عناصر الخطبة
1/من صفات وخصال العبد الموفَّق 2/من مقربات العبد لربه 3/بعض فضائل السجود وبركاته 4/أمثلة من عباد الله الصالحين المتقربين له تعالى 5/وجوب تحقيق التوحيد ونبذ الشرك 6/وسائل التقرب إلى الله تعالىاقتباس
لا يزال العبد المُحب لربه يتقرب إليه بعد فرائض الدين بالنوافل، ويُتبِع الواجبات بالمستحبَّات والفضائل حتى يحبه ربُّه، ومَنْ أحبَّه اللهُ كان له وليًا ونصيرًا؛ فعَصَم سمعَه وبصرَه عن المحرَّمات، ووقى يدَه عن العُدوان، ورِجْلَه عن المشي إلى مساخط الله...
الخطبة الأولى:
الحمد لله القريب المجيب، الولي المولى الحسيب، أدنى من شاء من خَلقه إليه، وأزلف من اصطفى من عباده لديه، وأُصلي وأُسلم على عبده ورسوله سيدنا ونبينا محمد أكرم الخلق عليه.
أما بعد: فاتقوا الله -أيها الناسُ- حقَّ تقواه، وتمسكوا بكلمة التقوى: لا إله إلا الله؛ فإن السعيد من ألزم التقوى قلبه، وجعل الآخرة أمامه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الحشر:18].
عبادَ اللهِ: إن العبد الموفَّق المُنوَّر الطريق؛ لَمَنْ سار إلى ربه سيرًا مستقيمًا غير ذي عِوَج، مقتربًا من مولاه الجليل، لا ناكبًا عن الصراط ولا ضالًّا عن سواء السبيل، يدنو من ربه بأعماله الصالحة الخالصة على نور من ربه، مُحبًّا له كمال الحب، مُعظِّمًا غاية التعظيم والإجلال، متذللًّا لمولاه تمام الذل، مفتقرًا إليه كل الافتقار، راجيًا ثوابه، خائفًا من عقابه، متحققًا بصفات من أمر الله بالاقتداء بهم من النبيين والمرسلين وخيار عباد الله الصالحين؛ الذين قال فيهم -سبحانه-: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا)[الإسراء:57].
أيها المسلمون: أعظم ما يُدني العبدَ من ربه ويقربه إلى مولاه أداء فرائضه التي افترض عليه، كما دل على ذلك قوله -جل جلاله- في الحديث الإلهي: "وما تقرب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضته عليه"، ولا شيء أحب إليه -سبحانه- من توحيده في عبادته وإخلاص الدين له؛ وهو أعظم فرائض الله على عباده. ولا شيء أبغض إليه من الشرك به؛ وهو أعظم ما نهى -سبحانه- عنه.
ألَا وإنَّ أَجَلَّ فرائض الإسلام وأولاها بالاهتمام، وآكدَ ما يُقرِّب إلى الملك القُدُّوس السلام: فريضة الصلاة، قال الله -تعالى-: (كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)[العلق:19]، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد؛ فأكثروا من الدُعاء".
وإنَّما كان ذلك لأن سجود العبد في صلاته نهاية العبودية والذِّلة، ولله غاية العزة، وله العزة التي لا مقدار لها، فكلما بَعُدتَ من صفته قَرُبْتَ من جنته، ودَنَوتَ من جواره في داره، ولقد أحسنَ من قال:
وَإِذَا تَذَلَّلَتِ الرِّقَابُ تَوَاضُعًا *** مِنَّا إِلَيْكَ فَعِزُّهَا في ذُلِّهَا
وَيَشْهَدُ عَلَى صِدْقِ ذُلِّ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ أَمْرانِ:
أولُّهما: تسليمُه لمولاهُ في حُكمه أمرًا ونهيًا، ولقضائه صبرًا وإخباتًا.
وثانيهما: خلعُ العبد عن نفسه لباسَ الكبر وجِلبابَ العُجب، ولزومُه خِلعةَ التواضُع والانكسار، قال شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "والعبد كلما كان أَذلَّ لله وأعظمَ افتقارًا إليه كان أقرب إليه وأعز".
عبادَ اللهِ: لا يزال العبد المُحب لربه يتقرب إليه بعد فرائض الدين بالنوافل، ويُتبِع الواجبات بالمستحبات والفضائل حتى يحبه ربه، ومن أحبه الله كان له وليًا ونصيرًا؛ فعَصم سمعه وبصره عن المحرمات، ووقى يده عن العدوان، ورجله عن المشي إلى مساخط الله، فلم يمشِ بها إلا إلى مراضي ربه ومولاه؛ فتزكت بذلك نفسه وطهر قلبه، فكان قريبًا من رب الأرض والسماوات مُجاب الدعوات.
كما دلَّ على ذلك قوله -سبحانه- في الحديث الرباني: "ولا يزالُ عبدي يتقربُ إليَّ بالنوافلِ حتى أُحبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمعُ به، وبصرَه الذي يُبْصرُ به ويدَه التي يَبطِشُ بها، ورِجلَه التي يمشي بها، ولئِن سألني لأُعطيَنَّه، ولئِن استعاذني لأُعيذَنَّه".
وكلما اقترب العبد من ربه قَرَّبه ربه وأدناه، وجزاه بالبشارة العظيمة التي تكاد تطير منها الأرواح فرحًا وسرورًا، فيُبشَّر المُقرَّبُ عند احتضاره بما أعدَّ الله للمُقرَّبين من الراحة والنعيم والبهجة والرزق الكريم، وذلك في قول العلي الكبير -جلَّ ثناؤه-: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ)[الواقعة:88-89].
أيها المسلمون: لقد تقرب إلى الله خيار عباده، وتوسلوا إليه بأعمالهم الصالحة، وأوفوا بعهدهم الذي عاهدوا؛ فقرَّبهم -سبحانه- غاية القرب حتى بلغ أعلى منازل القرب منهم عبداه مُحمدًا وإبراهيم عليهم الصلاة والسلام، فاتخذ كل منهما خليلًا، كما قال -سبحانه-: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا)[النساء:125]، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "لو كنتُ متخذًا من أمتي خليلًا لاتخذتُ أبا بكر، ولكنَّ صاحبَكم خليلُ اللهِ"، وجعل منزلة روحيهما في البرزخ في أعلى المنازل ودرجتهما في الجنة أعلى الدرجات.
ثم بعدهما في القُرب موسى الكليم عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم، قال -تعالى-: (وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا)[مريم:52]، ثم عيسى، ثم نوح، ثم سائر الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ثم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان وعلي، ثم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورضي عنهم؛ بحسب سَبْقِهم إلى الإيمان وهجرتهم وجهادهم مع رسول الله، ثم أصحاب الأنبياء -عليهم السلام-، ثم خيار هذه الأمة من التابعين وتابعيهم، وأئمة الْهُدَى من هذه الأمة من العلماء والأولياء.
إخوةَ الإيمانِ: إن من فضل الله على عباده وتيسيره عليهم وإكرامه لهم: أن لم يشرع لعباده أن يجعلوا بينهم وبينه وسائط من الخلق يرفعون إليه حوائجهم، ويتوسلون بهم إلى ربهم، ويسألوهم أن يُدنوهم من مولاهم، وإنَّما فتح للعبيد أبواب فضله ورحمته؛ ليتقربوا إليه بأعمالهم الصالحة، وليدنوا منه بمناجاتهم إيَّاه لا يناجون أحدًا سواه، ولا يدعون غيره، ولا يطلبون من غيره القربى إليه -سبحانه-، بل إيَّاه يَدعون فيعطيهم، وإليه يزدلفون فيُدنيهم.
ولقد أنكر الله على أقوامٍ من المشركين دعوا معه سواه وأشركوا معه غيره، ولم ينفعهم أن كانت غايتهم طلب القرب من الله لما كانت وسيلتهم إلى تلك الغاية الجليلة وسيلةً فاسدة، فقال -تعالى- ذِكْرُه-: (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ في مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ)[الزمر:3].
فلما كانت وسيلتهم إلى القرب من الله شركًا لم تنفعهم، بل كَذَّبهم الله وكَفَّرهم، ولذلك قال -جلَّ شأنُه- مُبيِّنًا سبيل الرشد في عبادته: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)[البقرة:186]، فإنَّه -تقدست أسماؤه- يعلم السر وأخفى، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تنوُّع الحاجات، لا يشغله سمع عن سمع، ولا تُغلطه المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين.
بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآيات والذِّكْر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله العزيز الحميد، الرحيم الودود، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد صاحب الحوض المورود، واللواء المعقود.
أما بعد، فيا عبادَ اللهِ: لقد بلَّغ سيدُ المرسلينَ البلاغَ المبينَ، فأقام به اللهُ الحُجةَ على العالمينَ، ولم يترك شيئًا يُقرِّب إلى الله إلا بيَّنه، قال -عليه الصلاة والسلام-: "ما تركتُ شيئًا يُقرِّبكم إلى الله إلا وأمرتُكم به"، فلا يُطلَب القربُ منه -سبحانه- إلا بما شرع في كتابه أو بيَّنه عنه رسوله وأخلص فيه طالبه، وما سوى ذاك مردودٌ على صاحبه، ولا يزيدُه عن ربه إلا بُعدًا، كما دل على ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من عَمِل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد"، أي: مردودٌ على صاحبه غير مقبول.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "وأقرب الوسائل إلى الله ملازَمة السُّنَّة، والوقوف معها في الظاهر والباطن، ودوام الافتقار إلى الله، وإرادة وجهه وحده بالأقوال والأفعال، وما وصل أحدٌ إلى الله إلا من هذه الثلاثة، وما انقطع أحدٌ عنها إلا بانقطاعه عنها أو عن أحدها"، انتهى كلامه -رحمه الله-.
اللهمَّ إنَّا نسألك الأنس بقربك، ولذة مناجاتك، والعون على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك ونبيك وخليلك نبينا محمد، اللهمَّ آتِه الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا يغبطه عليه الأولون والآخرون.
اللهمَّ وارضَ عن الأربعة الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة الكرام أجمعين، وعن تابعيهم ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأَذِلَّ الشركَ والمشركينَ، ودمِّر أعداءك أعداء الدين، وانصُر عبادك المؤمنين يا قوي يا عزيز.
اللهمَّ كُن لإخواننا المُستضعفين من المؤمنين مُعينًا وظهيرًا ومؤيدًا ونصيرًا، اللهمَّ انصُرهم في فلسطين على اليهود الظالمين المُعتدين، اللهمَّ أطعم جائعهم، وأَمِّن خائفهم، واشف مريضهم، واجبر كسيرهم، اللهمَّ اربط على قلوبهم، واكشف كربهم، اللهمَّ افتح لهم فتحًا مُبيِّنًا ، وانصرهم نصرًا عزيزًا.
اللهمَّ احفظ المسلمين في كل مكان، وانشر في أوطانهم الأمن والإيمان، اللهمَّ أصلح ذات بينهم وألِّف بين قلوبهم، واهدهم للاعتصام بحبلك والانقياد لحكمك.
اللهمَّ أيِّدْ بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا؛ خادمَ الحرمين الشريفين، اللهمَّ أعز به دينك وأعلِ به كلمتك، اللهمَّ وفِّقْه ووليَّ عهده لِمَا فيه صلاح أمر العباد والبلاد يا ربَّ العالمينَ.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
سبحان ربنا رب العزة عمَّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم