أبواب القلب (2)

أمير بن محمد المدري

2024-09-22 - 1446/03/19 2025-04-22 - 1446/10/24
عناصر الخطبة
1/أهمية اللسان وتأثيره على القلب 2/نماذج على خطورة الكلمة 3/أهمية الكلمة الطيبة 4/الرجلان من أبواب القلب 5/صفات مشي النبي صلى الله عليه وسلم 6/سبع خطوات مباركات باليمين 7/أعظم الخطوات أجرًا.

اقتباس

فلما حرَّك قدمه في قضاء حاجة هذا العاجز؛ جازاه الله بمثلها وهو ثباتها على الصراط يوم تزل الأقدام، وقد حذَّر بعض السلف من التأخر عن هذا الفضل، وهدَّدوا بأن مَن امتنع أن يمشى مع أخيه خطوات في حاجته أمشاه الله -تعالى- أكثر منها في غير طاعته.

الخطبةُ الأولَى:

 

الحمد لله الذي أنشأ وبرا، وخلق الماء والثرى، وأبدع كل شيء وذرا، لا يغيب عن بصره صغير النمل في الليل إذا سرى، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى)[طه: 6 - 8].

 

خلق آدم فابتلاه ثم اجتباه فتاب عليه وهدى، وبعث نوحًا فصنع الفُلْك بأمر الله وجرى، وَنَجَّى الخليل من النار فصار حرها بردًا وسلامًا عليه، فاعتبِروا بما جرى.

 

أحمده على نعمه التي لا تزال تترى، وأصلّي وأسلم على نبيه محمد المبعوث في أُمّ القرى، صلى الله عليه وعلى صاحبه في الغار أبي بكر بلا مِرَا، وعلى عمر المُلْهَم في رأيه فهو بنور الله يرى، وعلى عثمان زوج ابنتيه ما كان حديثًا يُفْتَرَى، وعلى ابن عمه علي بحر العلوم وأسد الشرى، وعلى بقية آله وأصحابه الذين انتشر فضلهم في الورى، وسلم تسليمًا.

 

أما بعد: أيها الناس: اتقوا الله، واعتصموا بحبل الله، وتوكلوا في أموركم كلها على الله؛ قال -تعالى-: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)[آل عمران: 160]، وقال -تعالى-: (وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)[الحج: 78].

 

ما زلنا وإياكم مع المضغة التي لو صلحت صلح سائر الجسد. ما زلنا وإياكم مع محل نظر الخالق -جل وعلا-، إنه القلب؛ فالله لا ينظر إلى الصور والأموال والرتب، وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال.

 

فيا عجبًا ممن يهتم بوجهه الذي هو نظر الخَلْق فيغسله وينظفه من القذَر والدنس ويزيّنه بما أمكن لئلا يطَّلع فيه مخلوق على عيب، ولا يهتم بقلبه الذي هو محل نظر رب العالمين.

 

عباد الله: كان الباب الأول من أبواب القلب اللسان، وهو آلة النطق بالكلمات، والكلمة شأنها عظيم وخطرها جسيم، ولِمَ لا؟ فبكلمةٍ يدخل المرء في دين الله، حين يشهد أن لا اله إلا، الله وبكلمةٍ يخرج من دين الله، حين يقول كلمة الكفر.

 

وبكلمةٍ ينال رضوان الله، وبكلمةٍ يستحق سخط الله، وبكلمةٍ تحلّ له امرأة، وبكلمةٍ تحرم عليه، وبكلمةٍ يُسعِد حزينًا أو يُحْزِن سعيدًا، وبكلمةٍ قد يُذْبَح شريف أو تُرْمَى عفيفة، وبكلمةٍ قد يتمزق شمل ويتصدع صرح ويتفرق أحبّة، وبكلمةٍ قد تسيل برِك من الدماء وتنمو الأحقاد والشحناء، وبكلمةٍ تبكي العيون، وتلين الجلود، وتخشع القلوب، وتنشرح الصدور، وتعلو الهمم.

 

والكلمة إذا كانت صادقة فهي كلمة باقية مثمرة، فكم من كلمةٍ وُلدت حية وبقيت فيها الحياة بحياة أصحابها، بل وبعد مماتهم، وتأمل طويلاً هذا المثل القرآني الفريد لهذه الكلمة الصادقة الطيبة في قول الحق -سبحانه-: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)[إبراهيم: 24 - 25].

 

الكلمة الطيبة صدقة، الكلمة الطيبة تثري المال وتنمي الرزق وتصل الرحم وتُطيل في العمر.

الكلمة الطيبة: دواءٌ رباني لامتصاص الغضب والحقد من قلوب الآخرين.

الكلمة الطيبة: تطمس ملفات الماضي، وتفتح ملفًا جديدًا عنوانه الحب والخُلُق الفاضل.

 

الكلمة الطيبة: كالبلسم الشافي على قلوب الآخرين.

الكلمة الطيبة: تُضمد الجرح وهي لمسة رائعة...

 

وصدق الله القائل: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا)[الإسراء: 53]، وقال -تعالى-: (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُورًا)[الإسراء: 28]، وقال -تعالى-: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا)[البقرة: 83].

 

الكلمة الطيبة كشجرةٍ طيبة، جذورها عميقة، وفروعها باسقة، ومثمرة دائمة الخير والعطاء، تُؤتي ثمارها في كل حين، نظيفة الثمر، حلوة الطعم، طيبة الرائحة، جميلة اللون، بعكس الكلمة الخبيثة التي لا أصل لها ولا قرار، سيئة الثمار، مُرة الطعم، كريهة الرائحة، وبهذا يتضح الفرق بين الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة في آثارهما على الفرد والمجتمع.

 

أخي الحبيب: حاسِب نفسك، وأحْصِ قولك وراقِب كلّ كلمة تخرج من فؤادك قبل لسانك لتتعرف على هويتك ومعدنك.

 

نعم -أيها المسلمون-، و"هل يُكب الناس على مناخرهم أو على وجوههم إلا بسبب حصائد ألسنتهم"؟!

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا.

 

أما بعد: فيا أيها الإخوة الكرام: الباب الثاني من أبواب القلب: الرِّجْلان: هل تعلم كيف كان يمشي -صلى الله عليه وسلم-؟ كان يمشي مشيًا يُعرَف فيه أنه ليس بعاجز ولا كسلان.

 

ومن صفات مشيه أنه "كان إذا مشى تقلّع كأنما ينحدر من صبب"، والمراد به مشي السرعة والهمة والنشاط، فهو مشي العزم الذي لا يعرف الوهن، والثقة في صحة الوجهة والطريق التي لا يعتريها أدنى شك، والتصميم على بلوغ الهدف الذي لا يهدأ حتى يبلغ الغاية، فلا تواني ولا توقف.

 

وإليكم سبع خطوات مباركات باليمين:

وهي الخطوات التي تمشي بها قدمك نحو الخير، وما أكثر سُبُل الخير التي تستطيع أن تسلكها قدمك:

الأولى: تمشي في حاجة مسلم، متأملاً إغراء الثواب في قول رسول الله: -صلى الله عليه وسلم-: "ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له؛ أثبت الله -تعالى- قدمه يوم تزل الأقدام"(رواه ابن أبى الدنيا في قضاء الحوائج ص 80 رقم 36 وحسنه الألباني في الصحيحة 906).

 

فلما حرَّك قدمه في قضاء حاجة هذا العاجز؛ جازاه الله بمثلها وهو ثباتها على الصراط يوم تزل الأقدام، وقد حذَّر بعض السلف من التأخر عن هذا الفضل، وهدَّدوا بأن مَن امتنع أن يمشى مع أخيه خطوات في حاجته أمشاه الله -تعالى- أكثر منها في غير طاعته.

 

وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لأن أمشى في حاجة أخي المسلم أحب إلىّ من أن اعتكف في المسجد شهرًا - يعنى: مسجد المدينة -"(صحيح الجامع: 176).

 

الثانية: تمشي في عيادة مسلم لتجد الله عنده، فتسأله ما تشاء وتنال منه الكرامة والثواب، ففي حديث مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله -عز وجل- يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني. قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده"(صحيح مسلم: 16/125).

 

وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا عاد الرجل أخاه المسلم؛ مشى في خرافة الجنة حتى يجلس، فإذا جلس غمرته الرحمة، فإن كان غدوةً صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن كان مساء صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح"(أخرجه أحمد 1/ 81، والترمذي: 969، وقال: حسن، وصححه الحاكم 1/ 341-342).

 

الخطوة الثالثة: التي تمشي في أعقاب جنازة؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن تبع جنازة فصلَّى عليها فله قيراط، وإن شهد دفنها فله قيراطان، القيراط مثل أحد"(أخرجه البخاري: 47).

 

الخطوة الرابعة: تمشي إلى مسجد، ويا حبذا لو كان بعيدًا لتكثر الخُطى وتتتابع، واحدة تحط خطيئة، والأخرى ترفع درجة، لتجد كل ذنوبك قد نُسفت مع أول خطوة تطأ بها عتبة بيت الله؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "من توضأ للصلاة فأسبغ الوضوء، ثم مشى إلى الصلاة المكتوبة، فصلاها مع الناس غفر الله له ذنوبه". وكلما زادت المسافات تكاثرت الحسنات قال -صلى الله عليه وسلم-: "أعظم الناس أجرًا في الصلاة أبعدهم إليها ممشى"(رواه البخاري 2/ 137).

 

هذا في صلاة الفرض، فماذا عن النافلة؟! اسمع واطرب؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن مشى إلى صلاةٍ مكتوبة في الجماعة فهي كحجة، ومن مشى إلى صلاة تطوع فهي كعمرة نافلة"(حسنه الألباني في صحيح الجامع، 6556).

 

الخطوة الخامسة: تمشي المشية الأسبوعية المباركة التي تضاعف أجرك فوق الخيال، وهي مشيك إلى صلاة الجمعة، والخطوة منها بعبادة سنة!! قال -صلى الله عليه وسلم-: "من غسَّل يوم الجمعة واغتسل، ثم بكَّر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام، واستمع وأنصت ولم يلغُ؛ كان له بكل خطوة يخطوها من بيته إلى المسجد عمل سنة أجر صيامها وقيامها"(أخرجه أحمد 4/10، وأبو داود 345، والترمذي: 496).

عجيب ذاك المسلم الذي يسمع هذا الفضل العظيم ويتأخر عن الجمعة ويأتي بعد صعود الخطيب.

 

الخطوة السادسة: تمشي في زيارة أخ لك في الله لتأنس به وتتواصى معه بالحق والصبر؛ طامعًا في جائزة هذا الحديث قوله -صلى الله عليه وسلم-: "زار رجل أخًا له في قرية، فأرصد الله له مَلكًا على مدرجته، فقال: أين تريد؟ قال: أخًا لي في هذه القرية، فقال: هل له عليك من نعمة تربّها؟ قال: لا، إلا أني أحبه في الله. قال: فإني رسول الله إليك؛ أن الله أحبك كما أحببته"(رواه مسلم 2567).

 

الخطوة السابعة: تمشي في دعوة الخلق وهداية الناس حتى تكلّ قدماك ويبلى حذاؤك!! وتطبِّق قاعدة: (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ)[يس: 20]، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من اغبرَّت قدماه في سبيل الله حرَّمه الله على النار"(صحيح الترغيب للألباني: 1273).

 

 هذا وصلوا -عباد الله- على رسول الهدى؛ فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].

 

اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين.

 

المرفقات

أبواب القلب (2).doc

أبواب القلب (2).pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات