الإسراف والتبذير وعواقبه الوخيمة

الشيخ محمد بن مبارك الشرافي

2025-04-18 - 1446/10/20 2025-05-06 - 1446/11/08
عناصر الخطبة
1/بالشكر تدوم النعم 2/التحذير من كفران النعمة 3/قوم سبأ وعاقبة كفران النعم 4/حال النبي وأصحابه في ضيق العيش 5/التحذير من الإسراف وبيان بعض أضراره

اقتباس

إِنَّ الْإِسْرَافَ وَالتَّبْذِيرَ فِي الوَلَائِمِ خَاصَّةً لَهُ أَضْرَارٌ دِينِيَّةٌ وَاقْتِصَادِيَّةٌ وَاجْتِمَاعِيَّةٌ، مِنْ تَحَمِّلٍ لِلْدُّيونِ وَإِهْدَارٍ لِلثَّرْوَةِ الحَيَوَانِيَّةِ وَكَسْرٍ لِقُلُوبِ الفُقَرَاءِ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ ظَهَرَتْ عَادَةٌ سَيِّئَةٌ وَهِيَ تَصْوِيرُ الوَلَائِمِ وَالأَطْبَاقِ المتَنَوِّعَةِ ثُمَّ نَشْرُهَا فَي وَسَائِلِ التَّوَاصُلِ...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

الْحَمْدُ للهِ الذِي جَعَلَ الْمَالَ عِمَادَ الْحَيَاة، وَحَذَّرَنَا مِنَ التَّبْذِيرِ وَمِنْ صَرْفِ الْمَالِ فِي غَيْرِ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاه، فَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى مَا أَعْطَاه، وَلَهُ الشُّكْرُ عَلَى مَا أَوْلَاه، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وَاحْذَرُوا التَّبْذِيرَ وَالْإِسْرَافَ، فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ، وَإِنَّ الْمُبَذِّرِينَ إِخْوَانٌ لِلشَّيَاطِين، وَاعْلَمُوا أَنَّ كُفْرَ النِّعْمَةِ سَبَبٌ لِزَوَالِهَا، وَمَحْقٌ لِبَرَكَتِهَا وَإِيذَانٌ بِالْعُقُوبَةِ الْعَاجِلَةِ وَالآجِلَةِ، وَفَتْحٌ لِبَابِ الْعِوَزَ وَالْحَاجَةِ، قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)[إبراهيم: 7].

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ عِنْدَنَا تَجَاوُزٌ فِيمَا أَذِنَ اللهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ، فَظَهَرَ التَّبْذِيرُ وَالْإِسْرَافُ فِي الأَكْلِ وَالشُرْبِ وَاللُّبْسِ وَغَيْرِهَا مِنَ الحَاجِيَاتِ الشَّخْصِيَّةِ، واللهُ -تَعَالَى- يَقُولُ (وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا)[الإسراء: 26 - 27].

 

إِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا أَن نَّحْذَرَ زَوَالَ النَّعَمْ وَحُلَولَ النِّقَمِ، فَإِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ يُغَيِّرُ فِي وَقْتٍ قَصِيرٍ الْغِنَى إِلَى فَقْرٍ، وَالْبَسْطَةَ فِي الْعَيْشِ إِلَى إِقْتَارٍ، قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: (وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا)[الإسراء: 26 - 27].

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّهُ قَدْ وُجِدَ قَرِيبًا مِنَّا فِي بِلَادِ اليَمَنِ دَوْلَةٌ عَظِيمَةٌ اسْمُهَا دَوْلَةُ سَبَأٍ، وَكَانُوا فِي غِبْطَةٍ وَأَرْزَاقٍ دَارَّةٍ وَثِمَارٍ وَزُرُوعٍ كَثِيرَةٍ، وَكَانُوا عَلَى الِاسْتِقَامَةِ وَالسَّدَادِ وَطَرِيقِ الرَّشَادِ، فَلَمَّا بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ، وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلفِ أَنَّ الْمِيَاهَ كَانَتْ عِنْدَهُمْ تَجْرِي بَيْنِ جَبَلَيْنِ، فَسَدُّوا مَا بَيْنَهُمَا بِبَنَاءٍ مُحْكَمٍ جِدًّا فَارْتَفَعَ الْمَاءُ، وَهُوَ مَا عُرِفَ بسَدِّ مَأْرِبَ، فَغَرَسُوا الْبَسَاتِينَ وَالْأَشْجَارَ الْمُثْمِرَةَ، وَالزُّرُوعَ الْكَثِيرَةَ، حَتَّى ذَكَرَ بَعْضُ الْمُؤَرِّخِينَ أَنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ تَمُرُّ تَحْتَ الْأَشْجَارِ بِالْمِكْتَلِ عَلَى رَأْسِهَا فَيَمْتَلِئُ مِنَ الثِّمَارِ مِمَّا يَتَسَاقَطُ فِيهِ مِنْ نُضْجِهِ وَكَثْرَتِهِ، وَذَكَرُوا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي بِلَادِهِمْ شيءٌ مِنَ الذُّبَابِ وَلَا الدَّوَابِّ الْمُؤْذِيَةِ؛ لِصِحَّةِ هَوَائِهَا وَطِيبِ فِنَائِهَا، كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ)[سبأ: 15].

 

فَلَمَّا عَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ وَبَطَرُوا نِعْمَتَ اللهِ سُلِبُوا تِلْكَ النِّعْمَةَ الْعَظِيمَةَ وَالْحَسَنَةَ الْعَمِيمَةَ بِتَخْرِيبِ الْبِلَادِ وَالشَّتَاتِ، قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ)[سبأ: 16]، قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ من المؤرخين: أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَى أَصْلِ السَّدِّ نَوْعٌ مِنَ الْفَأْرَ وَهُوَ الْجُرَذُ فَلَمَّا فَطِنُوا لِذَلِكَ أَرْصَدُوا عِنْدَهَا السَّنَانِيرَ -وَهِيَ: الْقِطَطُ- فَلَمْ تُغْنِ شَيْئًا؛ إِذْ قَدْ حُمَّ الْقَدَرُ وَلَمْ يَنْفَعِ الْحَذَرُ، فَلَمَّا تَحَكَّمَ فِي أَصْلِهِ الْفَسَادُ سَقَطَ وَانْهَارَ، فَسَلَكَ الْمَاءُ الْقَرَارَ فَقُطِعَتْ تِلْكَ الْجَدَاوِلُ وَالْأَنْهَارُ وَانْقَطَعَتْ تِلْكَ الثِّمَارُ، وَمَادَتْ تِلْكَ الزُّرُوعُ وَالْأَشْجَارُ، وَتَبدَّلُوا بَعْدَهَا بِرَدِيءِ الْأَشْجَارِ وَالْأَثْمَارِ كَمَا قَالَ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ: (وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ)[سبأ: 16 - 17]، أَيْ: إِنَّمَا نُعَاقِبُ هَذِهِ الْعُقُوبَةَ الشَّدِيدَةَ مَنْ كَفَرَ بِنَا وَكَذَّبَ رُسُلَنَا، وَخَالَفَ أَمْرَنَا وَانْتَهَكَ مَحَارِمَنَا.

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالدُّنْيَا وَلا بِزُخْرُفِهَا، بَلْ كَانَ مُتَقَلِّلًا مِنْهَا مُدْبِرًا عَنْهَا حَاثًّا أَصْحَابَهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- عَلَى الْعُزُوفِ عَنَهَا، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: "وَاللهِ -يَا ابْنَ أُخْتِي- إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ، ثُمَّ الْهِلَالِ، ثُمَّ الْهِلَالِ، ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَارٌ"، قَالَ: قُلْتُ: يَا خَالَةُ، فَمَا كَانَ يُعَيِّشُكُمْ؟ قَالَتْ: "الْأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جِيرَانٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَكَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ، فَكَانُوا يُرْسِلُونَ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أَلْبَانِهَا، فَيَسْقِينَاهُ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "وَاللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ، إِنْ كُنْتُ لَأَعْتَمِدُ بِكَبِدِي عَلَى الأَرْضِ مِنَ الجُوعِ، وَإِنْ كُنْتُ لَأَشُدُّ الحَجَرَ عَلَى بَطْنِي مِنَ الجُوعِ، وَلَقَدْ قَعَدْتُ يَوْمًا عَلَى طَرِيقِهِمُ الَّذِي يَخْرُجُونَ مِنْهُ، فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، مَا سَأَلْتُهُ إِلَّا لِيُشْبِعَنِي، فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ، ثُمَّ مَرَّ بِي عُمَرُ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، مَا سَأَلْتُهُ إِلَّا لِيُشْبِعَنِي، فَمَرَّ فَلَمْ يَفْعَلْ، ثُمَّ مَرَّ بِي أَبُو القَاسِمِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآنِي، وَعَرَفَ مَا فِي نَفْسِي وَمَا فِي وَجْهِي، ثُمَّ قَالَ "يَا أَبَا هِرٍّ"، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "الْحَقْ"، وَمَضَى فَتَبِعْتُهُ، فَدَخَلَ، فَاسْتَأْذَنَ، فَأَذِنَ لِي، فَدَخَلَ، فَوَجَدَ لَبَنًا فِي قَدَحٍ، فَقَالَ: "مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ؟"، قَالُوا: أَهْدَاهُ لَكَ فُلاَنٌ أَوْ فُلاَنَةُ، قَالَ: "أَبَا هِرٍّ"، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "الْحَقْ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ لِي"، قَالَ: وَأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافُ الإِسْلاَمِ، لاَ يَأْوُونَ إِلَى أَهْلٍ وَلاَ مَالٍ وَلاَ عَلَى أَحَدٍ، إِذَا أَتَتْهُ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ وَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهَا شَيْئًا، وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ وَأَصَابَ مِنْهَا وَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا، فَسَاءَنِي ذَلِكَ، فَقُلْتُ -يَعْنِي فِي نَفْسِهِ-: وَمَا هَذَا اللَّبَنُ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ، كُنْتُ أَحَقُّ أَنَا أَنْ أُصِيبَ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَرْبَةً أَتَقَوَّى بِهَا، فَإِذَا جَاءَ أَمَرَنِي فَكُنْتُ أَنَا أُعْطِيهِمْ، وَمَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَنِي مِنْ هَذَا اللَّبَنِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بُدٌّ، فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ فَأَقْبَلُوا، فَاسْتَأْذَنُوا فَأَذِنَ لَهُمْ، وَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ مِنَ البَيْتِ، قَالَ: "يَا أَبَا هِرٍّ"، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "خُذْ فَأَعْطِهِمْ"، قَالَ: فَأَخَذْتُ القَدَحَ، فَجَعَلْتُ أُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ القَدَحَ، فَأُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ القَدَحَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ القَدَحَ، حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَدْ رَوِيَ القَوْمُ كُلُّهُمْ، فَأَخَذَ القَدَحَ فَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ، فَنَظَرَ إِلَيَّ فَتَبَسَّمَ، فَقَالَ: "أَبَا هِرٍّ"، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "بَقِيتُ أَنَا وَأَنْتَ"، قُلْتُ: صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "اقْعُدْ فَاشْرَبْ"، فَقَعَدْتُ فَشَرِبْتُ، فَقَالَ: "اشْرَبْ"، فَشَرِبْتُ، فَمَا زَالَ يَقُولُ: "اشْرَبْ"، حَتَّى قُلْتُ: لاَ -وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ- مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا، قَالَ: "فَأَرِنِي"، فَأَعْطَيْتُهُ القَدَحَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَسَمَّى وَشَرِبَ الفَضْلَةَ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)، فَهَذِهِ حَالُ نَبِيِّنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهَذِهِ حَالُ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم-، فَهَلْ مِنْ مُعْتَبِر؟.

 

أَقُولُ قَولِي هَذَا، وأَسْتِغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي ولكُم، فاستغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيْمُ.

 

 

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ للهِ الْبَرِّ الرَّحِيمِ الْحَلِيمِ الْعَظِيم، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى النَّبِيِّ الْكَرِيم وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وَاحْذَرُوا التَّجَاوُزَ فِي الْإِنْفَاقِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ النِّعْمَةَ تُحْفَظُ بِالشُّكْرِ وَتَزُولُ بِالْكُفْرِ، وَمَنْ تَعَدَّى وَظَلَمَ فَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لَهُ بِالْمِرْصَادِ، قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)[النحل: 112].

 

إِنَّ النَّاسَ فِي الْجَزِيرَةِ قَبْلَ أَكَثْرَ مِنْ 80 سَنَةً كَانُوا فِي فَقْرٍ وَفَاقَةٍ وَجُوعٍ عَظِيمٍ، حَتَّى إِنَّ عُلَمَاءِ السُّودَانِ كَانُوا يَحُثُّونَ الْأَغْنِيَاءَ هُنَاكَ عَلَى صَرْفِ زَكَاتِهِمْ لِإِخْوَانِهِمْ فِي الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَلِأَهْلِ نَجْدٍ بِالْخُصُوصِ؛ لِمَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ الشَّدِيدَةِ، فَهَلَّا اعْتَبَرْنَا بِأَحْوَالِنَا فِي الْمَاضِي؟.

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ الْإِسْرَافَ وَالتَّبْذِيرَ فِي الوَلَائِمِ خَاصَّةً لَهُ أَضْرَارٌ دِينِيَّةٌ وَاقْتِصَادِيَّةٌ وَاجْتِمَاعِيَّةٌ، مِنْ تَحَمِّلٍ لِلْدُّيونِ وَإِهْدَارٍ لِلثَّرْوَةِ الحَيَوَانِيَّةِ وَكَسْرٍ لِقُلُوبِ الفُقَرَاءِ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ ظَهَرَتْ عَادَةٌ سَيِّئَةٌ وَهِيَ تَصْوِيرُ الوَلَائِمِ وَالأَطْبَاقِ المتَنَوِّعَةِ ثُمَّ نَشْرُهَا فَي وَسَائِلِ التَّوَاصُلِ، مِنْ غَيْرِ دَاعٍ، وَإِنَّمَا هِيَ لِلْمُبَاهَاةِ وَالرِّيَاءِ، وَهَذَا كَلُّهُ مَعْصِيَّةٌ لِلَّهِ وِلِرَسُولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "كُلُوا وَاشْرَبُوا وَتَصَدَّقُوا وَالْبَسُوا، مَا لَمْ يُخَالِطْهُ إِسْرَافٌ أَوْ مَخِيلَةٌ"(رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ).

 

وَإِنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يَعْتَنِيَ أَهْلُ كُلِّ بَيْتٍ بِالْفَائِضِ مِنَ الطَّعَامِ، فَإِنْ لَمْ يَحْتَفِظُوا بِهِ لِأَكْلِهِ مَرَّةً ثَانِيَةً فَلْيَتَصَدَّقُوا بِهِ، أَوْ يَتَوَاصَلُونَ مَعَ الْجَمْعِيَّاتِ الْخَيْرِيَّةِ؛ لِيَأْخَذُوا الطَّعَامَ الزَّائِدَ وَيُوَزِّعُوهُ بِطَرِيقَتِهِمْ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمُحْتَاجِينَ، وَهَذَا خَاصَّةً فِي وَالْوَلائِمِ الْكَبِيرَةِ أَوِ الْأَعْرَاسِ.

 

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنِ اسْتَمَعَ القَوْلَ فَاتَّبَعَ أَحْسَنَه، اللَّهُمَّ إنا نَعَوذُ بك مِنْ زَوالِ نِعمتِك وتَحوُّلِ عَافِيتِك وفُجْأَةِ نِقمَتِك وجَميعِ سَخطِكِ، اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنا وَأَصْلِحْ لَنا دُنْيَانا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنا وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنا وَاجْعَلْ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِنا فِي كُلِّ خَيْرٍ وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ، اَللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ، اللَّهُمَّ وَفِّقْ إِمَامَنَا خَادِمَ الحَرَمَينِ الشَّرِيفَينِ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لِمَا تُحِبُّهُ وَتَرْضَاهُ، اللَّهُمَّ أَصْلِحْ بِطَانَتَهُمْ وَوُزَرَاءَهُمْ يَا رَبَّ العَالمَينَ.

 

اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَالْحَمْدِ للهِ رَبِّ العَالَمِينْ.

المرفقات

الإسراف والتبذير وعواقبه الوخيمة.doc

الإسراف والتبذير وعواقبه الوخيمة.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات