الإبداع والابتكار - خطب مختارة

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2025-05-04 - 1446/11/06
التصنيفات:

اقتباس

فليس الإبداع أبدًا ما نراه من أناس مفتونين يخرجون على الشاشات فيطعنون في أصول الدين وثوابته، بحجة أنها لا تساير الزمان! وليس من الإبداع التفنن في دروب الاستمتاع الجنسي المحرم وكشف العورات والسوءات! وليس من الابتكار ما يصنعون من أفلام ماجنة ومن مسلسلات تًعلِّم الخنا والفجور!...

جَمَدَ أقوام وأخطأوا حين ظنوا أن الإسلام دين يحارب الإبداع ويقتله، أو يعرقله ويعيقه، أو أنه لا يقدره قدره ولا يهتم به!!

نقول: وكيف يكون ذلك والقرآن الكريم دائمًا أبدًا ما يلفت أنظارنا إلى جوانب الإبداع في هذه الأرض التي نحيا عليها، وفي تلك السماء التي تُظلنا، وفيما بين السماء والأرض من عجائب وغرائب وإبداعات، فنسمع القرآن الكريم يقول: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ)[الملك: 3-4]، ويلفت القرآن انتباهنا إلى الاتساع اللامتناهي للسموات والأرض، والذي لا يستطيع أحد بلوغ آخره: (يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ)[الرحمن: 33].

 

ترامى الكونُ يجمعُ خافقَيهِ *** ليحكيَ قصةً عنه الخيالُ

جمال فوق ما وصف الجمال *** وحسن ليس يشبهه مثال

جمال الرب أبدعه بكون ** يكيل به الجمال ولا يكال

بديعُ الصنعِ أعطى كل شيءٍ *** حقيقتَهُ، ففاض بها الكمال

فهذا الفجرُ في كسل تمطى *** بنور النور يسحبه انثِيال

وخضرة وجه أرضٍ في بساط *** تناسجه انسياب وانهيال

وأثمار تبدى كل نوع *** تحامله بها شجر ثقال

وهذا البحر يرقص فيه ماء *** تلامع فوق موجته الهلال

 

بل كيف والقرآن الكريم هو نفسه يحتوي أنواعًا ثمينة من الإبداع اللغوي والإعجاز العلمي والابتكار والإتقان والإحسان: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)[الإسراء: 88]، لذا تحدى الله -تعالى- به أرباب الفصاحة والبيان... وكيف وقد سمى الجليل الكبير -عز وجل- نفسه: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)[البقرة: 117] و[الأنعام: 101]. 

 

فهذا الكون الشاسع كله يقطر إبداعًا وسموًا وإتقانًا؛ من ماء البحر المالح الذي يلتقي بالعذب فلا يختلط به، إلى النملة زجاجية الجسد التي تتحطم إذا ما داستها الأقدام، إلى تلك الأفلاك والأجرام السابحة في الفضاء، إلى عظيم إبداع الخالق -سبحانه وتعالى- في تصوير الإنسان وخلقه وأجهزته: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ)[الذاريات: 21].

 

وسيظل هذا الكون دومًا يفيض علينا من جوانب الإبداع والإحسان ما يعجز عن وصفه الواصف: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)[فصلت: 53].

 

وهذا النبي -صلى الله عليه وسلم- يفتح الباب على مصرعيه للفكر الإبداعي، فقد سأله عليٌ بن أبي طالب -رضي الله عنه- يومًا سؤالًا مؤداه: يا رسول الله، إذا بعثتني في أمر هل أنفذه بلا تفكير ولا تدبر، أم أعمل عقلي وأتريث في الأمر؟ فاختار له النبي -صلى الله عليه وسلم- الثانية، وهذا نص الحديث: عن علي قال: قلت: يا رسول الله، إذا بعثتني أكون كالسكة المحماة أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب؟ قال: "الشاهد يرى ما لا يرى الغائب"(رواه أحمد، وصححه الألباني).

 

ويشحذ -صلى الله عليه وسلم- عقول صحابته ويدعوهم إلى التفكير الإبداعي "التباعدي" فيسألهم: "إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي"(متفق عليه)... بل لقد جعل -صلى الله عليه وسلم- التفكر في إبداعات الله في كونه فريضة؛ فقال يومًا لأصحابه: "لقد نزلت علي الليلة آية، ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)[آل عمران: 190]"(رواه ابن حبان، وحسنه الألباني).

 

وحين يعظ -صلى الله عليه وسلم- صحابته تراه يبدع في ذلك ويبتكر؛ فيتخذ أساليب جديدة، منها أسلوب "ضرب الأمثال"، الذي هو إبداع في مجال الدعوة والوعظ، كالمثال الذي ضربه -صلى الله عليه وسلم- للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة..."(متفق عليه)، وكمثال أصناف البشر: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا"(متفق عليه)... وكمثال طول الأمل: فعن أنس بن مالك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خط خطوطًا وخط خطًا ناحية، ثم قال: "هل تدرون ماذا؟ هذا مثل ابن آدم ومثل المتمني، وذلك الخط الأمل، بينما يأمل إذ جاءه الموت"(رواه البخاري، والبيهقي في السنن الكبرى واللفظ له).

 

***

 

ولأن نبي الإسلام -صلى الله عليه وسلم- قد فتح للصحابة -ولجميع المسلمين من بعدهم- باب الإبداع والابتكار، فقد تخرج من تحت يديه -صلى الله عليه وسلم- جيل من العباقرة المبدعين المبتكرين؛ فها هو سلمان الفارسي يشير بحفر الخندق حول المدينة المنورة مما لم تكن تعهده العرب... وها هو الحباب بن المنذر يشير بنزول جيش المسلمين عند بئر بدر فيشرب المسلمون ويمنعون الكفار من الشرب... وها هو الأنصاري النجار يبتكر للنبي -صلى الله عليه وسلم- منبرًا من خشب ليتمكن الناس من رؤيته -صلى الله عليه وسلم- حين يخطب... وها هو زيد بن ثابت يتعلم السريانية ويتقنها في سبعة عشر يومًا... وها هو نعيم بن مسعود يدير حيلة متقنة ومكيدة محكمة يوقع بها الفُرقة والريبة بين الأحزاب الذين أتوا لاستئصال المسلمين وبين اليهود الذين خانوا وغدروا ونقضوا العهد... وها هو خالد بن الوليد يبدع في التخطيط العسكري الحربي فيقسم الجيش قلبًا وميمنة وميسرة ثم يجعل الميمنة ميسرة والميسرة ميمنة ليوهم العدو بمجيء المدد...

 

***

 

ولقد خاب قوم وخسروا حين ظنوا أن الإبداع والابتكار لا يكون إلا بمخالفة شريعة الله وتحديها!... خاب قوم وخسروا حين ظنوا أن الإبداع لا يكون إلا بنقض بناء الإسلام وابتغاء عيوبه، وما له من عيوب!... خاب قوم وخسروا حين تصوروا أن الإبداع هو الابتداع في الدين واختراع عبادات لم يأذن بها الله -عز وجل-!... خاب قوم وخسروا حين ابتغوا طريق الإبداع في الفسوق والعصيان!... خاب قوم وخسروا حين "أبدعوا" فيما يغضب الله من "فنون" الرقص والغناء والمجون والخلاعة!... خاب قوم وخسروا حين اعتقدوا أن الإبداع والابتكار هما الانفلات من الأوامر والنواهي، وأن الإبداع لا يكون إلا بذلك!...

 

فليس الإبداع أبدًا ما نراه من أناس مفتونين يخرجون على الشاشات فيطعنون في أصول الدين وثوابته، بحجة أنها لا تساير الزمان! وليس من الإبداع  التفنن في دروب الاستمتاع الجنسي المحرم وكشف العورات والسوءات! وليس من الابتكار ما يصنعونه من أفلام ماجنة ومن مسلسلات تًعلِّم الخنا والفجور!

 

***

 

وأكثر من هؤلاء خطأً، وأسوأ منهم فكرًا، وأغبى منهم عقلًا، من يربطون بين تقدم الغرب المادي وبين انحلاله الأخلاقي، ذلك الانحلال الأخلاقي الذي يدعون أنه "إبداع" و"تميز" و"ابتكار"... وضلوا والله وما كانوا مهتدين؛ فإن تقدمهم المادي هو نتيجة كدهم ونصبهم وأخذهم بالأسباب المادية، ولأن الله -تعالى- لا يظلم أحدًا، فإنه -عز وجل- يعطيهم -بعدله- نتيجة أعمالهم.

 

أما انحرافاتهم التي يسمونها "إبداعًا" و"ابتكارًا" فإنهم أيضًا يجزون بها انحطاطًا وتفسخًا وردة إلى طبائع الحيوانات وخصال الجمادات: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا)[الفرقان: 44].

 

إن كانوا بلغوا ذروة مادية *** وتجسسًا أسمونه استخبارًا

فانظر إلى أرواحهم وطباعهم *** هل تجد إلا قردة أشرارًا

وانظر إلى عقائد ممسوخة *** هل تلقى إلا ملحدين سكارى!

شهواتهم قد أطلقوها شبقة *** تعثوا عيانًا في النهار جهارًا!

فهموا وخنزير أباحوا إخوة؛ *** يستعذبون الرجس والأقذارًا

 

***

 

ودعونا نجعلها قاعدة ثابتة تضبط الأمور فنقول: كل تصرف أو فعل أو قول لا ينضبط بضوابط الشريعة فهو انحلال ومروق وفسوق مهما كسوه ثوب إبداع زائف أو ابتكار منحل...

 

وقاعدة الإبداع والتطور والتجديد الحق أن يبني ولا يهدم، وأن يعمِّر ولا يخرِّب، وأن يقود إلى المعالي لا أن يجر إلى الهاوية! لذا عرفه المفكرون بأنه: "الإبداع: إطلاق طاقات الخلق والابتكار، دون قيد على العقل، في حدود المنهج الإسلامي، إلى الحد الذي ينال فيه المجتهد أجرًا حتى ولو أخطأ، مادام ملتزمًا بالإطار الأخلاقي الإسلامي الذي لا يحكمه الهوى، وإنما يحكمه الضمير الذي يُدرك مسؤوليته عن الإبداع بطريقة تؤكّد توجيه طاقات الإبداع" إلى ما يحب الله ويرضى(للشيخ علي القاضي).

 

وما هذا بادعائنا ولا من كيسنا، بل هو ما اتفق عليه العقلاء والعلماء والفقهاء والخطباء، نعم تضافرت على تأييد ذلك كلمة الخطباء، ومنهم من جمعنا اليوم من خطبهم:

 

 

العنوان

التميز ... معناه وأثره في الفرد والمجتمع

2020/02/21 8535 580 32

ينبغي لِمَنْ وهَبَه اللهُ التميزَ أن يتقي الغرورَ والإعجابَ بالنفس؛ فإن تميُّزَه مِنْ أقربِ مظانِّ ذلكم، وما اغتال المرءَ شيءٌ كالغرور، يضاف إلى ذلكم أن التميز هو عمل المرء نفسه بكدحه ويده وليس بالصعود على أكتاف الآخرينَ وسرقة تميُّزِهم وإتقانِهم ونسبتهما إليها...

المرفقات

التميز ... معناه وأثره في الفرد والمجتمع


العنوان

مفهوم الإبداع في الفن

2015/07/23 1777 219 1

نريد أن نتطرق إلى موضوع ليس مهما في ذاته، بل هو في حقيقته تافه!. ولكن الأهمية تكمن في كونه يقع ضمن وسائل المجموعة المفسدة، التي تريد تفكيك ما تسميه: "العقدة الدينية المحافظة على بلادنا" مجموعة الليبراليين، التغريبين، أو سمهم ما شئت، لا يهمنا المسمى!. تلك المجموعة التي تريد فك هذه العقدة؛ لأنها تقيدهم، وتقف أمام ما يشتهونه من حرية بـ...

المرفقات

مفهوم الإبداع في الفن.doc


العنوان

الإسلام والتقدم

2015/01/14 9950 431 13

نجد أن كتاب الإسلام الخالد وهو القرآن، يحدثنا في قصة آدم -عليه السلام- عن العلم باعتباره المؤهل الأول للخلافة في الأرض، وبه تفوق آدم على الملائكة، ويحدثنا في قصة نوح عن صناعة السفن، وفي قصة داود عن إلانة الحديد وصناعة الدروع، وفي قصة سليمان عن صناعة الجن له ماشاء. ويحدثنا عن التخطيط الاقتصادي البعيد المدى لمدة أربع عشرة سنة في سورة يوسف...

المرفقات

والتقدم


العنوان

المتميزون

2022/05/22 1988 512 0

أَشْرَفُ النُّفُوسِ نَفْسٌ تَتُوْقُ إلى التَمَيُّزِ والتَفَوِّقِ والصَدَارَةِ، تَتُوْقُ إلى التَمَيُّزِ في كُلِّ عَمَلٍ نَبِيْلٍ، وفي كُلِّ مَسْلَكٍ جَلِيْلٍ، تَتَمَيَّزُ في كُلِّ عِلْمٍ تَتَعَلَّمَه، وفي كُلِ عَمَلِ تَعْمَلَه، وفي كُلِّ تجارةٍ تُضارِبُ بها، وفي كُلِّ وظيفةٍ ومهنةٍ وصناعةٍ تَتَخَصَّصُ بها تَتَمَيَّزُ. المُتَمَيّزُون أَقوامٌ نُجَباءُ يَنْتَقُونَ...

المرفقات

المتميزون.doc

المتميزون.pdf


العنوان

كن مميزا

2020/09/03 7211 944 31

التميز يتجلى في مجالات واسعة وميادين كثيرة؛ فمن ذلك: التميز بصفاء العقيدة وصحة الإيمان والمنافسة على طاعة الواحد الديان وقوة التمسك بهذا الدين والعمل به والدعوة إليه..

المرفقات

كن مميزا

كن-مميزا-1


العنوان

ناب السناب

2024/09/05 1096 218 11

هذه التطبيقات سلاح ذو حدين، ومن لم يَغْزُ غُزِيَ، وما غُزِيَ قوم في عُقر دارهم إلا ذلّوا؛ فاستبقوا التطبيقات، واجعلوا نفعها أكبر من إثمها، واجعلوها مصدر خير وإشعاع تنطلق منها الرسائل المعبّرة، والمقاطع المؤثرة والكلمات الدعوية المنذرة المبشِّرة.

المرفقات

ناب السناب.doc

ناب السناب.pdf


العنوان

فتلك ثقافتهم خالية

2012/01/10 4033 789 19

الثقافة عند هؤلاء أن تتناول قلماً وتكتب مقالة، ليس من شروطه الإنصاف والموضوعية، وليس من شروطه القوة والجدية، وليس من شروطها حسن العرض وسلامة الأفكار، وليس من شروطه الجِدةُ وروعةُ الابتكار؛ كل ذلك لا قيمةَ له ولا وزن، بل يكفي أن تهجو من خلالِه المقبلين على الله الملتزمين بشرع الله, وأن تحشر فيها عدة مصطلحات معروفة تكررها بين كل سطر والذي يليه، ففي السطر الأول مصطلح الظلاميين، وفي السطر الثاني مصطلح القرون الوسطى، وفي السطر الثالث مصطلح الماضوي ..

المرفقات

ثقافتهم خالية


إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات