الداعية الزائر: زيارات النبي صلى الله عليه وسلم للدعوة إلى الله

الشيخ محمد الوجيه

2025-09-19 - 1447/03/27 2025-09-18 - 1447/03/26
عناصر الخطبة
1/منهج نبوي عظيم 2/زيارة المدعوين 3/نماذج نبوية من الزيارات الدعوية 4/من أعظم أسباب قبول الدعوة.

اقتباس

لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- ينتظر الناس ليأتوا إليه، بل كانت خطاهُ تسبقُ دعوتَه، يذهب إلى أهل البوادي والقرى، ويقرع أبواب النفوس الموصدة، ويقترب من القلوب ليزرع فيها بذرة الإيمان، فكانت كل زيارةٍ منه رحلةَ نورٍ، وكل خطوةٍ منه طريقًا إلى الهداية...

الخطبةُ الأولَى:

 

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، ليضيء به القلوب ويُنير به الدروب. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقرارًا بوحدانيته، وإذعانًا لعظمته، وطلبًا لرحمته.

 

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الذي اصطفاه الله من خلقه أجمعين، وأنزل عليه القرآن العظيم، فكانت حياته كلها دعوة، وسيرته كلها منارًا؛ بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، حتى أتاه اليقين، وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].

 

أما بعد: أيها المسلمون الكرام، أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-؛ فإنها سبيل الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة.

 

حديثنا اليوم عن منهج نبوي عظيم، غالبًا ما يغيب عن أذهاننا ونحن نتحدث عن الدعوة إلى الله. إنه منهج "زيارة المدعوّ"؛ ذلك الأسلوب النبوي الذي كان له أثر عظيم في هداية القلوب.

 

لقد كانت دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- دعوة شاملة، لم تقتصر على الخطب العامة في المسجد، بل تعدتها إلى الزيارات الشخصية والجماعية التي تلامس القلوب وتُغيّر النفوس. كان يزور الناس في بيوتهم، في أسواقهم، وفي خيامهم، يخاطب كلّ شخص بما يناسبه، ويلامس حاجته.

 

لم يكن -صلى الله عليه وسلم- ينتظر الناس ليأتوا إليه، بل كانت خطاهُ تسبقُ دعوتَه، يذهب إلى أهل البوادي والقرى، ويقرع أبواب النفوس الموصدة، ويقترب من القلوب ليزرع فيها بذرة الإيمان، فكانت كل زيارةٍ منه رحلةَ نورٍ، وكل خطوةٍ منه طريقًا إلى الهداية.

 

انظروا إلى موقفه في بداية الدعوة، فقد كان يذهب إلى نوادي قريش ومجالسها؛ حيث يجتمع ساداتهم وزعماؤهم، ويقرأ عليهم آيات القرآن، يدعوهم إلى التوحيد، وينهاهم عن الشرك. كان يواجه استهزاءهم وسخريتهم، لكنه لم يتردد أو يتراجع. هذه الزيارات تعلمنا أن الداعية لا يخشى مواجهة الباطل، بل يذهب إليه في عقر داره ليعرض عليه الحق.

 

ولم يقتصر جهده على هذا، بل انظروا إلى موقفه في رحلة الطائف، بعد أن اشتد أذى قريش ومقاطعتها للمسلمين، خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- ماشيًا على قدميه، قاصدًا الطائف، لعله يجد فيها من ينصره ويحميه. ذهب بزيارة دعوية، ليجلس مع سادة ثقيف وأشرافها، ويعرض عليهم الإسلام. فماذا كانت النتيجة؟ لم يستقبلوه بالرحمة، بل بالسخرية والاستهزاء، وأرسلوا خلفه من يرميه بالحجارة. هذه الرحلة تعلمنا أن الدعوة إلى الله تحتاج إلى صبر وثبات، وأن النصر قد يأتي بعد الشدائد، كما قال -تعالى-: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا)[الأنعام: 34].

 

ولم يكتفِ بذلك، بل كان يستغل أعظم تجمعات العرب، وهي مواسم الحج. فكان يذهب إلى قبائل العرب الوافدة إلى مكة من كل حدب وصوب، يعرض نفسه عليهم، ويسألهم النصرة. كان يدور على خيامهم، يخاطب شيوخهم، يقول لهم: "ألا رجل يؤويني لأبلغ رسالة ربي؟ فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ رسالة ربي". هذا الثبات هو الذي أثمر عن لقائه بوفود يثرب (المدينة المنورة)، فكانت تلك الزيارة هي بذرة الهجرة وتأسيس دولة الإسلام.

 

كما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكتفِ بدعوة أهل الحضر، بل كان يزور أهل البوادي والقرى المحيطة بالمدينة. فقد كان يخرج إليهم، يعلمهم، ويفقههم في دينهم، ويتفقد أحوالهم. هذه الزيارات تؤكد أن الدعوة لا تعرف حدودًا جغرافية أو طبقية، فالدعوة إلى الله واجب على كل مسلم، في كل مكان وزمان، ولكل الناس على اختلاف مستوياتهم.

 

ولم يغفل -صلى الله عليه وسلم- عن أصعب أنواع الدعوة، وهي الدعوة الداخلية. فكان يزور مجالس المنافقين في المدينة، ويخاطبهم بالكلمة الطيبة، وينهاهم عن الشر، ويحاول إرجاعهم إلى الحق. كان يواجه نفاقهم باللين والحكمة، لا بالشدة والغلظة؛ أملاً في أن تفتح قلوبهم. هذه الزيارات تعلمنا أن الدعوة إلى الله تحتاج إلى صبر وحكمة، وأن الداعية لا ييأس من هداية أحد، حتى وإن كان في قلبه مرض.

 

وفي موقفه مع اليهود، كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يزورهم ليحكم بينهم ويدعوهم إلى الإسلام. فقد كانوا يأتون إليه ليحتكموا في خلافاتهم؛ لأنهم كانوا يعلمون صدقه وعدله. وقد كان يستغل هذه الفرص ليدعوهم إلى الله بالحكمة، ويبيّن لهم الحق، ويشهد لهم بعدله.

 

وهذا يعلمنا أن العدل والإحسان هما من أعظم أسباب الدعوة، فبأخلاقنا نستطيع أن نفتح قلوب من أغلقها الجهل والتعصب. وكيف لا، وقد قال الله -تعالى-: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)[الممتحنة: 8].

 

ولم تقتصر زياراته على القبائل، بل كانت تشمل الأفراد، ففي زيارته للغلام اليهودي الذي كان يخدمه، وجده في مرض الموت، فجلس عند رأسه، ودعاه إلى الإسلام قائلًا: "أسلم". فنظر الغلام إلى أبيه، فأومأ له بالموافقة، فأسلم ومات على الإسلام. هذه الزيارة تعلمنا أهمية المبادرة في الدعوة إلى الله، حتى في اللحظات الأخيرة من حياة الإنسان.

 

أيها المؤمنون: إن منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- في الدعوة بالزيارة هو منهج الحب والرحمة، منهج الاستجابة لأمر الله في قوله: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)[النحل: 125]؛ فالدعوة ليست مجرد واجب، بل هي علاقة إنسانية، تبدأ بالاهتمام، وتستمر بالرحمة، وتثمر بالهداية. كم منا اليوم يزور جاره، أو صديقه، أو زميله في العمل، بقصد الدعوة إلى الله؟ لا نقصد دعوة مباشرة، بل دعوة بالخلق الحسن، بالكلمة الطيبة، وبالسؤال عن الحال، لعل الله يفتح القلوب بهذا الاهتمام.

 

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين.

 

أيها الأحباب: إن زيارات النبي -صلى الله عليه وسلم- لم تقتصر على الأفراد، بل كانت تشمل القبائل والوفود. فقد كان يستغل مواسم الحج في مكة، فيذهب إلى خيام القبائل الوافدة، يزورهم، ويقدم لهم رسالته.

 

ومن هذه الزيارات: زيارته لوفد بني عبد القيس في المدينة المنورة بعد أن أسلموا، وقد خطب فيهم خطبة عظيمة فيها تعليم وتوجيه. فقد رحَّب بهم، ثم بيَّن لهم أركان الإسلام، وكلفهم بنشر ما تعلموه في قومهم. لم يتركهم بعد أن أسلموا، بل تابعهم، وعلَّمهم، وأمرهم بالدعوة.

 

هذا المنهج النبوي يعلمنا أن الدعوة ليست فقط للمشركين والكفار، بل هي أيضًا للمسلمين، لتعليمهم وتثبيتهم على الحق. فزيارتنا لإخواننا المسلمين، والسؤال عن أحوالهم، وتفقدهم، هي جزء من الدعوة أيضًا، لأنها تقوّي أواصر الأخوة والإيمان.

 

فليكن نهج رسولنا -عليه الصلاة والسلام- حافزًا لنا، لنُحيي سُنّة الزيارات الدعوية. لنخرج من مساجدنا إلى مجتمعنا، نمد أيدينا بالسلام والمحبة، ونُظهر أخلاق الإسلام العظيمة، لعل الله يفتح قلوبًا على أيدينا، ونكون من ورثة النبي -صلى الله عليه وسلم- في حمل رسالته.

 

إن سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- هي أسوة لنا في كل تفاصيل حياتنا، وفي الدعوة إلى الله خاصة. فلقد قال الله -تعالى-: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[الأحزاب: 21]. فاجعلوا من هذه الزيارات نبراساً يهديكم، ومنهجاً تسيرون عليه، لعلكم تفوزون برضوان الله وجنته.

 

اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت.

 

اللهم اجعلنا دعاة خير، وأمة هداية، يا أرحم الراحمين.

 

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

 

اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين المصلحين، يا رب العالمين.

 

وأقم الصلاة.

 

المرفقات

الداعية الزائر زيارات النبي صلى الله عليه وسلم للدعوة إلى الله.doc

الداعية الزائر زيارات النبي صلى الله عليه وسلم للدعوة إلى الله.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات