عناصر الخطبة
1/وجوب الحرص على سلامة القلب 2/علاقة الشم بالقلب 3/خطورة شم الحرام 4/تحذير ووعيد شديد للمرأة المتعطرة خارج بيتها 5/الشم المستحب 6/قصة عجيبة في حسن الخاتمة 7/أربع نظرات حرام 8/ أهم ثمار غض البصر وأجلها.اقتباس
وخائنة العين هي أن يُضمر الإنسان في قلبه غير ما يُظْهِر للناس، فإذا كفَّ أحد لسانه وأومأ بعينه بخلاف ذلك فقد خان، وإذا أطلق لسانه بحلو الحديث عن أحد وأومأ بعينه بعكس ذلك من ورائه فقد خان، فلا بد للعين من أن تُوافق القلب وإلا كانت خائنة. نعوذ بالله من خائنة الأعين...
الخطبةُ الأولَى:
الحمد لله الحميد في وصفه وفِعله، الحكيم في خلقه وأمره، الرحيم في عطائه ومنعه، المحمود في خفضه ورفعه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في كماله وعظمته ومجده، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أفضل مرسل من عنده، اللهم صلّ وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وجنده.
أما بعد: عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله وطاعته؛ فاتقوا الله في السر والعلن، فبالتقوى تُستنزل البركات وتجلب الرحمات وتفرج الكربات وتُستجلى العقبات وتستدفع العقوبات؛ (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[الأعراف: 96].
هذا هو اللقاء الخاتم مع القلوب وأبوابها؛ لسانٌ وسمع ويدان ورجلان، وشم وبصر. هنيئًا لمن ملأ قلبه بحب الله وخشيته وخوفه مراقبته. هنيئًا لمن حرس قلبه من الشهوات والشبهات. هنيئًا لأصحاب القلوب السليمة الطاهرة من الشرك والغل والبغضاء.
والباب الخامس -عباد الله- الشم؛ وهو ثغرٌ يوصل إلى القلب، وقد يدخل منه الحرام البيِّن كشم المرأة الأجنبية عمدًا، لذا عرف الصحابة خطورة هذا الثغر حتى قرَّر أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- فقال: "لأن يمتلئ منخراي من ريح جيفة أحب إليَّ من أن يمتلئا من ريح امرأة".
وما ذلك إلا لأنه تعلَّم من نبيه -صلى الله عليه وسلم- الذي شدَّد على كل امرأة تعطَّرت أن لا تخرج من بيتها ولو لأطهر مكان وهو المسجد لأداء أسمى عبادة وهي الصلاة، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تُقبل صلاة لامرأة تتطيب لهذا المسجد حتى ترجع فتغتسل غسلها من الجنابة"(صحيح الجامع: 7385).
بل ووصفها بوصف غاية في الشدة لينفِّر كل امرأة منه فقال: "إذا استعطرت المرأة فمرت على القوم ليجدوا ريحها فهي زانية"(صحيح الجامع: 2701). لكن لماذا هذا الوصف المريع: زانية؟! والجواب: لأنها هيَّجت شهوة الرجال بعطرها، وحملتهم على النظر إليها، فالشم هنا قام مقام النظر؛ حيث قاد إليه، وكل من نظر إليها فقد زنى بعينه؛ وتشوَّش قلبه، ووهن إيمانه.
وقد تنافس في حراسة هذا الثغر أبطال أفذاذ حتى لا يدخل منه ما يُعكِّر صفو القلب، ولو كان مباحًا ولكنه الورع؛ كما روى يونس بن أبي الفرات: أن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- أُتي بغنائم مسك، فأخذ بأنفه، فقالوا: يا أمير المؤمنين!! تأخذ بأنفك لهذا؟ قال: "إنما يُنتَفع من هذا بريحه، فأكره أن أجد ريحه دون المسلمين".
وأما الشم المستحب، فشم ما يُعينك على طاعة الله ويُقوّي حواسك على ذلك، ويبسط النفس إلى العلم والعمل، ولهذا كان مما حُبِّب إلى نبينا من دنيانا الطيب، وكان هديه في الريحان أن لا يرده إذا أُهدي إليه، وقال -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح مسلم: "من عُرِض عليه ريحان؛ فلا يرده؛ فإنه طيّب الريح خفيف المحمل".
ومن الشم المستحب: شم الزوج لعطر زوجته، والزوجة لعطر زوجها، وعندما يجد كل منهما الريح الطيب والعطر الشذي من زوجه يزداد له حبًّا وألفةً وارتباطًا وقُربى.
أخي الحبيب: تريد أن تشم رائحة الجنة جاء عن جابر -رضي الله عنه- قال: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا معشر المسلمين إياكم وعقوق الوالدين، فإن ريح الجنة توجد من مسيرة ألف عام، والله لا يجد ريحها عاقّ"(أخرجه أحمد 1/143، والحاكم) لكن هذه المسافة تقترب متى ما ارتفع الإيمان وما أنس بن النضر عنكم ببعيد -رضي الله عنه- قال يوم أُحُد: "واهًا لريح الجنة إني لأجد ريحها من وراء أحد".
وفي الواقع يقول أحد الأطباء: اتصل بي المستشفى وأخبروني عن حالة خطيرة تحت الإسعاف… فلما وصلت إذا بالشاب قد توفي -رحمه الله-؛ ولكن ما هي تفاصيل وفاته فكل يوم يموت المئات بل الآلاف، ولكن كيف تكون وفاتهم؟!! وكيف خاتمتهم؟!! اللهم أحسن ختامنا يا رب العالمين.
أُصيب هذا الشاب بطلقة نارية عن طريق الخطأ فأسرع والداه، ولما كانا في الطريق التفت إليهما الشاب وتكلم معهما!! ولكن!! ماذا قال؟ هل كان يصرخ ويئن؟! أم كان يتسخط ويشكو؟! أما ماذا؟! يقول والداه: كان يقول لهما لا تخافا!! فإني ميت... واطمئنا… فإني أشم رائحة الجنة، ليس هذا فحسب بل كرر هذه الكلمات الإيمانية عند الأطباء في الإسعاف... حيث حاولوا وكرروا المحاولات لإسعافه... فكان يقول لهم: يا إخواني إني ميت لا تتعبوا أنفسكم... فإني أشم رائحة الجنة. ثم طلب من والديه الدنو منه وقبَّلهما وطلب منهما السماح، وسلّم على إخوانه ثم نطق بالشاهدتين!! أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله. ثم أسلم روحه إلى بارئها -سبحانه وتعالى- الله أكبر!!!
ماذا أقول؟! وبِمَ أعلق؟! أجد أن الكلمات تحتبس في فمي، والقلب يرتجف في يدي، ولا أملك إلا أن أردد، وأتذكر قول الله -تعالى-: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ)[إبراهيم: 27].
فلما أخذوه ليغسّلوه شاهدوا عجبًا! كما يقول من غسّله:
أولاً: رأى المغسل جبينه يقطر عرقًا. قلت لقد ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن المؤمن يموت بعرق الجبين... وهذا من علامات حُسن الخاتمة.
ثانيًا: يقول كانت يداه لينتين وفي مفاصله ليونة كأنه لم يمت، وفيه حرارة لم أشهدها من قبل فيمن أُغسلهم!!
ومعلوم أن الميت يكون جسمه باردًا وناشفًا ومتخشبًا.
ثالثًا: كانت كفه اليمنى في مثل ما تكون في التشهد؛ قد أشار بالسبابة للتوحيد والشهادة وقبض بقية أصابعه... سبحان الله... ما أجملها من خاتمة نسأل الله حسن الخاتمة.
أحبتي: القصة لم تنتهِ بعدُ!! سألنا والده عن ولده وماذا كان يصنع؟!
أتدري ما هو الجواب؟! أتظن أنه كان يقضي ليله متسكعًا في الشوارع أو رابضًا عند القنوات الفضائية والتلفاز يشاهد المحرمات... أم يغطُّ في نوم عميق حتى عن الصلوات... أم مع شلل الضياع وغيرها؟!
أم ماذا يا ترى كان يصنع؟! وكيف وصل إلى هذه الخاتمة التي لا أشك أخي القارئ أنك تتمناها... أن تموت وأنت تشم رائحة الجنة!
قال والده: لقد كان غالبًا ما يقوم الليل؛ فيصلي ما كتب الله له، وكان يوقظ أهل البيت كلهم ليشهدوا صلاة الفجر مع الجماعة وكان حافظًا لكتاب الله، وكان من المتفوقين في دراسته الثانوية.
عباد الله: أما الباب السادس والأخير فهو البصر؛ وهناك أربع نظرات حرام:
النظرة الأولى: النظرة المتطلعة: قال -تعالى- آمرًا نبيه -صلى الله عليه وسلم-: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[طه: 131]؛ ومعنى الآية: لا تطمح ببصرك إلى زخارف الدنيا طموح رغبة وتمني، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم"(أخرجه مسلم في صحيحه).
ويا لها من وصية شاملة جامعة مانعة، كلماتها قليلة، وفوائدها غزيرة، وحين خالف ابن عون هذه الوصية ونظر إلى من هو أعلى منه دنيا؛ صنع حسرته بنفسه وأورد نفسه موارد ندمه، فقال -رحمه الله-: "صحبتُ الأغنياء فلم أر أحدًا أكثر همًّا مني، أرى دابة خيرًا من دابتي، وثوبًا خيرًا من ثوبي، وصحبتُ الفقراء فاسترحت". وهو ما قرَّره أبو سليمان الداراني حين قال: "إذا جاءت الدنيا إلى القلب ترحَّلت الآخرة منه، وإذا كانت الدنيا في القلب لم تجئ الآخرة تزحمها؛ لأن الدنيا لئيمة والآخرة عزيزة".
النظرة الثانية: النظرة الخائنة:
وخائنة العين هي أن يُضمر الإنسان في قلبه غير ما يُظْهِر للناس، فإذا كفَّ أحد لسانه وأومأ بعينه بخلاف ذلك فقد خان، وإذا أطلق لسانه بحلو الحديث عن أحد وأومأ بعينه بعكس ذلك من ورائه فقد خان، فلا بد للعين من أن تُوافق القلب وإلا كانت خائنة. نعوذ بالله من خائنة الأعين.
النظرة الثالثة: النظرة المتلصصة:
قال-صلى الله عليه وسلم-: "مَن اطلع في بيت قومٍ بغير إذن ففقئوا عينه فلا دية له ولا قصاص"(صحيح مسلم: 14/138]، ولذا شرع الله الاستئذان؛ قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النور: 27].
النظرة الرابعة: النظرة الجائعة:
وهي نظرة الرجل إلى المرأة الأجنبية بشهوة، ونظرة المرأة إلى الرجل الأجنبي بشهوة، وهؤلاء هم.. الشاربون من البحر!!
قد لا تلمح ما تفعله النظرة في قلب صاحبها في التوّ، لكنها تزرع النار في الفؤاد لتأتي عليه آخر الليل لتُحيله رمادًا في رماد، بل تأتي هذه النظرة والصورة وأنت في أطهر مكان، وفي خير موقف في السجود بين يدي الله ليمنعك من الخشوع.
قال أحد الصالحين: أما سمعت قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة أو تمثال"(أخرجه البخاري 5958)؛ فإذا كان الملك لا يدخل بيتًا فيه صورة أو تمثال، فكيف تدخل شواهد الحق قلبًا فيه أوصاف غيره من البشر".
عباد الله: بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أيها المسلمون: النظر إلى النساء، فتنة ليس لها من دون الله حامٍ ولا مانع، مصيبة كبيرة، ومفسدة ضخمة، وشر مستطير، وبلاء ومحنة، اللهم اعصمنا منها، واحفظنا عن الوقوع فيها، وارحمنا يا أرحم الراحمين، فإنه لا حول لنا ولا طول بها.
في الصحيحين من حديث أَبي هُرَيْرَةَ عَن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ".
أيها الإخوة: النظر بريد الزنا، قال الشاعر:
كل الحوادث مبدؤها من النظر *** ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرةٍ فتكت في قلب صاحبها *** فتك السهام بلا قوسٍ ولا وتر
والعبد ما دام ذا عين يقلبها *** في أعين الغيد موقوف على خطر
يسر ناظره ما ضر خاطره *** لا مرحبًا بسرور عاد بالضرر
القلب بيتٌ والعين بابه، ولا يدخل لصٌّ البيت إلا والباب مفتوح، فإذا دخل سرق حِلية الإيمان وجوهر التقوى، وترك القلب خرابًا في خراب، فاحذر -أخي الحبيب- هذا اللص؛ فإنه خفيف الحركة تكفيه لحظة واحدة ليتسلل -لحظة واحدة فقط-؛ ولهذا لما سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن نظر الفجأة قال: "اصرف بصرك"(أخرجه مسلم: 2159)؛ أي: أحكم إغلاق الباب، وضع عليه حراسة أمن مشددة من جنود المراقبة، ولا تفتحه ولو لحظة واحدة؛ (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)[النور: 30].
سُئل الإمام الجنيد -رحمه الله-: بِمَ يُستعان على غض البصر؟ قال: "بعلمك أن نظر الله إليك أسبق إلى ما تنظره". وكان الإمام أحمد ينشد:
إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل *** خلوت ولكن قل عليّ رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعةً *** ولا أن ما يخفى عليه يغيب
الدعاء خير سلاح، وأقوى وسيلة، وأنفع دواء، به استعانة برب الأرض والسماء، به النصر على الأعداء؛ فاستعن به يا أخي.
أخي الحبيب: ادع الله دائمًا أن يحفظ عليك إيمانك، وأن يقوّي عزيمتك على غضّ البصر، وحفظ النظر، ادع الله في ليلك ونهارك، في أوقات الاستجابة، وفي كل وقت.
من شغله اليوم التطلع إلى الغيد الحسان؛ فليعقد مقارنة بينهن وبين الحور لتعلم الفرق بين هذه وتلك الحور وما الحور: تجري الشمس من محاسن وجهها إذا برزت، ويضيء البرق من ثناياها إذا ابتسمت، لو اطلعت على الدنيا لملأت ما بين السماء والأرض ريحًا، ولاستنطقت أفواه الخلائق تهليلاً وتكبيرًا وتسبيحًا، ولتزخرف لها ما بين الخافقين، ولما نامت عن النظر إليها عين، ولطمست ضوء الشمس كما يطمس الشمس ضوء النجوم، ولآمن من على ظهرها بالله الحي القيوم، نصيفها "خمارها" الذي يُخفي جمالها خيرٌ من الدنيا وما فيها فكيف جمالها؟ بياض لحمها يسطع من وراء سبعين حلة من فوقها فكيف ضياؤها؟ لولا أن الله كتب على أهل الجنة أن لا يموتوا لماتوا من فرط حسنها وجمالها، فما ظنك بامرأة إذا ضحكت في وجه زوجها أضاءت الجنة من ضحكها!! وإذا انتقلت من قصر إلى قصر قلت هذه الشمس متنقلة في بروج أفلاكها. كل هذا وأنت مشغول بالجيف!!
يا من وقّع العقد: نظران لا يجتمعان من غض طرفه اليوم عن الطين أطلقه غدًا في الحور العين، ومن أطلقه اليوم حرمه غدًا فاختر لنفسك، وقدِّم -إن شئت- المهر الذي أرشدك إليه أبو الدرداء -رضي الله عنه- فقال: "من غض بصره عن النظر الحرام زُوِّج من الحور العين حيث أحب".
يا خاطب الحور الحسان *** وطالبًا لوصالهن بجنة الحيوان
لو كنت تدري من خطبت ومن *** طلبت بذلت ما تحوي من الأثمان
أو كنت تعرف أين مسكنها *** جعلت السعي منك لها على الأجفان
أسرع وحث السير جهدك *** إنما مسراك هذا ساعةٌ لزمان
فاعشق وحدث بالوصال النفس *** وابذل مهرها ما دمت ذا إمكان
واجعل صيامك دون لقياها *** ويوم الوصل يوم الفطر من رمضان
الفراسة الصادقة: تظل الفراسة الصادقة منزلة إيمانية محتكرة لمن أصلح قلبه وحفظ هذه الأبواب وغض بصره محجوزة له لا يزاحمه فيها إلا مثيله، وهي التي تميز بين الصادق والكاذب بين المُحِقّ والمبطل بين الباكي والمتباكي، وهذه أهم ثمار غض البصر وأجلها؛ قال شاه بن شجاع الكرماني: "من عمّر ظاهره باتباع السنة وباطنه بدوام المراقبة وغض بصره عن المحارم وكف نفسه عن الشهوات واعتاد أكل الحلال لم تخطئ له فراسة".
عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يومًا وقف على منبر وصاح بصوت مرتفع أثناء الخطبة "يا سارية الجبل" ثلاث مرات بعد الخطبة، قال له عبد الرحمن بن عوف: ما هذا الذي فعلت أثناء الخطبة؟ لقد تكلم الناس عنك. فقال: والله لا أدرى، لقد وجدتني أصيح يا سارية الجبل.
بعد يومين جاء رسول من المعركة، قال سارية رئيس الجند يبشرك يا أمير المؤمنين بالنصر. والله كان الكفار منتصرين علينا حتى ساعة صلاة الجمعة الماضية، وسمعنا صوتًا يصيح: يا سارية الجبل فلزم سارية ومن معه الجبل وحاربنا فانتصرنا عليهم؛ فقال عمر -رضي الله عنه-: الحمد لله.
كان عثمان بن عفان -رضي الله عنه- علمًا من أعلام الفراسة وشيخًا من شيوخها استحيا من الله فاستحيت منه ملائكة الله، وغض طرفه عن الآثام فأورثه الله فراسة يكشف بها كل من أطلق بصره وزنا به ظانًّا أن أحدًا لن يعرف من أمره شيئًا، فإذا بعثمان يعلم ويكشف لا ليفضح بل لينصح. دخل عليه رجل فقال له عثمان: يدخل عليّ أحدكم والزنا في عينيه، فقال: أَوَحْيٌ بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فقال: "لا ولكن فراسة صادقة".
وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يروي عن ربه-عز وجل- أنه قال: "ما تقرب إليّ عبدي بمثل ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها"؛ فصار قلبه كالمرآة الصافية تبدو فيها صور الحقائق على ما هي عليه فلا تكاد تخطئ، له فراسة فإن العبد إذا أبصر بالله أبصر الأمر على ما هو عليه، فإذا سمع بالله سمعه على ما هو عليه وليس هذا من علم الغيب بل علام الغيوب قذف الحق في قلب قريب.
روي عن الشافعي ومحمد بن الحسن أنهما كانا بفناء الكعبة ورجل على باب المسجد فقال أحدهما: أراه نجارًا، وقال الآخر: بل حدادًا، فتبادر مَن حضر إلى الرجل فسأله فقال: كنت نجارًا وأنا اليوم حداد.
وقال مالك عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال لرجل: ما اسمك؟ قال: جمرة، قال: ابن من؟ قال ابن شهاب، قال: ممن، قال: من الحرقة، قال أين مسكنك؟ قال: بحرة النار، قال: أيها؟ قال بذات لظى، فقال عمر: أدرك أهلك؛ فقد احترقوا. فكان كما قال.
هذا وصلوا -عباد الله- على رسول الهدى؛ فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم