د. خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني
وَفِيه ضَابِطَانِ:
الضَّابِطُ الأَوَّلُ: الإِجْمَاعُ: اتِّفَاقُ مُجْتَهدِي الأُمَّةِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي عَصْرٍ مِنَ العُصُورِ عَلَى أَمْرٍ مِنَ الأُمُورِ.
الضَّابِطُ الثَّانِي: الإِجْمَاعُ السُّكُوتِيُّ حُجَّةٌ عِنْدَ بَعْضِهمْ.
الشرح:
قَوْلُهُ: (الإِجْمَاعُ): هذا الدليل الثالث من الأدلة الشرعية المُجْمَع عليها.
والإجماع لُغَةً: العزيمة على الأمر[1]، ومنه قول الله تعالى: ﴿ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ ﴾ [يونس: 71].
ويقال: أجمع المسلمون على كذا؛ أي: اجتمَعت آراؤهم عليه[2].
ويُطلقُ الإجماع على الاتفاق، يقال: هذا أمر مُجْمَعٌ عليه؛ أي: مُتَّفَق عليه[3].
واصطلاحًا: سيأتي في تعريف شيخنا حفظه الله.
فائدة: حجية الإجماع:
اتَّفق العلماء على حُجية الإجماع، وأنكره بعضُ أهل البدع من المعتزلة والشيعة[4].
ومن الأدلة على حجية الإجماع:
الدليل الأول: قول الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 115].
وهذا يوجب اتباعَ سبيل المؤمنين، ويحرِّم مخالفتَهم[5].
الدليل الثاني: قول الله تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110].
وهذا وصف لهم بأنهم يأمرون بكل معروف، ويَنهون عن كل مُنكَر، فلو قالت الأمة في الدين بما هو ضلال، لكانت لم تأمر بالمعروف في ذلك، ولم تنهَ عن المنكر فيه، ولو اجتمعوا على باطل كانوا قد اجتمعوا على منكر لم ينهوا عنه، ومعروف لم يُؤمروا به، وهو خلاف ما وصفهم الله تعالى به، فثبَت أنهم لا يجتمعون على ضلالة[6].
الدليل الثالث: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((عَلَيْكُمْ بِالجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالفُرْقَةَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الجَنَّةِ[7] فَلْيَلْزَمُ الجَمَاعَةَ))[8].
وجه الشاهد: أن الجماعة إما أن تكون بمعنى اجتماع الأبدان، وإما أن تكون بمعنى اجتماع الأقوال.
والمعنى الأول ممتنع؛ لأنه لا يقدِر أحدٌ أن يلزم جماعة قوم متفرِّقين، ولأن الأبدان إذا اجتمعت كانت من المسلمين، والكافرين، وغيرهم، فلم يكن في لزوم الأبدان معنى.
فدل ذلك على أن المراد هو اجتماع الأقوال؛ قال الإمام الشافعي: (إذا كانت جماعتهم متفرقة في البلدان، فلا يقدر أحدٌ أن يلزم جماعةَ أبدانِ قومٍ متفرقين، وقد وُجِدت الأبدان تكون مجتمعة من المسلمين والكافرين والأتقياء والفُجَّار، فلم يكن في لزوم الأبدان معنى؛ لأنه لا يمكن، ولأن اجتماع الأبدان لا يصنع شيئًا، فلم يكن للزوم جماعتهم معنى، إلا ما عليهم جماعتهم من التحليل والتحريم والطاعة فيهما.
ومن قال بما تقول به جماعة المسلمين، فقد لزم جماعتهم، ومن خالَف ما تقول به جماعةُ المسلمين فقد خالف جماعتهم التي أُمِر بلزومها، وإنما تكون الغفلة في الفُرْقَة، فأما الجماعة فلا يمكن فيها كافةً غفلةٌ عن معنى كتاب، ولا سُنَّة، ولا قياس)[9].
الدليل الرابع: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: ((إِنَّ أُمَّتِي لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ))[10].
قَوْلُهُ: (الضَّابِطُ الأَوَّلُ: الإِجْمَاعُ): أي في اصطلاح الأصوليين.
قَوْلُهُ: (اتِّفَاقُ مُجْتَهدِي): أي صادر عن جميع العلماء المجتهدين، فلا يصح اتفاق بعض المجتهدين، وكذلك لا يصح اتفاقُ غير المجتهدين كالعامة، ومن لم تَكتملْ فيه شروط الاجتهاد، ولا تقدح مخالفته في انعقاد الإجماع [11].
والمراد باتفاقهم: اتحاد اعتقادهم، واحتُرِز بالاتفاق عن الاختلاف، فلا يُسَمَّى إجماعًا[12].
قَوْلُهُ: (الأُمَّةِ): أي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يصح اتفاق مجتهدي بقية الأمة، كعلماء اليهود والنصارى، ونحوهم من الكفار - على أحكام دينهم، فإنه ليس إجماعًا شرعيًّا[13].
قَوْلُهُ: (بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم): أي بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، فلا ينعقد الإجماع فيحياته صلى الله عليه وسلم[14].
قَوْلُهُ: (فِي عَصْرٍ مِنَ العُصُورِ): أي اتفاق مجتهدي كل عصر، فلا يُشترط في الإجماع اتفاقُ هذه الأمة في كل الأعصار؛ لأنه إن اشتُرط أن يكون الإجماع في كل العصور، للزِم منه انعدامُ الإجماع[15].
والمراد بالعصر هنا: من كان من أهل الاجتهاد في الوقت الذي حدثت فيه المسألة، وظهر الكلام فيه، فهو من أهل ذلك العصر، ومن بلَغ رُتبة الاجتهاد بعد حدوث المسألة، فليس من أهل ذلك العصر[16].
قَوْلُهُ: (عَلَى أَمْرٍ مِنَ الأُمُورِ): أي من الأمور الدينيَّة التي تتعلق بالدِّين لذاته، سواء كانت أقوالًا، أو أفعالًا، أو اعتقادًا، أو تقريرًا، فلا يَصِحُّ اتفاقُ مجتهدي الأمة على أمر دُنْيَوي، أو عقلي؛ كالمصلحة في إقامة مَتْجَر، أو حِرفة.
ولا يصح كذلك اتفاقُهم على أمرٍ دِينيٍّ لا يتعلق بالدين لذاته، بل بواسطة، كاتفاقهم على بعض مسائل العربية، أو اللغة، أو الحساب ونحوه، فإن ذلك ليس إجماعًا شرعيًّا[17].
والخلاصة أنه يشترط في صحة الإجماع ستة شروط:
أحدها: أن يكون بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أن يكون العلماء من المسلمين.
الثالث: أن يتفق جميع العلماء على المسألة.
الرابع: أن يكون العلماء من المجتهدين.
الخامس: أن يكون العلماء في عصر من العصور، فلا يشترط في جميع العصور.
السادس: أن تكون المسألة المجمَع عليها من الأمور الدينية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (معنى الإجماع أن تجتمع علماء المسلمين على حكم من الأحكام، وإذا ثبت إجماع الأمة على حكم من الأحكام، لم يكن لأحدٍ أن يخرج عن إجماعهم؛ فإن الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولكنَّ كثيرًا من المسائل يَظن بعض الناس فيها إجماعًا، ولا يكون الأمر كذلك، بل يكون القول الآخر أرجح في الكتاب والسُّنَّة)[18].
فائدة: أقسام الإجماع.
ينقسم الإجماع باعتبار ذاته قسمين[19]:
أحدهما: إجماع قولي، أو فعلي.
أما القولي: فهو أن يتفق قول الجميع على الحكم بأن يقولوا كلُّهم: هذا حلال، أو حرام.
وأما الفعلي: فهو أن يفعلوا كلُّهم الشيء.
حكمة: هذا الإجماع حجة باتفاق.
الثاني: إجماع سكوتي، هو أن يقول بعضهم قولًا، وينتشر في الباقي، فيسكتوا عن مخالفته، أو أن يفعل بعضهم شيئا، ويتصلَ بالباقين فيسكتوا عن إنكاره.
حكمة: هذا الإجماع حُجَّة عند بعض الأصوليين.
قَوْلُهُ: (الضَّابِطُ الثَّانِي: الإِجْمَاعُ السُّكُوتِيُّ حُجَّةٌ عِنْدَ بَعْضِهمْ):
أي عند بعض الأصوليين، فبعض الأصوليين اعتبره حُجةً، ولم يعتبره إجماعًا، وبعضهم لم يعتبره حُجةً، ولا إجماعًا[20].
والصحيح أن الإجماع السكوتي حجةٌ ظنيةٌ إذا دلت قرائنُ الأحوال على أن العلماءَ الساكتين سكتوا مُضمِرين للرضا، وتجويزِ الأخذِ به[21].
ومن الأمثلة على ذلك[22]:
مثال [1]: إجماع الخلفاء الراشدين على جواز المساقاة في النخل والشجر والعِنب بجُزء معلوم يُجعل للعامل من الثمر، لم يُعلم لهم مخالف، فكان إجماعًا سُكوتيًّا.
مثال [2]: إجماع الخلفاء الراشدين على وجوب العِدَّة على المرأة التي خلا زوجُها بها، ولم يُصبها، ثم طلَّقها، لم يُعلَم لهم مخالفٌ، فكان إجماعًا سُكوتيًّا.
مثال [3]: إجماع الخلفاء الراشدين على وجوب التغريب عامًا مع الجلد للزاني غير المتزوج، لم يُعلم لهم مخالفٌ، فكان إجماعًا سُكوتيًّا.
مثال [4]: قول زيد بن ثابت رضي الله عنه أن من جنى على سِنٍّ فسوَّدها ففيها دية السنِّ كاملة، لم يُعلم له مخالِف، فكان إجماعًا سُكوتيًّا.
مثال [5]: قول ابن عمر رضي الله عنهما برفع اليدين في صلاة الجنازة، لم يُعلم له مخالف، فكان إجماعًا سكوتيًّا.
مثال [6]: قَطْع عليٍّ رضي الله عنه يد عبد بإقراره بالسرقة، وجَلَد عبدًا أقرَّ عندَه بالزِّنا نصف الحدِّ، لم يُعلم له مخالِف، فكان إجماعًا سُكوتيًّا.
مثال [7]: قول عليٍّ وابنِ مسعودٍ رضي الله عنهما أن الإمام أحقُّ من صلى على الجنازة، لم يُعلم لهما مخالف، فكان إجماعًا سكوتيًّا.
مثال [8]: قول عمرَ وعليٍّ رضي الله عنهما أن من ظاهر من أربع نسائه بكلمة واحدة، فقال: أنْتنَّ عليَّ كظهر أمي، لم يكن عليه أكثر من كفارة، لم يُعلم لهما مخالفٌ، فكان إجماعًا سكوتيًّا.
فائدة: أقسام الإجماع السكوتي:
ينقسم الإجماع السكوتي باعتبار الاحتجاج به ثلاثة أقسام[23]:
القسم الأول: أن تظهر على الساكتين أمارات الرضا بما ذهبوا إليه.
حكمه: هو إجماع بلا خلاف.
القسم الثاني: أن تظهر على الساكتين أماراتُ السَّخَط.
حكمه: لا يكون إجماعًا بلا نزاع.
القسم الثالث: لم يظهر على الساكتين شيء سوى السكوت.
حكمه: اختلف الأصوليون فيه، والصحيح أنه حُجَّةٌ ظنيَّةٌ، يقدَّم على ما هو دونَه بالظنِّ، ويقدَّمُ عليه الظن الذي هو أقوى منه، ولا يقدَّم على النص المعلوم.
[1] انظر: تهذيب اللغة، مادة «جمع».
[2] انظر: المفردات في غريب القرآن، صـ (201).
[3] انظر: تاج العروس، مادة «جمع».
[4] انظر: مجموع الفتاوى (11/ 341).
[5] انظر: أحكام القرآن، للشافعي (1/ 40)، وروضة الناظر (2/ 442).
[6] انظر: مجموع الفتاوى (19/ 176-177)، وشرح الكوكب المنير (2/ 217).
[7] بحبوحة الجنة: أي وسطها، [انظر: النهاية في غريب الحديث (1/ 98)].
[8] صحيح: رواه الترمذي (2165)، والنسائي في الكبرى (9175)، وأحمد (177)، عن عمر رضي الله عنه، وصححه أحمد شاكر، والألباني.
[9] انظر: الرسالة، للشافعي، صـ (473).
[10] صحيح: رواه أبو داود (4253) عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه، والترمذي (2167) عن ابن عمر رضي الله عنه، وابن ماجه (3950) عن أنس رضي الله عنه، واللفظ له، وصحَّحه الألباني.
[11] انظر: شرح مختصر الروضة (3/ 6)، والبحر المحيط في أصول الفقه (6/ 380)، وشرح الكوكب المنير (2/ 211، 224).
[12] انظر: شرح الكوكب المنير (2/ 211).
[13] انظر:شرح مختصر الروضة (3/ 6)، والبحر المحيط في أصول الفقه (6/ 380)، وشرح الكوكب المنير (2/ 221، 227، 236).
[14] انظر:البحر المحيط في أصول الفقه (6/ 380)، والمختصر في أصول الفقه، لابن اللحام، صـ (74)، وشرح الكوكب المنير (2/ 211).
[15] انظر: بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب، لأبي القاسم الأصفهاني (1/ 522)، وشرح التلويح على التوضيح، للتفتازاني (2/ 82).
[16] انظر: البحر المحيط في أصول الفقه (6/ 380).
[17] انظر: شرح مختصر الروضة (3/ 6)، والمختصر في أصول الفقه، صـ (74)، وشرح الكوكب المنير (2/ 211).
[18] انظر: مجموع الفتاوى (20/ 1).
[19] انظر: الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي، صـ (1/ 429)، ومجموع الفتاوى (19/ 267-268).
[20] انظر: روضة الناظر (1/ 492-493)، ومجموع الفتاوى (19/ 267-268)، والإحكام في أصول الأحكام (1/ 252)، والإبهاج في شرح المنهاج، للسبكي (2/ 280-281).
[21] انظر: روضة الناظر (1/ 493).
[22] انظر: المغني، لابن قدامة، في مواطن متفرقة.
[23] انظر: الإبهاج في شرح المنهاج (2/ 379-380)، ومجموع الفتاوى (19/ 267-268).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم