عناصر الخطبة
1/ المقصود بالبيئة الصالحة وأهميتها في تربية المراهق 2/لماذا حرص الإسلام على اختيار البيئة الصالحة؟ 3/البيئة الصالحة آثار حسنة وثمار طيبة على تربية المراهقين 4/مخاطر البيئة السيئة في تربية المراهقين.اقتباس
إِنَّ دِينَنَا الْحَنِيفَ يَأْمُرُنَا بِاخْتِيَارِ الْبِيئَاتِ الطَّيِّبَاتِ، وَالْعَيْشِ فِي الْأَمَاكِنِ الصَّالِحَاتِ؛ لِأَنَّ الْبِيئَةَ مَعْدُودَةٌ مِنَ الْمُؤَثِّرَاتِ عَلَى الْإِنْسَانِ، فِي رُؤَاهُ وَتَفْكِيرِهِ، وَأَعْمَالِهِ وَأَقْوَالِهِ؛ فَكَمْ مِنْ أُنَاسٍ صَحَّتْ عَقَائِدُهُمْ، وَاسْتَقَامَتْ جَوَارِحُهُمْ، وَاتَّقَدَتْ عَزَائِمُهُمْ وَهِمَمُهُمْ...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71].
أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: بَيْنَ الطُّفُولَةِ وَالرُّشْدِ مَرْحَلَةٌ تَتَّسِمُ بِالتَّجَدُّدِ، وَيَعِيشُ صَاحِبُهَا زَمَنًا فِي صِرَاعٍ وَتَرَدُّدٍ، عِرَاكٌ فِي دَاخِلِ نَفْسِهِ، وَمَشَاكِلُ مَعَ أَقَارِبِهِ وَبَنِي جِنْسِهِ، يَتَرَقَّى فِي مَصَاعِدِهَا، وَهُنَاكَ مَا يَجْذِبُهُ إِلَى الْعَوْدَةِ إِلَى مَا قَبْلَهَا، هَذِهِ الْمَرْحَلَةُ هِيَ الْمُرَاهَقَةُ، وَهِيَ مَرْحَلَةٌ صَعْبَةٌ عَلَى أَهْلِهَا وَذَوِيهِمْ، فَتَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يَأْخُذُ بِأَيْدِيهِمْ، عَبْرَ أَسَالِيبَ مُعِينَةٍ عَلَى تَجَاوُزِ صُعُوبَاتِ هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ الْحَرِجَةِ، وَمِنْ تِلْكَ الْأَسَالِيبِ السَّالِكَةِ النَّافِعَةِ: اخْتِيَارُ الْبِيئَةِ الصَّالِحَةِ.
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ الْبِيئَةَ الصَّالِحَةَ هِيَ: الْأَمَاكِنُ الْمَأْمُونَةُ، الَّتِي تَزْرَعُ فِي نَشْئِنَا سَلَامَةَ فِكْرِهِمْ، وَاسْتِقَامَةَ سُلُوكِهِمْ، وَصَلَاحَ نُفُوسِهِمْ، وَاسْتِنَارَةَ عُقُولِهِمْ، وَتَبْنِي مِنْهُمْ جِيلًا صَالِحًا فِي دِينِهِ، نَافِعًا فِي دُنْيَاهُ.
وَالْبِيئَةُ الصَّالِحَةُ تَسْتَطِيعُونَ -مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ- أَنْ تَبْنُوهَا فِي بُيُوتِكُمْ، فَتَجْعَلُوا مِنْهَا مَنَارَةَ إِشْعَاعٍ تَبْزُغُ مِنْهَا أَنْوَارٌ هَادِيَةٌ مِنَ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ، الَّذِينَ يُصْلِحُونَ الْمُجْتَمَعَاتِ، وَهَذِهِ مِنْ أَمَانَاتِكُمْ وَمَسْؤُولِيَّاتِكُمْ فِي الْقِيَامِ عَلَى أُسَرِكُمْ، قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)[النِّسَاءِ:58].
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ... وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).
أَلَا وَإِنَّ مِنْ أَحْسَنِ مَا تَجْعَلُونَ بِهِ بُيُوتَكُمْ بِيئَةً صَالِحَةً: أَنْ تَكُونُوا لَهُمْ قُدْوَةً حَسَنَةً فِي أَقْوَالِكُمْ وَأَفْعَالِكُمْ؛ فَإِنَّهُمْ بِكُمْ يَقْتَدُونَ، وَعَلَى طَرِيقِكُمْ يَسْلُكُونَ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: دَعَتْنِي أُمِّي يَوْمًا وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَاعِدٌ فِي بَيْتِنَا، فَقَالَتْ: هَا، تَعَالَ أُعْطِيكَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيَهُ"، قَالَتْ: أُعْطِيهِ تَمْرًا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِيهِ شَيْئًا كُتِبَتْ عَلَيْكِ كِذْبَةٌ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ).
وَالْبِيئَةُ الصَّالِحَةُ أَيْضًا نَجِدُهَا فِي الْمَحَاضِنِ الْعِلْمِيَّةِ وَالتَّرْبَوِيَّةِ الَّتِي نُرْسِلُ أَوْلَادَنَا إِلَيْهَا؛ فِي مَدْرَسَةٍ أَوْ مَرْكَزٍ أَوْ جَامِعَةٍ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُحْسِنَ اخْتِيَارَ الْمَحَاضِنِ النَّافِعَةِ؛ فَمَتَى وَجَدْنَا إِدَارَتَهُ وَمُعَلِّمِيهِ وَمُرَبِّيَهُ قَائِمِينَ بِأَمَانَتِهِمْ، مُتْقِنِينَ لِمَسْؤُولِيَّتِهِمْ أَوْدَعْنَاهُمْ هُنَاكَ آمِنِينَ.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ لِلْبِيئَةِ الصَّالِحَةِ أَهَمِّيَّةً كَبِيرَةً، وَدَوْرًا عَظِيمًا فِي تَنْشِئَةِ الْمُرَاهِقِ عَلَى الْخَيْرِ وَالْهُدَى، وَالْبِرِّ وَالتَّقْوَى؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ ابْنُ بِيئَتِهِ، وَمُتَأَثِّرٌ بِالْوَاقِعِ الَّذِي يَعِيشُ بَيْنَ جَوَانِبِهِ؛ وَلِهَذَا إِذَا كَانَتِ الْبِيئَةُ فَاسِدَةً، وَالظُّرُوفُ الْمَكَانِيَّةُ غَيْرَ مُسَاعِدَةٍ؛ فَإِنَّ الدِّينَ وَالْعَقْلَ يَدْعُوَانِ إِلَى الِانْتِقَالِ، وَالْإِسْرَاعِ بِالِارْتِحَالِ، وَاسْمَعُوا هَذِهِ الْقِصَّةَ الَّتِي تُبَيِّنُ أَهَمِّيَّةَ الْبِيئَةِ الصَّالِحَةِ، وَخَطَرَ الْبِيئَةِ السَّيِّئَةِ؛ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لَا، فَقَتَلَهُ، فَكَمَّلَ بِهِ مِئَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِئَةَ نَفْسٍ، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُدِ اللَّهَ مَعَهُمْ، وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ، فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ، فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقُ أَتَاهُ الْمَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلًا بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ، وَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ، فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ، فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ، فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ".
إِخْوَةَ الْإِسْلَامِ: إِنَّ دِينَنَا الْحَنِيفَ يَأْمُرُنَا بِاخْتِيَارِ الْبِيئَاتِ الطَّيِّبَاتِ، وَالْعَيْشِ فِي الْأَمَاكِنِ الصَّالِحَاتِ؛ لِأَنَّ الْبِيئَةَ مَعْدُودَةٌ مِنَ الْمُؤَثِّرَاتِ عَلَى الْإِنْسَانِ، فِي رُؤَاهُ وَتَفْكِيرِهِ، وَأَعْمَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، فَكَمْ مِنْ أُنَاسٍ صَحَّتْ عَقَائِدُهُمْ، وَاسْتَقَامَتْ جَوَارِحُهُمْ، وَاتَّقَدَتْ عَزَائِمُهُمْ وَهِمَمُهُمْ حِينَ عَاشُوا فِي بِيئَةِ الصَّلَاحِ الْعَامِّ، وَظُهُورِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، عَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ، وَالْجَلِيسِ السُّوءِ، كَحَامِلِ الْمِسْكِ، وَنَافِخِ الْكِيرِ؛ فَحَامِلُ الْمِسْكِ: إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ: إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَلِذَلِكَ حَثَّتْنَا شَرِيعَتُنَا الْغَرَّاءُ، عَلَى اخْتِيَارِ صَالِحِي الْجُلَسَاءِ، وَانْتِقَاءِ الْمُتَّقِينَ مِنَ الْقُرَنَاءِ؛ لِأَنَّ صُحْبَتَهُمْ فِي الدُّنْيَا نَافِعَةٌ، وَفِي الْآخِرَةِ مُفِيدَةٌ وَشَافِعَةٌ، قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)[الزُّخْرُفِ:67].
قَالَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "عَلَيْكُمْ بِالْإِخْوَانِ؛ فَإِنَّهُمْ عُدَّةٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ أَلَا تَسْمَعُ إِلَى قَوْلِ أَهْلِ النَّارِ: (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ)[الشُّعَرَاءِ:100-101]؟".
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ).
قَالَ الشَّاعِرُ:
عَنِ الْمَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ *** فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارِنِ يَقْتَدِي
إِذَا كُنْتَ فِي قَوْمٍ فَصَاحِبْ خِيَارَهُمْ *** وَلَا تَصْحَبِ الْأَرْدَى فَتَرْدَى مَعَ الرَّدِي
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: إِنَّ لِلْبِيئَةِ الصَّالِحَةِ آثَارًا حَسَنَةً فِي تَرْبِيَةِ الْمُرَاهِقِينَ، وَثِمَارًا طَيِّبَةً فِي تَنْشِئَتِهِمْ عَلَى صَلَاحِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ؛ فَهِيَ لَهُمُ الْحِصْنُ الْأَمِينُ، الَّذِي يَحْمِيهِمْ كَيْدَ الْمُفْسِدِينَ وَالشَّيَاطِينِ، فَلَوْ كَانُوا فِي بِيئَةٍ فَاسِدَةٍ لَتَخَطَّفَتْهُمْ أَيْدِي الْفَسَادِ، وَرُبَّمَا صَارُوا مِنَ الْأَئِمَّةِ الدَّاعِينَ إِلَيْهِ، وَصَدَقَ فِيهِمْ قَوْلُ الشَّاعِرِ بِلِسَانِ حَالِهِمْ:
وَكُنْتُ امْرَأً مِنْ جُنْدِ إِبْلِيسَ فَارْتَقَى *** بِيَ الدَّهْرُ حَتَّى صَارَ إِبْلِيسُ مِنْ جُنْدِي
فَلَوْ مَاتَ قَبْلِي كُنْتُ أُحْسِنُ بَعْدَهُ *** طَرَائِقَ فِسْقٍ لَيْسَ يُحْسِنُهَا بَعْدِي
وَمِنْ آثَارِ الْبِيئَةِ الْحَسَنَةِ فِي تَرْبِيَةِ الْمُرَاهِقِينَ: أَنَّهَا تُعِينُهُمْ عَلَى تَقْوِيمِ السُّلُوكِ الْمُعْوَجِّ، وَإِصْلَاحِ الْخُلُقِ الْمُنْحَرِفِ، وَتُسَاعِدُهُمْ عَلَى قَضَاءِ حَاجَاتِهِمْ، فَكَمْ مِنْ مُرَاهِقٍ يَنْفَعُهُ جُلَسَاؤُهُ الصَّالِحُونَ، أَحْسَنَ مِمَّا يَنْفَعُهُ أَهْلُهُ الْأَقْرَبُونَ؛ قَالَ الْحَسَنُ: "الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ أَخِيهِ؛ إِنْ رَأَى فِيهِ مَا لَا يُعْجِبُهُ سَدَّدَهُ وَقَوْمَهُ، وَحَاطَهُ وَحَفِظَهُ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ".
وَقَالَ رَجُلٌ لِدَاوُدَ الطَّائِيِّ: أَوْصِنِي. قَالَ: "اصْحَبْ أَهْلَ التَّقْوَى؛ فَإِنَّهُمْ أَيْسَرُ أَهْلِ الدُّنْيَا عَلَيْكَ مُؤْنَةً، وَأَكْثَرُهُمْ لَكَ مَعُونَةً".
وَمِنْ آثَارِ الْبِيئَةِ الْحَسَنَةِ فِي تَرْبِيَةِ الْمُرَاهِقِينَ: تَحْفِيزُ الْمُرَاهِقِ عَلَى الْخَيْرَاتِ، وَمَنْعُهُ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْمُنْكَرَاتِ؛ وَلَعَلَّكُمْ -أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْفُضَلَاءُ- قَدْ رَأَيْتُمْ مَنْ قَادَتْهُ إِلَى الْخَيْرِ الْبِيئَةُ الصَّالِحَةُ، وَمَنْ كَفَّ عَنْ مُنْكَرٍ بِسَبَبِ صُحْبَةٍ نَاصِحَةٍ؛ وَقَدْ قِيلَ: "اصْحَبْ مَنْ إِذَا صَحِبْتَهُ زَانَكَ، وَإِنْ خَدَمْتَهُ صَانَكَ، وَإِذَا أَصَابَتْكَ خَصَاصَةٌ مَانَكَ، وَإِنْ رَأَى مِنْكَ حَسَنَةً سُرَّ بِهَا، وَإِنْ رَأَى مِنْكَ سَقْطَةً سَتَرَهَا".
فَاحْرِصُوا -عِبَادَ اللَّهِ- فِي تَرْبِيَةِ أَوْلَادِكُمْ عَلَى اخْتِيَارِ بِيئَةِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ؛ لِأَنَّهَا مَسْلَكٌ إِلَى الظَّفَرِ بِالسَّلَامَةِ وَالْفَلَاحِ، وَاقْرَأُوا فِي تَعَالِيمِ دِينِنَا؛ كَمْ حَثَّنَا عَلَى اخْتِيَارِ جُلَسَائِنَا، وَاصْطِفَاءِ بِيئَاتِنَا؛ لِأَنَّهَا إِلَى الْخَيْرَاتِ دَاعِيَةٌ، وَعَنِ الْمُنْكَرَاتِ مَانِعَةٌ وَنَاهِيَةٌ.
نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَ أَوْلَادَنَا بِيئَاتٍ صَالِحَةً تُعِينُهُمْ عَلَى التَّمَسُّكِ بِدِينِهِمْ، وَتُرْشِدُهُمْ إِلَى صَلَاحِ دُنْيَاهُمْ.
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ؛ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[الْبَقَرَةِ: 281].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ لِلْبِيئَةِ السَّيِّئَةِ أَخْطَارًا كَثِيرَةً عَلَى تَرْبِيَةِ الْمُرَاهِقِينَ، وَأَضْرَارًا عَدِيدَةً تُلْحِقُهُمْ بِغَيْرِ الصَّالِحِينَ؛ فَهِيَ الَّتِي تُغَيِّرُ مِنْهُمُ الْفِطَرَ السَّلِيمَةَ، وَتَمِيلُ بِهِمْ عَنِ السُّبُلِ الْمُسْتَقِيمَةِ، وَتُدَنِّسُ صَفَاءَهُمُ الزَّاهِرَ، وَتُنَجِّسُ فِكْرَهُمُ الطَّاهِرَ؛ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ نَبِيِّنَا -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ -سُبْحَانَهُ- قَالَ: "وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا".
فَكَمْ رَأَيْنَا مِنْ مُرَاهِقٍ خَرَجَ مِنْ بَيْتِ أَبِيهِ نَقِيَّ الْإِهَابِ، مُشْرِقَ الشَّبَابِ، غَافِلًا عَنِ الْفَسَادِ وَطَرَائِقِهِ، جَاهِلًا بِوَاقِعِ السُّوءِ وَبَوَائِقِهِ، فَتَلَقَّفَتْهُ بِيئَةُ السُّوءِ بِالْأَحْضَانِ، وَاصْطَفَّتْ لَهُ شِرَارُ الْأَصْحَابِ وَالْخِلَّانِ، وَمَا هُوَ إِلَّا زَمَنٌ يَسِيرٌ حَتَّى رَضَعَ مِنْهَا لَبَانَ الِانْحِرَافِ عَنِ الْهُدَى، وَأَحَبَّ الْبَقَاءَ فِي مَسَالِكِ الرَّدَى، فَغَدَتْ حَالُهُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
فَأَصْبَحَ كَالْبَازِيِّ الْمُنَتَّفِ رِيشُهُ *** يَرَى حَسَرَاتٍ كُلَّمَا طَارَ طَائِرُ
وَقَدْ كَانَ دَهْرًا فِي الرِّيَاضِ مُنَعَّمًا *** عَلَى كُلِّ مَا يَهْوَى مِنَ الصَّيْدِ قَادِرُ
وَمِنْ أَخْطَارِ الْبِيئَةِ السَّيِّئَةِ إِذَا اسْتَمَرَّ الْمُرَاهِقُ الْبَالِغُ عَلَيْهَا: الْخَسَارَةُ الْكَبِيرَةُ يَوْمَ لِقَاءِ اللَّهِ، فَكَمْ سَتَحْضُرُهُ النَّدَامَاتُ، وَتُحَاصِرُهُ الْحَسَرَاتُ، وَيُنَادِي بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ، وَلَكِنْ لَا نَفْعَ مِنْ ذَلِكَ يَوْمَ النُّشُورِ.
قَالَ -تَعَالَى-: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا)[الْفُرْقَانِ:27-29].
فَيَا عِبَادَ اللَّهِ: لَا تَغْفُلُوا عَنِ انْتِقَاءِ الْبِيئَةِ الصَّالِحَةِ لِأَوْلَادِكُمْ، وَمَعْرِفَةِ أَهَمِّيَّتِهَا لِفِلْذَاتِ أَكْبَادِكُمْ؛ فَقَدْ حَثَّكُمْ دِينُكُمْ عَلَيْهَا، وَأَرْشَدَكُمْ إِلَيْهَا؛ لِمَا لَهَا مِنْ ثَمَرَاتٍ يَانِعَةٍ تُعِينُ عَلَى حُسْنِ التَّرْبِيَةِ، وَتُوصِلُ إِلَى الِاسْتِقَامَةِ وَالتَّزْكِيَةِ، وَإِيَّاكُمْ أَنْ تَدَعُوهُمْ فِي بِيئَةِ السُّوءِ وَالْوَبَالِ، وَتُسْلِمُوهُمْ إِلَى أَيَادِي الْأَشْرَارِ وَالضُّلَّالِ؛ فَيَضِيعُوا فِي أَوْدِيَةِ الْهَلَاكِ، وَتَنْدَمُوا عَلَى تَرْكِهِمْ هُنَاكَ، وَلَاتَ سَاعَةَ مَنْدَمٍ.
نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ أَحْوَالَنَا، وَيُعِينَنَا عَلَى تَرْبِيَةِ أَوْلَادِنَا وَطُلَّابِنَا، عَلَى مَا يُحِبُّ وَيَرْضَى.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم