الباقيات الصالحات (عشر ذي الحجة)

د عبدالعزيز التويجري

2025-06-06 - 1446/12/10 2025-06-23 - 1446/12/27
التصنيفات: عشر ذي الحجة
عناصر الخطبة
1/أيام العشر نفحة من نفحات الله 2/ما يستحب من الطاعات في أيام العشر 3/ذكر الله شعار هذه الأيام 4/من صور الأعمال الصالحة 5/فضل يوم عرفة وما يستحب فيه 6/الحث على الأضحية وبيان شروطها

اقتباس

والعشر موسمٌ لأهل الفَضل والعَطاء، للإنفاق والإحسان والسخاء و"خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى"، أما ما لا يعذر بتركه أحد، ولا ينساه إلا الغافلون، فهو العَجُّ بالذِّكر، وتَرطِيب الألسِنة بالتكبير والتهليل، شعارُ هذه الأيَّام، وقد خصَّهَا المولى -سبحانه- بأنها أيَّام...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

الحمد للهِ الكريمِ الحليمِ، هو الأوَّلُ والآخرُ، والظاهرُ والباطنُ، وهو بكلِّ شيءٍ عليمٌ، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبِه وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا.

 

أمَّا بعد: فاتقُوا اللهَ -أيها المؤمنون- حَقَّ التَّقوَى؛ (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[البقرة: 231].

 

منذُ يومين والناسُ تُظللهم سحابةٌ موسميةٌ، تمطر عليهم خيرًا بلا حدٍ، وأجراً بلا عدٍ؛ تغفر الذنب وترفع العبد، السعيد الرابح من نال من خيرها، وأصاب من غيثها، وكلما تقادم الزمان احتاج الإنسان لتجديد الإيمان؛ فالقلوب تصدأ، والإيمان يخلق ويندرس كما يندرس الثوب، والتعرض لنفحات الله -تعالى- وعطاياه تحيي القلب، وتزيد من إيمان العبد.

 

وقد أطلت علينا عشر الليالي، البيض العوالي، خير أيام الدنيا، لا يعدل العملَ فيهن عملٌ آخر في أي يوم من أيام العام، إلا الشهيد المضحي بماله ونفسه، فضلاً من الله ونعمة.

 

وما لزم عبدٌ بابَ الاستِغفار والتوبة فكان توَّابًا أوَّابًا، إلاَّ أشرَقتْ عليه شمس التوفيق في دنياه، وسَرَّه ما يَلقاه في صحيفته في أُخرَاه، قال -عليه الصلاة والسلام-: "طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا كثيرا"(أخرجه النسائي بسند صحيح).

 

وإذا اجتَمَع للمسلم توبة واستغفار مع أعمالٍ صالحةٍ في أزمنةٍ فاضلة، فقد تقلَّد الفَلاح، وتوسَّم النجاح؛ (فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ)[القصص: 67].

 

وأفضَلُ أعمال الأبرار التي تُقدَّم في هذه الأيَّام، حجُّ بيت الله الحرام، مَن أدَّاه بنيَّة خالصة واتِّباع صحيح، فهنيئًا له تكفيرُ السيِّئات، والفَوْز بالجنَّات؛ فـ"الحجُّ المبرور ليس له جَزاء إلاَّ الجنَّة".

 

ومن لم يستطع إليه سبيلا، فإنّ أعمال الخير كلها للجنة طريقا، فمع الصيام يُجاب الدُّعاء والنَّجوى، ويُغرس في القلب التقوى، ويُباعِد المرء وجهَه عن نارٍ تلظَّى، ويسطر الصائم اسمَه في ديوان أهل الريَّان، قال ربنا: "إلاَّ الصوم؛ فإنَّه لي وأنا أجزي به".

 

ومن عجز فلا يعجز عن صيام يوم عرفة، قال -عليه الصلاة والسلام-: "صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ"(أخرجه مسلم).

 

والعشر موسمٌ لأهل الفَضل والعَطاء، للإنفاق والإحسان والسخاء و"خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى".

 

أما ما لا يعذر بتركه أحد، ولا ينساه إلا الغافلون، فهو العَجُّ بالذِّكر، وتَرطِيب الألسِنة بالتكبير والتهليل، شعارُ هذه الأيَّام، وقد خصَّهَا المولى -سبحانه- بأنها أيَّام ذكْرٍ لله؛ (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ)[الحج: 28]، قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير: "هي أيَّام العشر".

 

سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلاً يقول: "اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، وَسُبْحَانَ اللهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا"، فَقَالَ: "عَجِبْتُ لَهَا؛ فُتِحَتْ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ"، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: "فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ ذَلِكَ"، قال البخاري: "وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ: يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ العَشْرِ يُكَبِّرَانِ، وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا، وَكَانَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يُكَبِّرُ فِي قُبَّتِهِ بِمِنًى فَيَسْمَعُهُ أَهْلُ المَسْجِدِ، فَيُكَبِّرُونَ وَيُكَبِّرُ أَهْلُ الأَسْوَاقِ حَتَّى تَرْتَجَّ مِنًى تَكْبِيرًا" وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُكَبِّرُ بِمِنًى تِلْكَ الأَيَّامَ، وَخَلْفَ الصَّلَوَاتِ وَعَلَى فِرَاشِهِ وَفِي فُسْطَاطِهِ وَمَجْلِسِهِ، وَمَمْشَاهُ تِلْكَ الأَيَّامَ جَمِيعًا".

 

 وعند الإمام أحمد وغيره: "مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ، وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعَمَلُ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ"، وأفضل الذكر كلام الله، والغافل من صدته الملهيات عن كلام ربه، فاستكثر من الباقيات الصالحات؛ (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا)[الكهف: 46]، إذا رأيتَ من نفسك إقبالاً، فزِدْ فيها أعمالاً.

 

إِذَا هَبَّتْ رِيَاحُكَ فَاغْتَنِمْهَا *** فَإِنَّ لِكُلِّ عَاصِفَةٍ سُكُون

وَلاَ تَغْفُلْ عَنِ الإِحْسَانِ فِيهَا *** فَمَا تَدْرِي السُّكُونُ مَتَى يَكُون

 

 "دخلت بغيُ الجنة بشربة ماء سقتها كلب"، ورأى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلاً يتقلب في الجنة بغصن شوك أزاحه عن طريق المسلمين، هذا بمن أزاح غصن شوك، فكيف بمن يزيح أذى الدين، وسيئ الأخلاق عن المسلمين بالنصيحةِ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟.

 

التَحَابُ فِي اللهِ وَالتَّزَاوُرُ عَمَلٌ صَالِحٌ، وَجَزَاؤُه: "مَنْ عَادَ مَرِيضًا، أَوْ زَارَ أَخًا لَهُ فِي اللَّهِ؛ نَادَاهُ مُنَادٍ: أَنْ طِبْتَ وَطَابَ مَمْشَاكَ، وَتَبَوَّأْتَ مِنْ الْجَنَّةِ مَنْزِلاً"، البَشَاشَةُ لِلنَّاسِ حَسَنَاتٌ دَارَّاتٌ لِأَهْلِهَا؛ "وَتَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ صَدَقَةٌ"، "والسَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"، ودل الطريق صدقة، وحملك الرجل في الطريق صدقة، و"صِلَةُ الرَّحِمِ، وَحُسْنُ الْخُلُقُ؛ يُعَمِّرْنَ الدِّيَارَ، وَيَزِدْنَ فِي الأَعْمَارِ"، و"كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ"، "لا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا"، فلا تدي أي عمل يدخلك الجنة؟ فاضرب بكل بسهم.

 

وإياك ومحقرات الذنوب؛ فإنها تجتمع على العبد حتى تهلكه، والقطيعة والإسبال يُستهان بهن، وهن من الكبائر المهلكات، والكذب والغيبة والنميمة يأكلن الحسنات؛ (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا)[الطلاق: 5].

 

نستغفر الله العظيم، الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ونتوب إليه، واستغفروا ربكم إنه كان غفارا.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.

 

أما بعد: أخرج الإمام مسلم عن عَائِشَةُ -رضي الله عنها-، أنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟"، ولا ينزل الله إلى السماء إلا في زمن عظيم، ولم يثبت نزوله نهارا إلا يوم عرفة.

 

"وخَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةفالصائم إذا نادى ربه لبّاه الله وأجابه، فلا تهنوا في الدعاء ولا يحقرنّ أحدُ في هذا اليومِ نفسَه، فكم من أَشْعَث أغبر ذِي طمرين، لَو أقسم على الله لَأَبَره، "ومَا رُؤِيَ الشَّيْطَانُ أَصْغَرَ وَلَا أَذَلَّ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ"، قال عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: جِئْتُ إلَى سُفْيَانَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَهُوَ جَاثٍ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَعَيْنَاهُ تَهْمِلاَنِ، فَالْتَفَتُ إِلَيه فَقُلْتُ: "مَنْ أَسْوَأُ هَذَا الْجَمْعِ حَالاً؟"، قَالَ: "الَّذِي يَظُنُّ أَنَّ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لاَ يُغْفَرَ لَهُ".

 

ومن تَمام شُكْرُ المولى -عزَّ وجلَّ- التقرب إليه بذبح الأضاحي لمن أقام ولم يحج، قال ابن عمر: "أقامَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة عشرَ سنين يضحي كل سنة"(أخرجه الإمام أحمد)، والأضحية تجزئ عن الرجل وأهل بيته، قال عطاء بن يسار سألت أبا أيوب: كيف كانت الضحايا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: كان الرجل يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته، فيأكلون ويطعمون"(أخرجه مالك والترمذي وصححه).

 

ويشترط أن تكون سالمةً من العيوب، وفي سِنها المعتبر شرعا، فالضأن ما تم له ستة أشهر، والماعز ما تم له سنة، والبقر ما تم له سنتان، والإبل ما تم له خمس سنين.

 

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض اللهم عن صحابته أجمعين، وعمنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

المرفقات

الباقيات الصالحات.doc

الباقيات الصالحات.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات