الأشهر الحرم: خصائصها وأحكامها

الشيخ د محمود بن أحمد الدوسري

2025-05-30 - 1446/12/03 2025-07-08 - 1447/01/13
عناصر الخطبة
1/اصطفاء الله الأشهر الحرم وتفضيلها 2/من خصائص الأشهر الحرم وفضائلها

اقتباس

وَمِنْ خَصَائِصِها: أَعْظَمُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ -تَعَالَى- كَانَتْ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ: فَفِيهَا: عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ؛ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ غَيْرِهَا، وَفِيهَا يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَيَوْمُ الْقَرِّ -الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ-، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَفِيهَا فَضْلُ صِيَامِ شَهْرِ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِهِ الْكَرِيمِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَصْطَفِي مَا يَشَاءُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَيَصْطَفِي مَا يَشَاءُ مِنَ الرُّسُلِ وَالرِّسَالَاتِ؛ قَالَ -تَعَالَى-: (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ)[الْحَجِّ: 75]، وَيَصْطَفِي اللَّهُ مَا يَشَاءُ مِنَ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَيَصْطَفِي مَا يَشَاءُ مِنَ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ، وَيَصْطَفِي مَا يَشَاءُ مِنَ الشَّعَائِرِ الزَّمَانِيَّةِ وَالْمَكَانِيَّةِ.

 

وَمِنَ الشَّعَائِرِ الزَّمَانِيَّةِ الَّتِي اصْطَفَاهَا اللَّهُ -تَعَالَى- وَعَظَّمَهَا وَأَمَرَ بِتَعْظِيمِهَا الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ، قَالَ -تَعَالَى-: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ -أَيْ: عَدَدَ الشُّهُورِ- عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ -أَيْ: مُحَرَّمَةٌ- ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)[التَّوْبَةِ: 36]، يُخْبِرُ -تَعَالَى- بِأَنَّ عَدَدَ الشُّهُورِ عِنْدَهُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا قَمَرِيًّا، مَكْتُوبَةٌ فِي حُكْمِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِهِ الْمُسَطَّرِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)[يُونُسَ: 5]، وَهُنَاكَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ يَحْرُمُ فِيهَا الْقِتَالُ، وَيَحْرُمُ انْتِهَاكُ الْمَحَارِمِ فِيهَا أَشَدَّ مِمَّا يَحْرُمُ فِي غَيْرِهَا، وَهِيَ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَمُحَرَّمٌ، وَرَجَبٌ، ذَلِكَ الدِّينُ الْمُسْتَقِيمُ، وَالْحِسَابُ الصَّحِيحُ، فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ بِارْتِكَابِكُمُ السَّيِّئَاتِ.

 

وَجَاءَ بَيَانُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ شَهْرُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ)، قَالَ ابْنُ رَجَبٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "أَخْبَرَ -سُبْحَانَهُ- أَنَّهُ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَخَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ يَدُورَانِ فِي الْفَلَكِ، وَخَلَقَ مَا فِي السَّمَاءِ مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ، وَجَعَلَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يَسْبَحَانِ فِي الْفَلَكِ، وَيَنْشَأُ مِنْهُمَا ظُلْمَةُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ؛ فَمِنْ حِينِئِذٍ جَعَلَ السَّنَةَ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا بِحَسَبِ الْهِلَالِ، فَالسَّنَةُ فِي الشَّرْعِ مُقَدَّرَةٌ بِسَيْرِ الْقَمَرِ وَطُلُوعِهِ، لَا بِسَيْرِ الشَّمْسِ وَانْتِقَالِهَا، كَمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ".

 

عِبَادَ اللَّهِ: وَمِنْ خَصَائِصِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَأَحْكَامِهَا:

شَرَّفَهَا اللَّهُ -تَعَالَى- وَعَظَّمَهَا، وَمَيَّزَهَا عَنْ بَاقِي الشُّهُورِ: فَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُعَظِّمِينَ لِشَعَائِرِ اللَّهِ وَحُرُمَاتِهِ، قَالَ -تَعَالَى-: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)[الْحَجِّ:32]، وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ)[الْحَجِّ: 30]، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "خَصَّ اللَّهُ -تَعَالَى- الْأَرْبَعَةَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمَ بِالذِّكْرِ، وَنَهَى ‌عَنِ ‌الظُّلْمِ ‌فِيهَا ‌تَشْرِيفًا لَهَا، وَإِنْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ فِي كُلِّ الزَّمَانِ، كَمَا قَالَ -سُبْحَانَهُ-: (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)[الْبَقَرَةِ: 197]"، فَيَنْبَغِي أَنْ نَتَّقِيَ اللَّهَ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهَا، وَنَجْتَهِدَ أَكْثَرَ بِزِيَادَةِ الْوَرَعِ، وَالْبُعْدِ عَنِ الْآثَامِ وَالذُّنُوبِ.

 

وَمِنْ خَصَائِصِها: ارْتِكَابُ الذُّنُوبِ فِيهَا أَعْظَمُ مِنْ غَيْرِهَا: فَالسَّيِّئَةُ وَإِنْ كَانَتْ لَا تُضَاعَفُ إِلَّا أَنَّهَا قَدْ يَعْظُمُ إِثْمُهَا أَحْيَانًا بِشَرَفِ الزَّمَانِ أَوِ الْمَكَانِ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي مَعْنَى قَوْلِهِ -تَعَالَى-: (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ): "أَيْ: فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ الْمُحَرَّمَةِ؛ لِأَنَّهَا ‌آكَدُ ‌وَأَبْلَغُ فِي الْإِثْمِ مِنْ غَيْرِهَا، كَمَا أَنَّ الْمَعَاصِيَ فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ تُغَلَّظُ؛ لِقَوْلِهِ -تَعَالَى-: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)[الْحَجِّ: 25]، وَكَذَلِكَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ تُغَلَّظُ فِيهِ الْآثَامُ".

 

وَمِنْ خَصَائِصِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ: يَحْرُمُ الْقِتَالُ فِيهَا ابْتِدَاءً عَلَى الْقَوْلِ الرَّاجِحِ: إِلَّا أَنْ يَبْدَأَنَا الْكُفَّارُ بِالْقِتَالِ، أَوْ يَكُونَ الْقِتَالُ إِتْمَامًا لِقِتَالٍ سَابِقٍ؛ فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، قَالَ -تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ)[الْمَائِدَةِ: 2]، أَيْ: لَا تَنْتَهِكُوا حُرْمَةَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ بِابْتِدَاءِ الْقِتَالِ فِيهَا، وَبِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ وَالْمُحَرَّمَاتِ، فَفِي الْآيَةِ إِرْشَادٌ إِلَى احْتِرَامِ أَعْظَمِ الْمَكَانِ: الْحَرَمِ، وَأَكْرَمِ الزَّمَانِ: الشَّهْرِ الْحَرَامِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَغْزُو فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، إِلَّا أَنْ يُغْزَى -أَوْ يُغْزَوْا- فَإِذَا حَضَرَ ذَلِكَ، أَقَامَ حَتَّى يَنْسَلِخَ"(صَحِيحٌ، رَوَاهُ أَحْمَدُ).

 

وَمِنْ خَصَائِصِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ: وَضَعَ اللَّهُ هَذِهِ الْأَشْهُرَ، وَسَمَّاهَا بِأَسْمَائِهَا، وَرَتَّبَهَا، وَشَرَعَهَا لِأَنْبِيَائِهِ: فَيُسْتَدَلُّ بِهِ لِمَنْ قَالَ: "إِنَّ اللُّغَاتِ تَوْقِيفِيَّةٌ"، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ -تَعَالَى-: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ -أَيْ: فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ- يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ)، وَحُكْمُهَا بَاقٍ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ؛ وَلِذَا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ الزَّمَانَ -أَيِ: السَّنَةَ الْعَرَبِيَّةَ الْهِلَالِيَّةَ- قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ -أَيْ: عَلَى الْوَضْعِ الَّذِي كَانَ قَبْلَ النَّسِيءِ، لَا زَائِدًا فِي الْعَدَدِ، وَلَا مُغَيِّرًا كُلَّ شَهْرٍ عَنْ مَوْضِعِهِ، اسْتَدَارَ اسْتِدَارَةً عَلَى مَا تَوَارَثُوهُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-، وَاسْتَدَارَ اسْتِدَارَةً مِثْلَ حَالَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ- السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ).

 

وَالْمُرَادُ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يُؤَخِّرُونَ الْمُحَرَّمَ إِلَى صَفَرٍ، وَهُوَ النَّسِيءُ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ)[التَّوْبَةِ: 37]؛ لِيُقَاتِلُوا فِيهِ، وَيَفْعَلُونَ ذَلِكَ كُلَّ سَنَةٍ بَعْدَ سَنَةٍ، فَيَنْتَقِلُ الْمُحَرَّمُ مِنْ شَهْرٍ إِلَى شَهْرٍ، حَتَّى جَعَلُوهُ فِي جَمِيعِ شُهُورِ السَّنَةِ، فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ السَّنَةُ عَادَ إِلَى زَمَنِهِ الْمَخْصُوصِ بِهِ قَبْلَ النَّقْلِ، وَدَارَتِ السَّنَةُ كَالْأُولَى، فَوَافَقَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَوْدَهُ إِلَى أَصْلِهِ، فَوَقَعَ الْحَجُّ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَبَطَلَ النَّسِيءُ الَّذِي كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَعَادَتِ الْأَشْهُرُ إِلَى الْوَضْعِ الْقَدِيمِ.

 

وَمِنْ خَصَائِصِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ: الْأَشْهُرُ الْقَمَرِيَّةُ هِيَ الْمُعْتَبَرُ فِي حِسَابِ الشُّهُورِ وَالسِّنِينَ: وَعَلَيْهَا الْمُعْتَمَدُ فِي ابْتِدَاءِ صِيَامِ رَمَضَانَ وَانْتِهَائِهِ، وَنُسُكِ الْحَجِّ، وَعُدَّةِ الطَّلَاقِ وَالْوَفَاةِ، وَالرَّضَاعِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْأَشْهُرُ الْقَمَرِيَّةُ هِيَ أَقْدَمُ أَشْهُرِ التَّوْقِيتِ وَأَضْبَطُهَا، وَيُمْكِنُ الْعِلْمُ بِهَا بِالرُّؤْيَةِ الْبَصَرِيَّةِ لِلْأُمِّيِّينَ وَالْمُتَعَلِّمِينَ، فِي الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ عَلَى سَوَاءٍ، وَلَمَّا اسْتَعْمَرَ الْكُفَّارُ كَثِيرًا مِنَ الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ حَوَّلُوا التَّارِيخَ إِلَى تَارِيخِهِمْ؛ اسْتِذْلَالًا لِلشُّعُوبِ.

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ...

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَمِنْ خَصَائِصِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَأَحْكَامِهَا:

أَنَّهَا تُوَافِقُ رُكْنَ الْحَجِّ الْعَظِيمَ: قَالَ -تَعَالَى-: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ)[الْبَقَرَةِ: 197]، قَالَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: "أَشْهُرُ الْحَجِّ شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: "مِنَ السُّنَّةِ أَنْ لَا يُحْرِمَ بِالْحَجِّ إِلَّا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

 

وَمِنْ خَصَائِصِها: أَعْظَمُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ -تَعَالَى- كَانَتْ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ: فَفِيهَا: عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ؛ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ غَيْرِهَا، وَفِيهَا يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَيَوْمُ الْقَرِّ -الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ-، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَفِيهَا فَضْلُ صِيَامِ شَهْرِ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ؛ لِقَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ)، وَفِيهَا: صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَعَاشُورَاءَ، وَفَضْلُ الصِّيَامِ فِيهِمَا عَظِيمٌ.

 

وَمِنْ خَصَائِصِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ: اعْتَمَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَرْبَعَ عُمَرٍ، كُلُّهُنَّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ؛ مُخَالَفَةً لِأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ: عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ أَنَسًا -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَخْبَرَهُ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ كُلُّهُنَّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ إِلَّا الَّتِي مَعَ حَجَّتِهِ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)، قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "وَلَا خِلَافَ أَنَّ عُمَرَهُ ‌لَمْ ‌تَزِدْ ‌عَلَى ‌أَرْبَعٍ"، وَقَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَإِنَّمَا اعْتَمَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَذِهِ الْعُمْرَةَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ؛ لِفَضِيلَةِ هَذَا الشَّهْرِ، وَلِمُخَالَفَةِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَهُ -أَيِ: الِاعْتِمَارَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ- مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ، فَفَعَلَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَرَّاتٍ فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ؛ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي بَيَانِ جَوَازِهِ فِيهَا، وَأَبْلَغَ فِي إِبْطَالِ مَا كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ عَلَيْهِ"، وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَخْتَارَ لِنَبِيِّهِ فِي عُمَرِهِ إِلَّا أَوْلَى الْأَوْقَاتِ، وَأَحَقَّهَا بِهَا، فَأَوْلَى الْأَزْمِنَةِ بِالْعُمْرَةِ أَشْهُرُ الْحَجِّ، وَذُو الْقَعْدَةِ أَوْسَطُهَا" بِتَصَرُّفٍ يَسِيرٍ.

 

وَمِنْ خَصَائِصِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ: لَمْ يَثْبُتْ فِي فَضْلِ شَهْرِ رَجَبٍ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، إِلَّا أَنَّهُ مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ: فَلَا يُخَصُّ بِصِيَامٍ، أَوْ صَلَاةٍ، أَوْ عُمْرَةٍ، أَوْ بِشَيْءٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَمِنَ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ فِي شَهْرِ رَجَبٍ صَلَاةُ الرَّغَائِبِ، تُصَلَّى بِصِفَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، وَسُوَرٍ وَأَدْعِيَةٍ مُعَيَّنَةٍ، قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "وَكُلُّ حَدِيثٍ فِي ذِكْرِ ‌صَوْمِ ‌رَجَبٍ، وَصَلَاةِ بَعْضِ اللَّيَالِي فِيهِ فَهُوَ كَذِبٌ مُفْتَرًى".

 

وَمِنْ خَصَائِصِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ: أَخْبَرَ اللَّهُ -تَعَالَى- أَنَّ هَذَا هُوَ الدِّينُ الْقَيِّمُ (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ): لِيُبَيِّنَ أَنَّ مَا سِوَاهُ مِنْ أَمْرِ النَّسِيءِ وَغَيْرِهِ مِنْ عَادَاتِ الْأُمَمِ لَيْسَ قَيِّمًا؛ لِمَا يَدْخُلُهُ مِنَ الِانْحِرَافِ وَالِاضْطِرَابِ.

 

المرفقات

الأشهر الحرم خصائصها وأحكامها.doc

الأشهر الحرم خصائصها وأحكامها.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات