أم الكتاب (2)

د. منصور الصقعوب

2025-10-24 - 1447/05/02 2025-11-23 - 1447/06/02
عناصر الخطبة
1/أفضل سور القرآن 2/أهمية سورة الفاتحة 3/دلائل التوحيد من سورة الفاتحة 4/حجة بالغة على الأمة 5/تحقيق قاعدة الولاء والبراء 6/صفات الصراط المستقيم.

اقتباس

أتدرون من المغضوب عليهم يا عباد الله؟ إنهم اليهود أصالةً وكل مَن انحرف مِن علماء هذه الأمة، مع عِلْمه؛ فإن فيه شَبهًا بهؤلاء اليهود، وغير الضالين؛ والضالون هم النصارى أصالةً وكل مَن انحرف من عُبَّاد هذه الأمة على جهلٍ وغير علم ففيه شبهٌ من أولئك....

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله؛ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا)[الكهف: 1]، والحمد لله (الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)[الفرقان: 1]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارًا به وإذعانًا وتوحيدًا، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن سلف من إخوانه من المرسلين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعد: عباد الله: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.

 

أيها المؤمنون: أنزل الله علينا أفضل كتبه الذي اشتمل على جميع ما سبق من كتبه المنزلة، أنزل علينا القرآن؛ ليكون مهيمنًا على ما سبق، وأنزل القرآن متفاضلاً فجعل بعضه أفضل من بعض، والقرآن كله كلام الله؛ فأفضل آي القرآن آية الكرسي من سورة البقرة، أما أفضل سور القرآن في الإطلاق في السبع المثاني وهي القرآن العظيم، وهي سورة الفاتحة، التي جمع الله -جَلَّ وَعَلا- فيها أعظم حقوقه على عباده.

 

هذه السورة التي لا تصح الصلاة إلا بها؛ قال نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "من لم يقرأ بفاتحة الكتاب في الصلاة فلا صلاة له"، وقال -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلام-: "كل صلاةٍ لا يُقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداجٌ خداجٌ خداج"؛ أي: صلاة غير تامة، وصلاة غير صحيحة.

 

الفاتحة -يا عباد الله- تقرؤونها ويحفظها المسلمون صغارهم وكبارهم، رجالهم ونساؤهم، فهلا تأملنا في هذه السورة التي استملت على أنواع التوحيد الثلاثة؟!

 

(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)؛ دليلٌ على توحيد الله في ربوبيته وأفعاله.

(الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)؛ دليلٌ على توحيد الله -عَزَّ وَجَلَّ- في أسمائه الحسنى وصفاته العلا.

(مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)؛ كذلكم في توحيدي الربوبية والأسماء والصفات.

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)؛ دليلٌ على توحيد الله بإلهيته وبعبوديته وحده دونما شريك.

 

 جاء في الصحيح عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين"؛ فجعل الله الفاتحة هي الصلاة، تنويهًا بشرفها وتنويهًا بفضلها، ولهذا سماها -جَلَّ وَعَلا- "الصلاة"؛ لأنها تتكرر في كل ركعةٍ من ركعاتها.

 

قال -سبحانه-: "قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَقال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: أثنى عليَّ عبدي"؛ فهل تدركها –يا رعاك الله-؟ هل تدرك أنك إذا قلتَ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) أنك بهذا تثني على الله -جَلَّ وَعَلا- بالكمال له في ذاته وفي أسمائه وفي صفاته، أو أنها مجرد لفظةٍ تخرج من فيك لا تدرك معناها، ولا تتحقق في دلالاتها؟ فانتبه لهذا –يا رعاك الله-.

 

 وإذا قال العبدُ: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)؛ قال الله -جَلَّ وَعَلا-: "مجدني عبدي"، وإذا قال: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)؛ قال الله -جَلَّ وَعَلا-: "أثنى عليَّ عبدي"، فإذا قال: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)؛ قال الله -جَلَّ وَعَلا-: "هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل".

 

لما أذعن وأقر لله بالعبودية أقرها بلسانه، وقد انطوى عليها قلبه وجنانه قال الله -جَلَّ وَعَلا- متفضلاً وهو أكرم الأكرمين: هذا بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل".

 

فإذا قال: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)؛ وهو طريق الإسلام، الموصل إلى الجنان ورضوان الرحمن.

 

(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيهِمْ)؛ أي من عبادك وأوليائك المخلصين قديمًا وحديثًا، (غَيرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)؛ أتدرون من المغضوب عليهم يا عباد الله؟ إنهم اليهود أصالةً وكل مَن انحرف مِن علماء هذه الأمة، مع عِلْمه؛ فإن فيه شَبهًا بهؤلاء اليهود، وغير الضالين؛ والضالون هم النصارى أصالةً وكل مَن انحرف من عُبَّاد هذه الأمة على جهلٍ وغير علم ففيه شبهٌ من أولئك.

 

ولهذا شُرع لنا أن نقول بعدها: "آمين"؛ أن يَمُدّ الإمام والمأموم صوته بها مدًّا؛ لعله أن يوافق تأمين الملائكة في السماء؛ فإنه جاء في الصحيحين عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "إنكم تقولون: آمين والملائكة في السماء تقول: آمين، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غُفر له ما تقدم من ذنبه"، ولهذا يُستحب أن يستطيل بها، وأن يرفع بها صوته.

 

 نفعني الله وَإِيَّاكُمْ بالقرآن العظيم، وما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله كما أمر، أحمده -سبحانه- وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارًا بربوبيته وإيمانًا بعبوديته وإثباتًا لأسمائه وصفاته، مراغمًا بذلك من عاند به أو جحد وكفر، وأصلي وأسلم على سيد البشر الشافع المشفع في المحشر، صلى الله عليه، وعلى آله، وأصحابه السادة الغرر، خير آلٍ ومعشر، ما طلع ليلٌ وأقبل عليه نهارٌ وأدبر.

 

أما بعد؛ عباد الله: إن في هذه السورة الجليلة؛ سورة الفاتحة معاني عظيمة كافية في أن تكون هذه السورة الحجة البالغة على هذه الأمة، حجة الله -عَزَّ وَجَلَّ- على خلقه وعلى عباده المكلفين.

 

وفي قوله -جَلَّ وَعَلا-: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيهِمْ غَيرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)؛ تحقيقٌ لقاعدة الولاء والبراء؛ الولاء لله -عَزَّ وَجَلَّ-، ولعباده وأوليائه المؤمنين الموحدين، والبراءة من أعداء الله من الشرك ومن المشركين والكفر والكافرين والنفاق والمنافقين. فهذه السورة تحقيقٌ لهذه القاعدة العظيمة التي هي أساس الدين، والتي ينبني عليها توحيد رب العالمين.

 

والصراط المستقيم -يا عباد الله- ليس هو الجسر المنصوب على متن جهنم، أتدرون لِمَ؟ لأن ذلك الجسر ليس مستقيمًا، وإنما هو معوج ودحضٌ وزلق، وأحدّ من السيف، وأدقّ من الشعر، وإنما سلوك الصراط المستقيم في الدنيا سببٌ للعبور على الصراط؛ على ذلك الجسر على متن جهنم.

 

اللهم اجعلنا عليه من العابرين، ولا تجعلنا فيه من المنكفين، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم توفنا وأنت راضٍ عنا.

 

ثُمَّ اعلموا -عباد الله- أنَّ أصدق الحديث كلام الله، وَخِيرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثة بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وعليكم عباد الله بالجماعة؛ فإنَّ يد الله عَلَى الجماعة، ومن شذَّ؛ شذَّ في النَّار، ولا يأكل الذئب إِلَّا من الغنم القاصية.

 

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، فِي العَالَمِينَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ وارضَ عن الأربعة الخلفاء، وعن المهاجرين والأنصار، وعن التابع لهم بإحسانٍ إِلَى يَومِ الدِّينِ، وعنَّا معهم بمنِّك ورحمتك يا أرحم الراحمين.

 

اللهم عِزًّا تعزّ به الإسلام وَالسُّنَّة وأهلها، وذِلًّا تذل به الكفر والبدعة وَالشِّرْك والانحلال وأهله، يا ذا الجلال والإكرام. اللهم عزًّا تعزُّ به أولياءك، وذِلًّا تذل به أعداءك، يا ذا الجلال والإكرام.

 

 اللَّهُمَّ احفظ علينا ديننا الَّذِي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا الَّتِي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا الَّتِي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، والموت راحةً لنا من كل شر.

 

اللَّهُمَّ وفق ولي أمرنا بتوفيقك، اللهم اجعله عزًّا للإسلام، ونصرةً لعبادك وأوليائك المؤمنين، اللَّهُمَّ اجعله عزًّا لِلسُّنَّةِ، وكفًّا عَلَى عبادك المسلمين، يا ذا الجلال والإكرام.

 

 اللَّهُمَّ أنت الله لا إله إِلَّا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، أنزل علينا الغيث، ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللَّهُمَّ غيثًا مغيثًا، هنيئًا مريئًا، سحًّا طبقًا مجللاً، اللَّهُمَّ سُقيا رحمة، اللَّهُمَّ سُقيا رحمة، لا سُقيا عذابٍ ولا هدمٍ ولا غرقٍ ولا نصب.

 

اللهم أغث بلادنا بالأمن والأمطار والخيرات، وأغث قلوبنا بمخافتك وتعظيمك، وتوحيدك يا رب العالمين، اللهمَّ إنك ترى ما بنا من الحاجة واللأواء، ولا غنى لنا عن فضلك، اللَّهُمَّ فأنزل علينا من بركات السماء.

 

 اللَّهُمَّ ارحمنا برحمتك الَّتِي وسعت كل شيء، نستغفرك اللَّهُمَّ إنك كنت غفَّارًا، فأرسل السماء علينا مدرارًا، نستغفر الله العظيم، نستغفر الله العظيم من ذنوبنا، ونستغر الله العظيم من شر سفهائنا، ونستغفر الله العظيم الَّذِي لا إله هو الحي القيوم ونتوب إليه.

 

اللهم أغثنا، اللهم ارحم هؤلاء الشيوخ الرُّكَّع، وهؤلاء البهائم الرُّتَّع، وهؤلاء الأطفال الرُّضَّع، ولا غنى لنا عن فضلك يا رب العالمين.

 

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، اللَّهُمَّ اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، أحيائهم وأمواتهم يا رب العالمين.

 

سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، والْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

 

المرفقات

أم الكتاب (2).doc

أم الكتاب (2).pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات