أنواع الإجماع وحجيته*
عياض بن نامي بن عوض السلمي
أنواع الإجماع:
ينقسم الإجماع باعتبارات متعددة أهمها:
أـ ... أقسامه من جهة تصريح المجتهدين بالحكم، وله من هذه الجهة ثلاثة أقسام:
1 - الإجماع الصريح: وهو ما صرح فيه أهل الإجماع بالحكم، وهذا نادر الوجود بل لو قيل بانعدامه لكان أولى، لكن لا يخرج عن الإمكان ولا يقال بامتناعه.
2 - الإجماع السكوتي: وهو أن يصرح بعض المجتهدين بالحكم ويشتهر قوله ويسكت الباقون عن إنكاره.
3 - الإجماع الضمني: وهو المستنتج من اختلاف أهل العصر على قولين أو أكثر، فيدل ذلك على اتفاقهم على أن ما خرج عن تلك الأقوال باطل.
ب ـ تقسيمه من حيث قوة دلالته:
وله بهذا الاعتبار قسمان:
1 - قطعي، وهو ما تحقق فيه شرطان وهما: التصريح بالحكم من أهل الإجماع، ونقله إلينا بطريق قطعي.
2 - ظني، وهو ما اختل فيه أحد هذين الشرطين.
_________
* من كتاب: أصُولُ الِفقهِ الذي لا يَسَعُ الفَقِيهِ جَهلَهُ
حجية الإجماع:
1ـ ذهب جماهير العلماء إلى أن الإجماع حجة مطلقا.
واستدلوا على ذلك بأدلة منها:
أـ ... قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء115].
وجه الاستدلال أن الله توعد من خالف سبيل المؤمنين بجهنم، ولا يتوعد بها إلا على فعل محرم، فدل ذلك على أن ترك سبيل المؤمنين محرم واتباعه واجب.
ب ـ قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة143].
وجه الاستدلال: أن الله جعل الأمة شهداء على غيرهم من الأمم، وهذا يدل على قبول قولهم إذا اتفقوا؛ لأن الشاهد قوله مقبول، والشهادة تشمل الشهادة على أعمال الناس وأحكامها.
ج ـ قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء59].
وجه الاستدلال: أن الآية تدل بطريق مفهوم المخالفة على أن ما اتفقوا عليه ولم يتنازعوا فيه حق؛ لأنها نصت على رد المتنازع فيه إلى الله والرسول، ففهم من ذلك أن المتفق عليه حق.
د ـ ... قوله صلى الله عليه وسلم: «سألت ربي أن لا تجتمع أمتي على ضلالة فأعطانيها» وفي لفظ: «إن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة أبدا، وإن يد الله مع الجماعة فاتبعوا السواد الأعظم فإنه من شذ شذ في النار» (أخرجه الترمذي وأحمد وابن ماجه والطبراني بألفاظ مختلفة، وهو مشهور المتن وله شواهد كثيرة. انظر: المقاصد الحسنة ص 460، وكشف الخفاء 2/ 488).
وجه الاستدلال: أن الله عصم الأمة إذا اجتمعت من الخطأ والضلالة، فثبت أن ما اجتمعت عليه الأمة صواب، والمعتبر قوله في أمور الشرع هم العلماء المجتهدون دون غيرهم فيكون إجماعهم معصوما من الخطأ، وهذا شرف عظيم لهذه الأمة ليس لغيرها من الأمم.
2ـ وذهب بعض العلماء إلى أن الحجة في إجماع الصحابة وحدهم وهو رواية عن الإمام أحمد، ومذهب الظاهرية (1).
واحتجوا بأن ما يحكى من إجماعات بعد عهد الصحابة غير صحيح؛ إذ لا يمكن جمع آرائهم في مسألة واحدة مع تفرقهم في الأمصار، ولذا نقل عن الإمام أحمد أنه قال: «من ادعى الإجماع فقد كذب، لعل الناس قد اختلفوا» (2).
3ـ وذهب النظام وطوائف من الرافضة إلى أن الإجماع ليس حجة. فأما النظام فحجته عدم تصور وقوعه، ولو تصور لم يتصور نقله إلينا بطريق صحيح متواتر، والآحاد لا يعتبر عنده. وأما الروافض فلأن الحجة عندهم في قول الإمام المعصوم دون غيره فإن كان في عصر الأئمة المعروفين لم يعتبر قول غيره، وبعدهم لا حجة في قول أحد حتى يأتي الإمام المعصوم الذي يزعمون أنه اختفى في سرداب وأنه الإمام المنتظر.
وإذا أطلق أحد منهم حجية الإجماع في عصر الصحابة أو التابعين وتابعيهم فهو من باب التعمية على الناس؛ لأن العلماء إذا وافقوا إمامهم فالحجة عندهم في قوله وبقية العلماء تبع، وإن خالفوه فلا إجماع والحجة في قوله وحده (3).
فأما قول منكري الحجية مطلقا فظاهر البطلان؛ لأنهم عولوا على عدم إمكانه وقد بينا أنه ممكن في القديم والحديث، واحتجوا بعدم إمكان نقله متواترا، وعند الجمهور لا يشترط التواتر لنقله بل يكفي فيه خبر الآحاد.
ثم لو اشترط فهو ممكن كما تواتر نقل اتفاق النصارى على صلب المسيح
_________
(1) الإحكام لابن حزم 508 - 509.
(2) العدة لأبي يعلى ص 1059.
(3) نبه على هذا إمام الحرمين في البرهان 676.
وهو باطل فكيف لا يمكن نقل الاتفاق على الحق. ولكن إذا نظرنا إلى واقع الإجماعات المنقولة في كتب أهل العلم نجد أن أكثرها غير صحيح وإنما اعتمد ناقله على أنه لم يعلم مخالفا في هذه المسألة أو اكتفى بالمنقول عن الأئمة الأربعة، أو اكتفى بنقل واحد لم ينقل عن معاصريه بل عمن لم يعاصرهم، مما يدل على أنه معتمد على الشهرة بين أهل العلم، وربما اعتمد في نقل الإجماع على قيام الدليل القاطع الذي لا يمكن أن يخالفه أحد من العلماء. ولا شك أن هذا الطريق في نقل الإجماع لا يورث القطع بل غايته الظن بعدم وجود مخالف.
وأما من اعتمد في نقل الإجماع على قيام الدليل القاطع فإن الحجة حينئذ تكون في الدليل القاطع، والإجماع فائدته دفع ما يتوهم من التأويل. ولا يقال بناء على هذا تكون فائدة الإجماع ضعيفة؛ لأننا نقول بل الإجماع دليل مهم فكثير من آيات القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم لو جردنا النظر إليها عما فهمه منها الصحابة والتابعون لما قطعنا بمقتضاها، ولأمكن حملها على احتمالات كثيرة، ولكن لما عرفنا اتفاق الصحابة والتابعين ومن بعدهم على تفسيرها لم يجز لنا أن نتأولها على خلافه.
فهذه الأدلة لو خلت عن الإجماع لكانت ظنية، لكنها معه صارت قطعية. مثال ذلك: أن قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء12]. لو لم يتفق الصحابة على أن المراد بالأخ والأخت هنا الإخوة لأم لكانت معارضة لآية: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء176].
وهذه فائدة عظيمة.
ومن فوائده: قطع النزاع في المسائل المستجدة، فإذا اتفق علماء العصر على حكمها لم يكن لأحد خلافهم، ولكن ينبغي أن لا تترك الأدلة الصحيحة لدعوى الإجماع، وأن لا تقبل دعوى الإجماع إلا ممن له إحاطة بأقوال العلماء واطلاع على صحيحها وضعيفها، ومشهورها وشاذها.
حجية الإجماع السكوتي:
اختلف العلماء في الإجماع السكوتي الذي عرف بتصريح بعض العلماء وسكوت الباقين، هل يعد حجة؟
فذهب الجمهور إلى حجيته، واستدلوا بما يلي:
1ـ أن سكوت العالم عن فتوى غيره يدل على موافقته إياه؛ إذ لو كان يعتقد بطلان تلك الفتوى لما سكت عن الإنكار؛ لأن السكوت عن إنكار الباطل محرم لا يقدم عليه العلماء المجتهدون.
2ـ ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم». فالحديث يدل على أنه لا يمكن أن تخلو الأمة من قائم لله بالحجة وتكون بين مخطئ للحق وساكت عن الإنكار؛ إذ لو كانوا كذلك لم يتحقق ما في الحديث من الوعد ببقاء طائفة من الأمة ظاهرة على الحق؛ لأن ظهورها يقتضي إظهار ما هي عليه من الحق.
وذهب الإمام الشافعي إلى أنه لا يمكن أن ينعقد إجماع مع سكوت بعض العلماء، بل لا بد من تصريح الكل. واستدل على ذلك بأنه لا ينسب إلى ساكت قول، وبأن العالم قد يسكت مع عدم موافقته لأسباب كثيرة منها:
أـ ... أن يغلب على ظنه أن غيره قد كفاه مؤنة الإنكار على الفتوى.
ب ـ أن يسكت خوفا من سلطان أو نحوه.
ج ـ أن يسكت لكونه لم ينظر في المسألة بعد، أو لتعارض الأدلة عنده.
وذهب بعضهم إلى أنه يعد حجة ولكن ليس بإجماع. وهذا القول راجع إلى القول بالحجية؛ إذ إن مراد هذا القائل والله أعلم أن الإجماع السكوتي حجة ظنية بخلاف الإجماع الصريح فهو حجة قطعية، ولذلك لا ينبغي أن يعد هذا قولا جديدا في المسألة.
وذهب بعضهم إلى أنه إن كان الذي تكلم في حكم المسألة حاكما فلا يكون سكوت الباقين دليلا على اتفاقهم، وإلا كان دليلا، وهو رأي ابن أبي هريرة من الشافعية، واستدل بأن العادة جارية بعدم الاعتراض على حكم الحاكم وإن كان غيره من العلماء لا يوافقونه، وأنه من عادة العلماء حضور مجالس الحكم وعدم الاعتراض على حكم القاضي وإن كان على خلاف مذهب الحاضرين، وهذه العادة لم تعهد في الفتاوى والآراء الصادرة من غير القضاة فوجب التفريق بينها على النحو السابق.
والراجح: أن الإجماع السكوتي حجة، ولكنه حجة ظنية ليست في درجة الإجماع الصريح.
وما استدل به الإمام الشافعي من أنه «لا ينسب إلى ساكت قول» يجاب عنه بأن السكوت في معرض الحاجة إلى البيان بيان، والعالم يلزمه أن ينكر المنكر، فإذا سكت عن الإنكار دل سكوته على موافقته على الفتوى.
وما ذكر من الاحتمالات التي يمكن أن يحمل عليها سكوته كلها احتمالات ضعيفة؛ إذ لو تحقق بعضها لقامت عليه قرائن تدل عليه، ولما سكت عن الإنكار إلى وفاته، ثم إن عادة العلماء الجهر بالحق وعدم الخوف من سلطان أو غيره، وإذا سكت العالم عن الإنكار علانية فلن يسكت عن بيان الحق لطلابه وخاصته وناقلي فقهه، وأما سكوته لعدم نظره في المسألة فلا ينافي الإجماع؛ لأنه حينئذ لا قول له في المسألة.
وينبغي أن نعلم أننا لو اشترطنا تصريح كل عالم بالموافقة على الحكم لما أمكن أن نجد مسألة نقل إلينا فيها قول جميع المجتهدين، وكل ما نقله العلماء الذين ينقلون الإجماع هو من قبيل الإجماع السكوتي، فليتأمل.
وأما الإجماع الضمني، فقد اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه حجة، وهو مذهب أكثر الأصوليين، واستدلوا على ذلك بأن إحداث قول ثالث لا يخلو من أمرين: أحدهما أن يكون هذا القول المحدث خطأ وحينئذ لا يعتد به. والثاني أن يكون هذا القول صوابا فيكون القولان أو الأقوال التي ذهب إليها أهل العصر السابق كلها خطأ فتخلو الأمة في عصرهم عن قائم لله بالحجة، وهذا مستحيل دل على استحالته أدلة حجية الإجماع، فتبين أن كلا الاحتمالين باطل فيكون إحداث قول جديد باطلا.
القول الثاني: أنه ليس بحجة ولا إجماع، واستدلوا على ذلك بأن الإجماع لا يمكن أن يؤخذ من الخلاف، وأصحاب العصر السابق قد اختلفوا فكيف يستدل باختلافهم على الإجماع. وأيضا فإن أصحاب القرن السابق قد اختلفوا في المسألة، فيستدل باختلافهم على أن المسألة خلافية، وأن الخلاف فيها سائغ، وإذا ساغ الخلاف فيها فلا مانع من إحداث قول جديد.
القول الثالث: التفصيل، فإن كانت أقوال المختلفين بينها قدر مشترك والقول المحدث يرفع ما اتفقت عليه فهو باطل، وإن لم يرفع ما اتفقت عليه الأقوال فهو اجتهاد سائغ.
ومثلوا للقول الذي يرفع ما اتفقت عليه الأقوال السابقة بأن الصحابة اختلفوا في ميراث الجد والإخوة فقال بعضهم: يشَرّك بينهم، وقال الآخرون الميراث للجد، والإخوة محجوبون، والقدر المشترك بين القولين أن الجد لا يمكن أن يحرم من الإرث حينئذ، فلو قال المتأخر: الميراث للإخوة والجد يحجب بهم لكان قوله باطلا مخالفا للإجماع.
ومثلوا للقول المحدث الذي لا يرفع ما اتفق عليه القولان السابقان بما إذا اختلف المتقدمون في العيوب هل يفسخ بها النكاح، فقال بعضهم: لا يفسخ النكاح بالعيوب، وقال بعضهم يفسخ بها، فلو ذهب ذاهب بعد عصرهم إلى أن بعض العيوب يفسخ بها دون بعض لما كان قوله مخالفا للإجماع.
وكذلك مثلوه بالخلاف في متروك التسمية، فلو اختلفوا على قولين: أحدهما بتحريمه والآخر بحله، ثم جاء المتأخر وفرق بين متروك التسمية عمدا ومتروك التسمية سهوا؛ فحرم الأول دون الآخر، لما عد قوله مخالفا للإجماع.
والذي يظهر لي أن قول القائلين إن اختلافهم على قولين إجماع على المنع من إحداث قول ثالث ليس بأولى من قول الآخرين: اختلافهم على قولين تسويغ للخلاف في المسألة وإقرار لكونها اجتهادية لا قطعية، ولهذا فلا يعد اختلافهم على قولين إجماعا على المنع من إحداث قول جديد، والمسائل التي اختلف فيها السابقون على قولين وفصل فيها المتأخرون أكثر من أن تحصى. والعصمة إنما ثبتت للأمة بشرط الاتفاق، أما مع الاختلاف فلم تثبت لهم العصمة، بل ربما أخطأ كل منهم في بعض ما قال وأصاب في بعضه الآخر فلا يمتنع أن يكون القول بالتفصيل هو الصواب.
والأحاديث التي استدل بها من جعل إحداث القول الثالث مخالفا للإجماع، كحديث: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق» وما في معناه، لا دليل فيها على الدعوى؛ لأن المراد بالحديث ليس العصمة من الخطأ في كل مسألة وإن صغرت، وإنما المراد بقاء طائفة من المسلمين على الدين الحق، ووقوع الخطأ منهم في مسألة جزئية لا ينفي كونهم على الحق؛ إذ لو لزم من الخطأ مجانبتهم الحق لما سلم من ذلك أحد، ولو سلمنا أن هذا مراد الحديث فإن خطأ الطوائف التي نقلت أقوالهم في هذه المسألة لا يمنع وجود طائفة قالت بالقول الحق فيها وإن لم يصل إلينا قولهم، ثم إن الحديث ليس فيه أنهم يعلنون قولهم، بل فيه أنهم على الحق، أي: في عملهم وسيرتهم.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم