عناصر الخطبة
1/الثناء والتعزيز معينان على تحفيز المراهق ومعالجة سلوكياته الخاطئة 2/أمثلة ومواطن في تربية المراهق بالثناء والتعزيز 3/آثار الثناء والتعزيز على نفس المراهق 4/ضرورة اتزان المربي في استعمال الثناء والتعزيزاقتباس
مَا أَجْمَلَ ذَلِكَ الْبَيْتَ الَّذِي يَعْتَنِي بِجَانِبِ التَّعْزِيزِ وَالثَّنَاءِ، مَعَ أَوْلَادِهِ الْمُرَاهِقِينَ إِذَا أَحْسَنُوا فِي عَمَلٍ أَوْ عِلْمٍ، أَوْ تَفَوَّقُوا فِي دِرَاسَةٍ أَوْ مَهَارَةٍ مُفِيدَةٍ، إِنَّهُ -بِهَذَا التَّشْجِيعِ- يَصْنَعُ فِيهِمْ هِمَّةً عَالِيَةً عَلَى التَّقَدُّمِ وَالِاسْتِمْرَارِ، وَالتَّنَافُسِ عَلَى مَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71].
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: الْمُرَاهَقَةُ مَرْحَلَةٌ عُمْرِيَّةٌ مُؤَرِّقَةٌ لِلْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ، وَالْمُعَلِّمِينَ وَالْمُعَلِّمَاتِ، وَهِيَ بَرْزَخٌ بَيْنَ الطُّفُولَةِ وَالنُّضْجِ يُعَانِي فِيهَا الْمُرَاهِقُ صُوَرًا مِنَ الصُّعُوبَاتِ، وَيُوَاجِهُ عَدَدًا مِنَ الْمُشْكِلَاتِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ مِنْ عُمْرِهِ إِلَى سِنِّ الثَّانِيَةِ وَالْعِشْرِينَ، فَمِنْ أَسَالِيبِ التَّرْبِيَةِ النَّاجِحَةِ الَّتِي تُخَفِّفُ هَذَا الْخَطْبَ الْكَبِيرَ، وَتُعِينُ الْأُمَّ وَالْأَبَ، وَالْمُعَلِّمَ وَالْمُعَلِّمَةَ عَلَى تَجَاوُزِ هَذَا الْأَمْرِ الْعَسِيرِ: أُسْلُوبُ الثَّنَاءِ وَالتَّعْزِيزِ؛ يَعْنِي الْمَدْحَ وَالْمُكَافَأَةَ لِلْمُرَاهِقِ عَلَى إِحْسَانِهِ فِي تَصَرُّفَاتِهِ، وَالشُّكْرَ لَهُ عَلَى إِتْقَانِهِ فِي سَلَامَةِ قَرَارَاتِهِ، وَهُوَ أُسْلُوبٌ تُحِبُّهُ أَسْمَاعُ الْمُرَاهِقِينَ، وَيَنْتَظِرُونَهُ مِنْ أَلْسِنَةِ الْآبَاءِ وَالْمُعَلِّمِينَ.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ الْإِنْسَانَ ذَا الْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ، وَالْخِلَالِ الْمُسْتَقِيمَةِ، يَشْكُرُ الْإِحْسَانَ شُكْرًا جَمِيلًا، وَيُكَافِئُ عَلَيْهِ إِذَا اسْتَطَاعَ لِذَلِكَ سَبِيلًا، وَفِعْلُهُ هَذَا مِنْ أَدِلَّةِ شُكْرِهِ لِرَبِّهِ، وَانْقِيَادِهِ لِمَا أَمَرَهُ بِهِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ)، وَقَدْ أَشَارَ اللَّهُ -تَعَالَى- إِلَى الْحَثِّ عَلَى الشُّكْرِ عَلَى الْمَعْرُوفِ وَعَدَمِ نِسْيَانِ الْجَمِيلِ فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى-: (وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ)[الْبَقَرَةِ:237].
وَالنَّفْسُ تُحِبُّ الشُّكْرَ وَالثَّنَاءَ، وَالْمَدْحَ وَالْإِطْرَاءَ، قَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَوْ كَانَ يَسْتَغْنِي عَنِ الشُّكْرِ مَاجِدٌ *** لِعِزَّةِ مُلْكٍ أَوْ عُلُوِّ مَكَانِ
لَمَا نَدَبَ اللَّهُ الْعِبَادَ لِشُكْرِهِ *** فَقَالَ: اشْكُرُونِي أَيُّهَا الثَّقَلَانِ
فَكَمْ سَيَفْرَحُ الْمُرَاهِقُ حِينَ يَسْمَعُ مِنْ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ، أَوْ مُعَلِّمِهِ وَمُرَبِّيهِ كَلِمَةَ مَدْحٍ عَلَى خَيْرٍ فَعَلَهُ!، وَكَمْ سَيَسْعَدُ حِينَ يَناَلُ مُكَافَأَةً عَلَى إِنْجَازٍ أَبْدَعَهُ، وَشُكْرًا عَلَى شَرٍّ أَعْرَضَ عَنْهُ وَتَرَكَهُ!
لَا تَسْتَهِينُوا -مَعْشَرَ الْآبَاءِ وَالْمُرَبِّينَ- بِحُرُوفِ شُكْرٍ تَكْتُبُونَهَا، وَكَلِمَاتِ مَدْحٍ تَنْطِقُونَهَا عَلَى أَسْمَاعِ الْمُرَاهِقِينَ؛ فَإِنَّهَا تُعِينُهُمْ عَلَى الْإِقْبَالِ عَلَى الْأَعْمَالِ الْمَحْمُودَةِ، وَتَحْجِزُهُمْ عَنِ الْأَفْعَالِ وَالسُّلُوكِيَّاتِ الْخَاطِئَةِ، بَلْ لَعَلَّ ثَنَاءَكُمْ وَتَعْزِيزَكُمْ يَصْنَعُ فِيهِمْ مِنَ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى الْخَيْرِ الَّذِي تَرَكُوهُ، وَالْبُعْدِ عَنِ الشَّرِّ الَّذِي دَاوَمُوا عَلَيْهِ، مَا لَا يَصْنَعُهُ السِّبَابُ وَالْعِتَابُ، وَالْحِرْمَانُ وَالْعِقَابُ؛ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- فِي الرُّؤْيَا الَّتِي رَآهَا وَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، قَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَهَا: "نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ"، قَالَ سَالِمٌ: "فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ لَا يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا".
عِبَادَ اللَّهِ: مَا أَجْمَلَ ذَلِكَ الْبَيْتَ الَّذِي يَعْتَنِي بِجَانِبِ التَّعْزِيزِ وَالثَّنَاءِ، مَعَ أَوْلَادِهِ الْمُرَاهِقِينَ إِذَا أَحْسَنُوا فِي عَمَلٍ أَوْ عِلْمٍ، أَوْ تَفَوَّقُوا فِي دِرَاسَةٍ أَوْ مَهَارَةٍ مُفِيدَةٍ، إِنَّهُ -بِهَذَا التَّشْجِيعِ- يَصْنَعُ فِيهِمْ هِمَّةً عَالِيَةً عَلَى التَّقَدُّمِ وَالِاسْتِمْرَارِ، وَالتَّنَافُسِ عَلَى مَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، فَلَوْ أَنَّ كُلَّ أُسْرَةٍ تُكَرِّمُ بَنَاتِهَا وَأَبْنَاءَهَا الْمُحْسِنِينَ بِعِبَارَاتِ الثَّنَاءِ وَالشُّكْرِ، لَوَجَدْنَا اسْتِقَامَةً وَصَلَاحًا فِيهِمْ، وَلَوِ اسْتَطَاعَتْ أَنْ تُكَافِئَهُمْ بِهَدَايَا عَيْنِيَّةٍ نَافِعَةٍ يُحِبُّونَهَا لَتَسَابَقُوا إِلَى الْفَضَائِلِ، وَسَارَعُوا إِلَى الْخَيْرَاتِ.
وَمَا أَحْسَنَ أَنْ تَتَبَنَّى الْحَلَقَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ أُسْلُوبَ الثَّنَاءِ وَالتَّعْزِيزِ مَعَ طُلَّابِهَا، وَتَجْعَلَ لِهَذَا الطَّرِيقِ التَّرْبَوِيِّ النَّافِعِ جُزْءًا مِنْ نَفَقَاتِهَا، فَتُكَرِمَ الطُّلَّابَ الْحُفَّاظَ الْمُتْقِنِينَ، وَتُتَابِعَ سُلُوكِيَّاتِهِمْ فَتُكَافِئَ التَّلَامِيذَ الصَّالِحِينَ فِي أَخْلَاقِهِمْ، وَالْمُحْسِنِينَ لِوَالِدِيهِمْ وَزُمَلَائِهِمْ، وَيَكُونُ ذَلِكَ أَمَامَ الْمُصَلِّينَ فِي الْمَسْجِدِ.
أَطْلِقُوا لِتَفْكِيرِكُمُ الْعِنَانَ -رَحِمَكُمُ اللَّهُ- فِي حَالِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- حِينَ يَصِلُهُ هَذَا التَّعْزِيزُ النَّبَوِيُّ، وَالثَّنَاءُ الْمُصْطَفَوِيُّ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، بَشَّرَاهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ، فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ".
فَكَمْ كَانَ فَرَحُهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ!، وَكَيْفَ سَتَتَّقِدُ عَزِيمَتُهُ عَلَى إِتْقَانِ الْقُرْآنِ وَحِفْظِهِ، وَبَثِّهِ وَتَعْلِيمِهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بَعْدَ هَذَا الثَّنَاءِ النَّبَوِيِّ؟!
وَأَنْتُمْ -أَيُّهَا الْمُعَلِّمُونَ وَالْمُرَبُّونَ فِي الْمَدَارِسِ وَغَيْرِهَا- لَا تَنْسَوْا أُسْلُوبَ التَّحْفِيزِ وَالتَّعْزِيزِ فِي تَلَامِيذِكُمْ، ازْرَعُوا فِيهِمْ رُوحَ التَّنَافُسِ عَلَى لُزُومِ سُلُوكِ الْأَدَبِ الْعَظِيمِ، وَالْخُلُقِ الْكَرِيمِ بِشُكْرِكُمْ وَثَنَائِكُمْ، وَأَشْعِلُوا فِي نُفُوسِهِمْ مَصَابِيحَ الْجِدِّ وَالْمُثَابَرَةِ، وَالتَّفَوُّقِ وَالِاهْتِمَامِ الدِّرَاسِيِّ مِنْ خِلَالِ مُكَافَئَتِهِمْ وَتَكْرِيمِهِمْ فِي طَابُورِ الْمَدْرَسَةِ، أَوْ بَيْنَ زُمَلَائِهِمْ فِي فُصُولِ الدِّرَاسَةِ، بَلْ إِنَّ بَعْضَ الْمُعَلِّمِينَ الْأَخْيَارِ كَانُوا يُحَفِّزُونَ طُلَّابَهُمْ عَلَى التَّعَلُّمِ وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَيْهِ بِإِعْطَائِهِمْ مِنْ مَالِهِمُ الْخَاصِّ؛ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: "كُنْتُ أَطْلُبُ الْحَدِيثَ وَالْفِقْهَ وَأَنَا مُقِلٌّ، رَثُّ الْحَالِ، فَجَاءَ أَبِي يَوْمًا وَأَنَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَانْصَرَفْتُ مَعَهُ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، لَا تَمُدَّنَّ رِجْلَكَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ خُبْزُهُ مَشْوِيٌّ! وَأَنْتَ تَحْتَاجُ إِلَى الْمَعَاشِ، فَقَصَّرْتُ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الطَّلَبِ، وَآثَرْتُ طَاعَةَ أَبِي، فَتَفَقَّدَنِي أَبُو حَنِيفَةَ وَسَأَلَ عَنِّي، فَجَعَلْتُ أَتَعَاهَدُ مَجْلِسَهُ، فَلَمَّا كَانَ أَوَّلُ يَوْمٍ أَتَيْتُهُ بَعْدَ تَأَخُّرِي عَنْهُ قَالَ لِي: مَا شَغَلَكَ عَنَّا؟ قُلْتُ: الشُّغْلُ بِالْمَعَاشِ وَطَاعَةُ وَالِدِي، وَجَلَسْتُ، فَلَمَّا أَرَدْتُ الِانْصِرَافَ أَوْمَأَ إِلَيَّ فَجَلَسْتُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ النَّاسُ دَفَعَ لِي صُرَّةً وَقَالَ: اسْتَمْتِعْ بِهَذِهِ، فَنَظَرْتُ، فَإِذَا فِيهَا مِئَةُ دِرْهَمٍ، فَقَالَ لِي: الْزَمِ الْحَلْقَةَ وَإِذَا نَفِدَتْ هَذِهِ فَأَعْلِمْنِي، فَلَزِمْتُ الْحَلْقَةَ فَلَمَّا مَضَتْ مُدَّةٌ يَسِيرَةٌ دَفَعَ إِلَيَّ مِئَةً أُخْرَى، ثُمَّ كَانَ يَتَعَاهَدُنِي، وَمَا أَعْلَمْتُهُ بِخَلَّةٍ قَطُّ وَلَا أَخْبَرْتُهُ بِنَفَادِ شَيْءٍ، وَكَانَ كَأَنَّهُ يُخْبَرُ بِنَفَادِهَا، حَتَّى اسْتَغْنَيْتُ وَتَمَوَّلْتُ".
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْفُضَلَاءُ: إِنَّ الثَّنَاءَ وَالتَّعْزِيزَ لَهُ آثَارٌ حَمِيدَةٌ عَلَى نُفُوسِ الْمُرَاهِقِينَ، وَثَمَرَاتٌ حَسَنَةٌ تَبْقَى مَعَهُ طَوَالَ السِّنِينَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا عَدَّهُ الْمُرَبُّونَ مِنْ أَسَالِيبِ التَّرْبِيَةِ النَّافِعَةِ، وَطُرُقِهَا التَّعْلِيمِيَّةِ النَّاجِعَةِ.
فَالثَّنَاءُ وَالتَّعْزِيزُ عَلَى الْمُرَاهِقِ إِذَا أُحْسِنَ يَغْرِسُ فِي نَفْسِهِ الْجِدَّ وَالِاجْتِهَادَ، وَمُوَاصَلَةَ طَرِيقِ مَا أَحْسَنَ فِيهِ حَتَّى يَرْتَقِيَ إِلَى مَطَالِبِهِ الْعَالِيَةِ، وَيَصْبِرَ عَلَى الصُّعُوبَاتِ وَالْمَكَارِهِ الَّتِي تُوَاجِهُهُ فِي غَايَتِهِ السَّامِيَةِ، وَانْظُرُوا فِي قِصَّةِ الْغُلَامِ الْمُؤْمِنِ كَيْفَ أَثَّرَ فِيهِ الثَّنَاءُ وَالتَّحْفِيزُ مِنَ الرَّاهِبِ الَّذِي كَانَ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ؛ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: "أَيْ بُنَيَّ: أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي؛ قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى".
وَتَبْقَى الذِّكْرَى الْحَسَنَةُ لِتِلْكَ الْكَلِمَاتِ التَّحْفِيزِيَّةِ فِي نَفْسِ الْمُرَاهِقِ فَيَشْعُرُ بِالسَّعَادَةِ حِينَ تَذَكُّرِهَا، فَيَسْتَلْهِمُ مِنْهَا شُحْنَةً جَدِيدَةً تَدْعُوهُ إِلَى الِاسْتِمْرَارِ عَلَى خَيْرِهِ، وَتَرْبِيَةِ الْأَجْيَالِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ بَعْدِهِ.
فَهَذَا الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- تُؤَثِّرُ فِيهِ كَلِمَاتُ شَيْخِهِ مَالِكٍ التَّشْجِيعِيَّةُ، وَيَرْوِيهَا لِلدُّنْيَا لِتَقْتَبِسَ مِنْهَا مَشَاعِلَ تَرْبَوِيَّةً، فَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ: "لَمَّا رَحَلْتُ إِلَى مَالِكٍ فَسَمِعَ كَلَامِي، نَظَرَ إِلَيَّ سَاعَةً، وَكَانَتْ لِمَالِكٍ فِرَاسَةٌ، فَقَالَ: مَا اسْمُكَ؟ قُلْتُ: مُحَمَّدٌ، قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، اتَّقِ اللَّهَ وَاجْتَنِبِ الْمَعَاصِيَ؛ فَإِنَّهُ سَيَكُونُ لَكَ شَأْنٌ، فَقُلْتُ: نَعَمْ وَكَرَامَةٌ، فَقَالَ: إِذَا كَانَ غَدًا تَجِيءُ وَيَجِيءُ مَنْ يَقْرَأُ لَكَ الْمُوَطَّأَ، فَقُلْتُ: إِنِّي أَقْرَأُهُ ظَاهِرًا، فَغَدَوْتُ إِلَيْهِ وَابْتَدَأْتُ، فَكُلَّمَا تَهَيَّبْتُ مَالِكًا وَأَرَدْتُ أَنْ أَقْطَعَ أَعْجَبَتْهُ قِرَاءَتِي وَأَغْرَانِي بِقَوْلِ: زِدْ يَا فَتَى، حَتَّى قَرَأْتُهُ عَلَيْهِ فِي أَيَّامٍ يَسِيرَةٍ".
فَاحْرِصُوا -رَعَاكُمُ اللَّهُ- عَلَى التَّعْزِيزِ وَالثَّنَاءِ، وَالشُّكْرِ وَالْمُكَافَأَةِ لِلْمُحْسِنِينَ مِنَ الْمُرَاهِقِينَ، فِي الْبَيْتِ وَالْمَدْرَسَةِ وَحَلْقَاتِ التَّحْفِيظِ، وَسَتَجِدُونَ لِذَلِكَ صَدًى فِي تِلْكَ النُّفُوسِ الصَّغِيرَةِ، لِتُصْبِحَ بِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ نُفُوسًا كَبِيرَةً.
نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَنَا وَيُصْلِحَ بِنَا، وَيَنْفَعَنَا وَيَنْفَعَ بِمَا نُقَدِّمُهُ فِي طَاعَتِهِ، وَنَفْعِ عِبَادِهِ.
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ؛ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[الْبَقَرَةِ: 281].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ مِنْ مَنْهَجِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ الدَّعْوَةَ إِلَى الْوَسَطِيَّةِ وَالِاعْتِدَالِ؛ فَالتَّقْصِيرُ مَذْمُومٌ، وَالْمُبَالَغَةُ غَيْرُ مَحْمُودَةٍ، قَالَ -تَعَالَى-: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا)[الْإِسْرَاءِ:110]، وَقَالَ: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)[الْفُرْقَانِ:67].
وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: "إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ طَرَفَيْنِ وَوَسَطًا، فَإِذَا أُمْسِكَ بِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ مَالَ الْآخَرُ، وَإِذَا أُمْسِكَ بِالْوَسْطِ اعْتَدَلَ الطَّرَفَانِ، فَعَلَيْكُمْ بِالْأَوْسَطِ مِنَ الْأَشْيَاءِ".
لِأَجْلِ هَذَا -يَا عِبَادَ اللَّهِ- عَلَى الْآبَاءِ وَالْمُرَبِّينَ أَنْ يَسْلُكُوا مَنْهَجَ التَّوَسُّطِ فِي الثَّنَاءِ عَلَى الْمُرَاهِقِينَ، فَلَا يَكُونُوا مِنَ الْمُفْرِطِينَ، أَوْ مِنَ الْمُفَرِّطِينَ؛ فَالِاتِّزَانُ فِي اسْتِعْمَالِ التَّعْزِيزِ وَالثَّنَاءِ، هُوَ الْمَنْهَجُ الصَّحِيحُ لَدَى الْحُكَمَاءِ، وَالطَّرِيقُ الْقَوِيمُ عِنْدَ الْمُرَبِّينَ الْعُقَلَاءِ.
أَمَّا مَنْ أَسْرَفَ فِي التَّعْزِيزِ وَبَالَغَ، وَأَفْرَطَ فِي الثَّنَاءِ وَأَكْثَرَ فَإِنَّ هَذَا سَيُفْسِدُ نَفْسَ الْمُرَاهِقِ وَلَا يُصْلِحُهَا، وَيَضُرُّهَا أَكْثَرَ مِمَّا يَنْفَعُهَا، فَرُبَّمَا دَعَاهَا إِلَى الْإِعْجَابِ، وَالسُّخْرِيَةِ مِنَ الْإِخْوَةِ وَالطُّلَّابِ، وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي آدَابِ التَّعَلُّمِ وَالطَّلَبِ: "فَمَنْ رَآهُ مُصِيبًا فِي الْجَوَابِ، وَلَمْ يَخَفْ عَلَيْهِ شِدَّةَ الْإِعْجَابِ، شَكَرَهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بَيْنَ أَصْحَابِهِ؛ لِيَبْعَثَهُ وَإِيَّاهُمْ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي طَلَبِ الِازْدِيَادِ".
أَيُّهَا الْفُضَلَاءُ: إِنَّ مِنْ طَبِيعَةِ الْمُرَاهِقِينَ حُبَّ الثَّنَاءِ وَالتَّعْزِيزَ مِنَ الْوَالِدِينَ وَالْمُرَبِّينَ، وَالتَّشَوُّقَ إِلَى سَمَاعِ مَدْحِ الْمَادِحِينَ، حِينَ يُحْسِنُونَ صُنْعًا، وَيُحَقِّقُونَ مَصْلَحَةً وَنَفْعًا، فَلَا تَبْخَلُوا عَلَيْهِمْ بِابْتِسَامَةِ ثَنَاءٍ، وَهَدِيَّةٍ وَدُعَاءٍ، وَعِبَارَاتِ إِطْرَاءٍ، بِتَوَسُّطٍ وَاعْتِدَالٍ، مِنْ غَيْرِ إِفْرَاطٍ وَلَا إِهْمَالٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّحْفِيزَ الْقَوْلِيَّ وَالْفِعْلِيَّ عَلَى الْإِحْسَانِ يُعِينُهُمْ عَلَى الثَّبَاتِ عَلَى الْخَيْرَاتِ، وَتَجَاوُزِ السُّلُوكِيَّاتِ الْخَاطِئَاتِ، وَيُشَجِّعُ زُمَلَاءَهُمْ وَإِخْوَتَهُمْ عَلَى الْمُنَافَسَةِ فِي مَيْدَانِ الصَّالِحَاتِ، وَهَذَا مَا دَعَانَا إِلَيْهِ دِينُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَسَارَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالتَّرْبِيَةِ مِنَ السَّالِفِينَ وَالْخَالِفِينَ.
رَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ (النَّفَقَةِ عَلَى الْعِيَالِ) عَنْ يُونُسَ قَالَ: "حَذِقَ ابْنٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّ فُلَانًا قَدْ حَذِقَ، فَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَ الْغُلَامُ إِذَا حَذِقَ قَبْلَ الْيَوْمِ نَحَرُوا جَزُورًا وَصَنَعُوا طَعَامًا لِلنَّاسِ".
نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَنَا إِلَى أَقْوَمِ السُّبُلِ فِي إِصْلَاحِ أَنْفُسِنَا، وَتَرْبِيَةِ أَوْلَادِنَا.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم