودعته بيتك؛ فهل تنسى باب بيتك مفتوحًا؟! أم تجعل عليه الأقفال الشِّداد؟! فهذا كنز إيمانك عبِثت به أيدي الغفلة والبطالة وأتباع الشياطين وأنت لم تضع عليه أي قفل؟! أليس أولى بالحراسة وأجدر بالحماية؟!

 

والآن مع أول هذه الأبواب وأهمها:

الباب الأول: اللسان: أسهل باب يتسلل منه الشيطان إلى القلب، بل هو أكثر باب يرتاده الشيطان ويمر خلاله كل يوم، وذلك لأنه أكثر الأعضاء عملاً وأسهلها شُغلاً وأقلها تعبًا عندما يعمل، فمن غفل عن حراسة لسانه تسلل الشيطان منه إلى قلبه وسيطر على كيانه، وبعدها ساقه إلى شفا جُرفٍ هار.

 

قال -صلى الله عليه وسلم-: "المسلم من سلم المسلمون يده ولسانه"(رواه مسلم)؛ أي: المسلم الكامل والمسلم الحق، ولقد تعجّب معاذ بن جبل -رضي الله عنه- من كون الإنسان يُؤاخَذ بما يتكلم به ويُحاسب على ذلك فقال: "يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به"؟! فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم"، والحديث يدل دلالة ظاهرة، على أن أكثر ما يدخل الناس النار هو اللسان.

 

وفي صحيح البخاري من حديث سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: "من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رِجليه؛ أضمن له الجنة"؛ أرأيتم بوابة الإسلام، ومفتاح الدخول في رضوان الله، إنها كلمة: لا إله إلا الله محمد رسول الله.

 

والخروج من الإسلام قد يكون بكلمة -والعياذ بالله-؛ فالإنكار والجحود والاستهزاء بدين الله، والسبّ لله ولرسوله كل هذا سيئات كُفرية تتعلق بالكلمة.

 

الزواج يقع بكلمة والطلاق كذلك يقع بكلمة، وكذلك العتق والرجعة ولو كان الرجل مازحًا قال -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة"(رواه الترمذي وغيره).

 

وقال -صلى الله عليه وسلم-: "أكثر خطايا ابن آدم في لسانه"، لذا وجب حراسة هذا الثغر من أخطائه وزلاته كمًّا وكيفًا.

 

فاللسان إذًا بوابة دخول؛ يدخل إلى القلب عبر اللسان ما يُطهِّره أو ما يدنِّسه لذا قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه"(أخرجه أحمد 3/ 198، والبيهقي في شعب الإيمان 8. وحسّن الألباني إسناده في صحيح الترغيب 2554).

 

ومعنى الحديث: مهما داوم القلب على القُربات وتعرَّض لشتى أنواع الأدوية والعلاجات، فلن يطْهر أبدًا حتى يُزيل ما علق بلسانه من أوساخ، وإلا كانت الجوارح تبني واللسان يهدم.

 

روي أن أحد الصالحين زار أحد التجار في تجارته فجلس عنده ساعة، فإذا به يغشّ في بيعه وشرائه، ويكثر من الأيمان والحلف لبيع سلعته، وإذا بالتاجر يلتفت إليه قائلاً: لعلك عجبت من بيعي وشرائي، لا تخف فأنا إذا خيّم الليل وأرخى سدوله أقف بين يدي الله مصليًا أغسل كل ذنوبي في البيع والشراء. فقال له ذاك الرجل الصالح: "ما مثلك إلا مثل رجلٍ في يديه نجاسة وأراد غسلها، فذهب إلى نهر وأنزل رجليه إلى النهر ليغسل يديه، فهل سيغسل يديه ورجليه في الماء؟ لا والله حتى لو ظل إلى يوم القيامة، ستظل النجاسة في اليد، وهكذا أنت فلا بد من التوبة من الغش والأكل الحرام".

 

تتوسل الأعضاء كل صباح إلى القلب حتى لا يضيع مجهودها وتعبها في سبيل الحق هباءً منثورًا، وحتى لا تُؤاخَذ بجريرة غيرها. قال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تُكفِّر اللسان، فتقول: اتق الله فينا، فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا"(سنن الترمذي: كتاب الزهد باب ما جاء في اللسان 4/ 605)؛ ومعنى "تُكفِّر" أي تتذلل وتتواضع له.

 

واللسان بوابة خروج كذلك، فيخرج من القلب عبر اللسان ما هو ساكن في القلب ومُحْتَبَس فيه، وما اللسان إلا مغرفة ينقل ما في القلب إلى الخلق، وما أجمل قول يحيى بن معاذ -رحمه الله-: "القلوب كالقدور في الصدور تغلي بما فيها ومغارفها ألسنتها، فانتظر الرجل حتى يتكلم، فإن لسانه يغترف لك ما في قلبه من بين حلو وحامض وعذب وأجاج؛ يُخبرك عن طعم قلبه: اغتراف لسانه".

 

عباد الله: انظروا إلى يوسف وروعة طهارة قلبه، وكيف انعكس ذلك على لسانه وحلاوة نطقه وعذوبة كلامه، فقد رمته امرأة العزيز في عِرضه زورًا وبهتانًا، واتُّهم بأشنع تهمة تنال من سمعة المرء وتستهدف شرفه، لكن اسمعوا أطهر قلب وهو يُرد على أكذب ادعاء بأسمى رد وأوجز بيان؛ ليس بعريضة دفاع مطولة بل بأربع كلمات فحسب لا غير: (قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي)[يوسف: 26].

 

وكان الاختصار والإيجاز هنا لأن الأمر متعلق بشخصه، أما حين تعلّق الأمر بربه لما دخل السجن وخاض غمار الدعوة إلى الله؛ انطلق لسانه في طلاقة وإسهاب داعيًا صاحبيه في السجن؛ (قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)[يوسف: 37 - 40].

 

ومرة ثالثة يُعلِّمنا أطهر قلب كيف يعف اللسان ويسمو عاليًا فوق السحاب، فبعد أن رماه إخوته في البئر وحاولوا قتله في وحشية نادرة، ما جرحهم بلسانه وما آذاهم بلفظ؛ بل ألقى بالتهمة على الشيطان لائمًا حين قال: (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي)[يوسف: 100].

 

عباد الله: إن للسان خطورة تؤدي بصاحبه إلى الهلاك من جراء كلمة واحدة دون أن يشعر!! نعم كلمة واحدة، فرُبَّ حتوفٍ في حروف، وكم من إنسانٍ أهلكه لسان، وكم من كلمةٍ صرخت في وجه صاحبها: لا تقُلني، وفي الحديث: "إن رجلاً قال: والله لا يغفر الله لفلان. قال الله: مَن ذا الذي يتألى عليَّ أن لا أغفر لفلان؟! فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك"(صحيح مسلم: 2621). قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: "والذي نفسي بيده لقد تكلّم بكلمةٍ أوبقت دنياه وآخرته".

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا.

 

أما بعد: أيها المسلمون: إن اللسان المعوج قد يُحْبِط صالح العمل، ويذهب بسوالف الخير التي كان يعملها صاحبه، بل ويهوي بصاحبه من أعلى منزلة عند الله إلى أن يُطْرَد من رحمة الله!! واسأل نفسك معي: من الذي يُهدَّد في هذه الآية؟ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ)[الحجرات: 2].

 

نزلت هذه الآية في الصحابيين الجليلين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عندما رفعا صوتيهما عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واختلفا فنزلت الآية.

 

تأمَّل قوله -تعالى- في هذه الآية: (وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ)؛ لأن عمل الإنسان قد يحبط وهو لا يشعر، وكم من كلمة أودت بصاحبها من حيث لا يدري!

 

عباد الله: رفع الصوت على النبي -صلى الله عليه وسلم- يُحْبِط العمل فكيف بمن يُنكر سُنته؟! وكيف بمن يهتك عرضه ويسبّ أصحابه؟!

 

إنها كذلك لغة التهديد التي طالت أحب الخلق إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- عائشة -رضي الله عنها-، وذلك لما قالت كلمة عن صفية -رضي الله عنها- فيها لمسة ازدراء تُعيِّرها أنها قصيرة خطورة الكلمة الواحدة وقدرتها على تعكير بحار زاخرة من الأعمال؛ فعرَّفها النبي الصالحة، فقال لها: "لقد قُلتِ كلمة لو مُزِجت بماء البحر لمزجته"(أخرجه أحمد 6/ 189، وأبو داود في الأدب 4875، وصححه الألباني).

 

والكلمة قد تكون سببًا في دخول صاحبها النار؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسًا يهوي بها سبعين خريفًا في النار"(الترمذي: 2314).

 

إنها رحلة السقوط في جهنم؛ رحلة تستغرق سبعين عامًا!! نعم سبعين عامًا من السقوط المريع إلى قاع النار بسبب كلمةٍ واحدة!! والحديث هنا لم يحدد ما هي هذه الكلمة ليظل القلب دومًا في يقظة، ويحاسب نفسه قبل كل كلمةٍ منكرة، ويراجع سجل كلماته الماضية ليلجم نفسه عن نطق أي كلمة يؤدي إلى المشاركة في الرحلة الجهنمية ذات الأعوام السبعين.

 

والقرآن زاخر بنماذج من الكلمات القاتلة كأنها رسالة تحذير وصيحة نذير: فأحد المنافقين دفعه نفاقه إلى قول: (ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي)[التوبة: 49]، فأتاه الإذن بالهلاك على الفور: (أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا)[التوبة: 49].

 

فرعون لما نطق بكلمته المتكبِّرة؛ (وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي)[الزخرف: 51]؛ كان عقابه أن أجراها الله من فوق رأسه غريقًا مدحورًا.

 

اليهود لما نطقوا كفرًا وقالوا: (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ)[المائدة: 64]؛ توعَّدهم الله وطردهم من رحمته بقوله: (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا)[المائدة: 64].

 

عباد الله: إن الكلمة الواحدة أيضًا لها أعظم الأثر في شفاء القلب من أمراضه، نعم كلمةٌ واحدة وحدها قد تشفي وتكفي رجلاً يغلي قلبه ويقذف الحمم على من حوله في ثورة غضبٍ عارمة، لذا أرشد النبي -صلى الله عليه وسلم- الغاضب، فقال: "إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد؛ لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ذهب عنه ما يجد"(صحيح البخاري :3282).

 

أخي الحبيب: ليس دواء القلب إذن في الصمت فقط، إنما دواؤه في التكلم بكلمات الخير، والكلمات الخبيثة في القلب المتسللة عبر اللسان لا تزيحها سوى كلمات الخير، ولسانك على ما عوَّدته.

 

عوِّد لسانك نطق الخير تحظ به *** إن اللسان لما عوَّدتَ معتاد.

مُوَكَّل بتقاضي ما سننتَ له *** فاختر لنفسك وانظر كيف ترتاد.

 

لكن ما هي كلمات الخير؟! أهي كلمات القرآن والذكر وحدها تشفي الصدور؟!

كلا.. إنها كذلك أي كلمة تفصل بين متنازعين، أو تُصلِح بين اثنين، أو تكشف حقًّا، أو ترد جائرًا، أو تُسكِّن غاضبًا، أو تُرشد حائرًا، أو تهدي عاصيًا، أو تُثبِّت مؤمنًا، أو تُواسي مكروبًا، أو تنصر مظلومًا.

 

وقد ترتقي هذه الكلمة بصاحبها لتبلغ به أعلى عليين، إنه حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه- وأمثاله فقال -صلى الله عليه وسلم-: "سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمامٍ جائر فأمره ونهاه، فقتله"(صحيح الجامع: 3675)، فكلمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي التي رفعت صاحبها إلى هذا المقام، بل ورفع النبي -صلى الله عليه وسلم- كلمة الحق إلى أن جعلها أحب جهاد إلى الله فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أحب الجهاد إلى الله: كلمة حق تُقال لإمامٍ جائر"(أخرجه أحمد والترمذي 2174، وصححه الألباني).

 

وكلمة الحق أيضًا هي التي هوت بتاركها إلى أن ألحقته بزمرة الشياطين، فالساكت عن الحق شيطان أخرس.

 

اللهم حسّن أخلاقنا وقوي إيماننا وأرفع درجاتنا وطهر قلوبنا وزكي نفوسنا برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

ألا وصلوا -عباد الله- على رسول الهدى؛ فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].

 

المرفقات

أبواب القلب (1).doc

أبواب القلب (1).pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات