أمهات المؤمنين رضي الله عنهن (10) أم سلمة رضي الله عنها في بيت النبوة

الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل

2025-11-28 - 1447/06/07 2025-11-26 - 1447/06/05
التصنيفات: شخصيات مؤثرة
عناصر الخطبة
1/مما يجب على المؤمنين توقير واحترام أمهات المؤمنين 2/فوائد وعظات من سيرة حياة السيدة أم سلمة رضي الله عنها 3/الخير العميم في مطالعة سير أمهات المؤمنين

اقتباس

سِيَرُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْلَى بِالْمُطَالَعَةِ وَالْمَعْرِفَةِ مِنْ سِيَرِ أَرَاذِلِ النِّسَاءِ مِمَّنْ لَا وَزْنَ لَهُنَّ عِنْدَ اللَّهِ -تَعَالَى- بِسَبَبِ تَمَرُّدِهِنَّ عَلَى شَرَائِعِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَرَفْضِهِنَّ أَحْكَامَ دِينِهِ الَّتِي ارْتَضَاهَا لِعِبَادِهِ، وَكَمْ مِنْ فَتَاةٍ ضَاعَتْ حَيَاتُهَا فِي مُتَابَعَةِ الْمَشْهُورَاتِ!...

الخطبة الأولى:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ هَدَى مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ لِلْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ، وَصَرَفَ عَنْهُ أَهْلَ الضَّلَالَةِ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ، نَحْمَدُهُ حَمْدَ الشَّاكِرِينَ، وَنَسْتَغْفِرُهُ اسْتِغْفَارَ التَّائِبِينَ، وَنَسْأَلُهُ مِنْ فَضْلِهِ الْعَظِيمِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ فَضَّلَ الْبَشَرَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ وَالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ؛ (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا)[الْإِسْرَاءِ: 21]، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ إِمَامُ الْمُرْسَلِينَ، وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَسَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ أَجْمَعِينَ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ؛ فَإِنَّ فِي التَّقْوَى جَلْبًا لِلْأَرْزَاقِ، وَمَخْرَجًا مِنَ الْمَضَائِقِ، وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)[الطَّلَاقِ: 2-3]، (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[الزُّمَرِ: 61].

 

أَيُّهَا النَّاسُ: لِأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ حُقُوقٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ؛ مِنْ تَوْقِيرِهِنَّ وَمَحَبَّتِهِنَّ وَالتَّرَضِّي عَنْهُنَّ، وَمَعْرِفَةِ سِيَرِهِنَّ وَأَخْبَارِهِنَّ وَفِقْهِهِنَّ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَحْكَامِ النِّسَاءِ لَمْ يَصِلْنَا إِلَّا عَنْ طَرِيقِهِنَّ.

 

وَأُمُّ سَلَمَةَ هِنْدُ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيَّةُ هِيَ السَّادِسَةُ مِنْ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَهِيَ مِنْ أَوَائِلِ مَنْ أَسْلَمَ مَعَ زَوْجِهَا أَبِي سَلَمَةَ، وَكَانَتْ أَوَّلَ ظَعِينَةٍ دَخَلَتِ الْمَدِينَةَ، وَبَلَغَتْ أَحَادِيثُهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثَلَاثَ مِئَةٍ وَثَمَانِينَ حَدِيثًا، فَهِيَ التَّالِيَةُ لِعَائِشَةَ فِي كَثْرَةِ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ. تَزَوَّجَهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَنَةَ أَرْبَعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَعُمِّرَتْ حَتَّى قَارَبَتِ التِّسْعِينَ، وَمَاتَتْ فِي دَوْلَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَدُفِنَتْ بِالْبَقِيعِ. وَهِيَ آخِرُ نِسَاءِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَفَاةً، وَلَهَا أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ، وَمَنَاقِبُ عَدِيدَةٌ.

 

وَتَذْكُرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- سَبَبَ زَوَاجِهَا مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَتَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يَقُولُ: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)[الْبَقَرَةِ: 156]، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي، وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا، قَالَتْ: فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ، قُلْتُ: أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ؟ أَوَّلُ بَيْتٍ هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثُمَّ إِنِّي قُلْتُهَا، فَأَخْلَفَ اللَّهُ لِي رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَتْ: أَرْسَلَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ يَخْطُبُنِي لَهُ، فَقُلْتُ: إِنَّ لِي بِنْتًا وَأَنَا غَيُورٌ، فَقَالَ: أَمَّا ابْنَتُهَا فَنَدْعُو اللَّهَ أَنْ يُغْنِيَهَا عَنْهَا، وَأَدْعُو اللَّهَ أَنْ يَذْهَبَ بِالْغَيْرَةِ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

 

"وَلَمَّا تَزَوَّجَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُمَّ سَلَمَةَ قَالَ لَهَا: إِنِّي قَدْ أَهْدَيْتُ إِلَى النَّجَاشِيِّ أَوَاقِيَّ مِنْ مِسْكٍ وَحُلَّةً، وَإِنِّي لَا أَرَاهُ إِلَّا قَدْ مَاتَ، وَلَا أَرَى الْهَدِيَّةَ الَّتِي أُهْدِيَتْ إِلَيْهِ إِلَّا سَتُرَدُّ إِلَيَّ. فَإِذَا رُدَّتْ إِلَيَّ فَهِيَ لَكِ. فَكَانَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، مَاتَ النَّجَاشِيُّ وَرُدَّتْ إِلَيْهِ هَدِيَّتُهُ. فَأَعْطَى كُلَّ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ أُوقِيَّةً أُوقِيَّةً مِنْ مِسْكٍ. وَأَعْطَى سَائِرَهُ أُمَّ سَلَمَةَ، وَأَعْطَاهَا الْحُلَّةَ".

 

وَغَارَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- مِنْهَا لِجَمَالِهَا؛ قَالَتْ عَائِشَةُ: "لَمَّا تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُمَّ سَلَمَةَ حَزِنْتُ حُزْنًا شَدِيدًا لِمَا ذَكَرُوا لَنَا مِنْ جَمَالِهَا. قَالَتْ: فَتَلَطَّفْتُ لَهَا حَتَّى رَأَيْتُهَا، فَرَأَيْتُهَا وَاللَّهِ أَضْعَافَ مَا وُصِفَتْ لِي فِي الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ. قَالَتْ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِحَفْصَةَ. وَكَانَتَا يَدًا وَاحِدَةً. فَقَالَتْ: لَا وَاللَّهِ إِنْ هَذِهِ إِلَّا الْغَيْرَةُ. مَا هِيَ كَمَا يَقُولُونَ. فَتَلَطَّفَتْ لَهَا حَفْصَةُ حَتَّى رَأَتْهَا فَقَالَتْ: قَدْ رَأَيْتُهَا، وَلَا وَاللَّهِ مَا هِيَ كَمَا تَقُولِينَ وَلَا قَرِيبٌ، وَإِنَّهَا لَجَمِيلَةٌ. قَالَتْ: فَرَأَيْتُهَا بَعْدُ فَكَانَتْ لَعَمْرِي كَمَا قَالَتْ حَفْصَةُ، وَلَكِنِّي كُنْتُ غَيْرَى"(رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ).

 

وَانْقَسَمَ نِسَاءُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى قِسْمَيْنِ عَلَى عَادَةِ النِّسَاءِ فِي الْغَيْرَةِ وَالتَّحَزُّبِ، فَعَائِشَةُ تَقُودُ قِسْمًا، وَتَقُودُ الْآخَرَ أُمُّ سَلَمَةَ، وَيَقَعُ بَيْنَهُمَا مَا يَقَعُ بَيْنَ الضَّرَائِرِ مِنَ الْغَيْرَةِ، وَلَكِنَّهُنَّ كُنَّ وَقَّافَاتٍ عِنْدَ الشَّرْعِ، عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: "أَنَّ نِسَاءَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كُنَّ حِزْبَيْنِ، فَحِزْبٌ فِيهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ وَصَفِيَّةُ وَسَوْدَةُ، وَالْحِزْبُ الْآخَرُ أُمُّ سَلَمَةَ وَسَائِرُ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ عَلِمُوا حُبَّ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَائِشَةَ، فَإِذَا كَانَتْ عِنْدَ أَحَدِهِمْ هَدِيَّةٌ يُرِيدُ أَنْ يُهْدِيَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أَخَّرَهَا حَتَّى إِذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَيْتِ عَائِشَةَ، بَعَثَ صَاحِبُ الْهَدِيَّةِ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَيْتِ عَائِشَةَ، فَكَلَّمَ حِزْبُ أُمِّ سَلَمَةَ فَقُلْنَ لَهَا: كَلِّمِي رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُكَلِّمُ النَّاسَ، فَيَقُولُ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يُهْدِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَدِيَّةً، فَلْيُهْدِهِ إِلَيْهِ حَيْثُ كَانَ مِنْ بُيُوتِ نِسَائِهِ، فَكَلَّمَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ بِمَا قُلْنَ، فَلَمْ يَقُلْ لَهَا شَيْئًا، فَسَأَلْنَهَا، فَقَالَتْ: مَا قَالَ لِي شَيْئًا، فَقُلْنَ لَهَا، فَكَلِّمِيهِ، قَالَتْ: فَكَلَّمَتْهُ حِينَ دَارَ إِلَيْهَا أَيْضًا، فَلَمْ يَقُلْ لَهَا شَيْئًا، فَسَأَلْنَهَا، فَقَالَتْ: مَا قَالَ لِي شَيْئًا، فَقُلْنَ لَهَا كَلِّمِيهِ حَتَّى يُكَلِّمَكِ، فَدَارَ إِلَيْهَا فَكَلَّمَتْهُ، فَقَالَ لَهَا: لَا تُؤْذِينِي فِي عَائِشَةَ فَإِنَّ الْوَحْيَ لَمْ يَأْتِنِي وَأَنَا فِي ثَوْبِ امْرَأَةٍ إِلَّا عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مِنْ أَذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ..."(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ). فَكَانَتْ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- سَرِيعَةَ الْأَوْبَةِ وَالتَّوْبَةِ، رَغْمَ شِدَّةِ غَيْرَتِهَا، وَعَظِيمِ مَا يَقَعُ بَيْنَ الضَّرَائِرِ.

 

وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ قَوِيَّةَ الْحُجَّةِ، لَا تَكَادُ تُغْلَبُ فِي الْمُجَادَلَةِ، وَإِنَّهَا لَغَلَبَتْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَلَى قُوَّتِهِ، وَذَلِكَ حِينَ هَجَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نِسَاءَهُ لَمَّا غَضِبَ عَلَيْهِنَّ، فَدَخَلَ عُمَرُ عَلَى ابْنَتِهِ حَفْصَةَ وَوَعَظَهَا وَأَغْلَظَ الْقَوْلَ عَلَيْهَا، يَقُولُ عُمَرُ: "ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ لِقَرَابَتِي مِنْهَا، فَكَلَّمْتُهَا، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، دَخَلْتَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَبْتَغِيَ أَنْ تَدْخُلَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَزْوَاجِهِ، فَأَخَذَتْنِي -وَاللَّهِ- أَخْذًا كَسَرَتْنِي عَنْ بَعْضِ مَا كُنْتُ أَجِدُ، فَخَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهَا"(رَوَاهُ الشَّيْخَانِ).

 

وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ فَقِيهَةً عَالِمَةً بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَتَسْأَلُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَمَّا يُشْكِلُ عَلَيْهَا، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا قَالَتْ: "قُلْتُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَا لَنَا لَا نُذْكَرُ فِي الْقُرْآنِ كَمَا يُذْكَرُ الرِّجَالُ؟ قَالَتْ: فَلَمْ يَرُعْنِي مِنْهُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا وَنِدَاؤُهُ عَلَى الْمِنْبَرِ، قَالَتْ: وَأَنَا أُسَرِّحُ شَعْرِي، فَلَفَفْتُ شَعْرِي، ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى حُجْرَةٍ مِنْ حُجَرِ بَيْتِي، فَجَعَلْتُ سَمْعِي عِنْدَ الْجَرِيدِ، فَإِذَا هُوَ يَقُولُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 35]"(رَوَاهُ أَحْمَدُ).

 

فَرَضِيَ اللَّهُ -تَعَالَى- عَنْ أُمِّنَا أُمِّ سَلَمَةَ وَأَرْضَاهَا، وَعَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَجَمَعَنَا بِهِمْ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ وَمُسْتَقَرِّ رَحْمَتِهِ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.

 

وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ؛ (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 131-132].

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لِأُمِّنَا أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- مَوْقِفٌ عَظِيمٌ يَدُلُّ عَلَى حِكْمَتِهَا، أَسْعَفَتْ فِيهِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالرَّأْيِ الرَّشِيدِ؛ وَذَلِكَ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، حِينَ كُتِبَ الصُّلْحُ بَيْنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ، وَلَمْ يَرْضَ بِهِ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-، وَأَصَابَهُمْ غَمٌّ شَدِيدٌ، "فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأَصْحَابِهِ: قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا، فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَتُحِبُّ ذَلِكَ، اخْرُجْ ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً، حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ، فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ، نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا، فَنَحَرُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا، حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ). وَلَا يَقِفُ هَذِهِ الْمَوَاقِفَ الْعَظِيمَةَ مَعَ الْأَزْوَاجِ إِلَّا عَظِيمَاتُ النِّسَاءِ، وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- مِنْهُنَّ، وَكُلُّ نِسَاءِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كُنَّ كَذَلِكَ.

 

فَأَوْلَى بِأَهْلِ الْإِيمَانِ أَنْ يَقْرَؤُوا سِيَرَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنْ تَقْرَأَهَا النِّسَاءُ الْمُؤْمِنَاتُ، وَأَنْ يُرَبِّينَ عَلَيْهَا بَنَاتِ الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يَبْقَى نَفْعُهُ، وَلَا يَنْقَطِعُ خَيْرُهُ، وَهُنَّ الْقُدْوَةُ لِنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، فَمَا اخْتَارَهُنَّ اللَّهُ -تَعَالَى- نِسَاءً لِنَبِيِّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَّا وَهُنَّ أَفْضَلُ نِسَاءِ الْأُمَّةِ؛ (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)[الْأَحْزَابِ: 33]، وَنِسَاءُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أَخَصِّ أَهْلِ بَيْتِهِ.

 

وَسِيَرُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْلَى بِالْمُطَالَعَةِ وَالْمَعْرِفَةِ مِنْ سِيَرِ أَرَاذِلِ النِّسَاءِ مِمَّنْ لَا وَزْنَ لَهُنَّ عِنْدَ اللَّهِ -تَعَالَى- بِسَبَبِ تَمَرُّدِهِنَّ عَلَى شَرَائِعِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَرَفْضِهِنَّ أَحْكَامَ دِينِهِ الَّتِي ارْتَضَاهَا لِعِبَادِهِ، وَكَمْ مِنْ فَتَاةٍ ضَاعَتْ حَيَاتُهَا فِي مُتَابَعَةِ الْمَشْهُورَاتِ! وَكَمْ مِنْ فَتَاةٍ أَمْضَتْ عُمْرَهَا فِي قِرَاءَةِ رِوَايَاتٍ لَا تَنْفَعُ! وَالْإِنْسَانُ مَسْئُولٌ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ؛ (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى * وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى)[النَّجْمِ: 39-42].

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...

 

 

المرفقات

أمهات المؤمنين رضي الله عنهن (10) أم سلمة رضي الله عنها في بيت النبوة.doc

أمهات المؤمنين رضي الله عنهن (10) أم سلمة رضي الله عنها في بيت النبوة.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات