عناصر الخطبة
1/سنة الله في الخلق الابتلاء 2/توضيح الفرق بين الابتلاء والبلاء 3/أمثلة للمبتلين من عباد الله الصالحين 4/الحكمة من الابتلاء 5/من الخطأ تمني وقوع البلاء 6/الحث على الصبر على شد الحر ولزوم الطاعات 7/الوصية بالعبادة في العشر الأول من ذي الحجةاقتباس
لا يُفهَم من ذلك -عبادَ اللهِ- الترغيبُ في التعرضِ للبلاء، ولا الحثُّ على تمنِّي الابتلاء -معاذَ اللهِ-، فإنَّ ذلك من قِلَّة العقل ونقص في الدِّين؛ فالمؤمنُ لا يدري أَيَصْبِرُ أم يَسخَطُ، يَشْكُرُ أَمْ يَكْفُرُ، والعافيةُ لا يَعْدِلُها شيءٌ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد مُصرِّف الأفعال، ومُغيِّر الأحوال، وكاتب الآجال، نحمده -سبحانه- ونشكره في الحال والمآل، ونتوب إليه ونستغفره على ما أسلفناه من سيئ الأقوال ورديء الأعمال، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، حكيم الفعَّال، جزيل النوال، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، لطيف المقال، كريم الخصال صلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحابته، عدد حبات الرمال.
أما بعدُ: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله -رحمكم الله-، واعلموا أن الدنيا إلى زوال، وهي بين ذلك إلى يُسْر وإعسار، وانفراجة وإعضال.
طُبِعَتْ على كدرٍ وأنتَ تُرِيدُها *** صفوًا من الأقذاءِ والأكدارِ
ومُكَلِّفُ الأيامِ فوقَ طباعِها *** مُتَطَلِّبٌ في الماءِ جذوةَ نارِ
أيها المسلمون: إن الله كتب على عباده حظَّهم من البلاء، ونصيبَهم من الابتلاء، مدركهم لا محالة، قال أهل اللُّغة: والبلاء والابتلاء شيء واحد من الاختبار، وقد يكون بالنعم وقد يكون بالنقم، وفرق بعضهم فقال: إن كان المؤمن قائمًا على الطاعة فهو ابتلاء، وإن كان على معصية فهو بلاء، وكل من البلاء والابتلاء يكون في الأموال والأنفس والثمرات، لا يسلم منه أحد من البريات، ولو كان من أحد يسلم من البلاء لسلم منه صفوة الله من خلقه؛ أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام، أكرم خلق الله على الله، وأخشاهم له وأحبهم إليه؛ فهذا آدم -عليه السلام- ابتلي فأخرج من الجنة، وزكريا بالحرمان من الولد، وأيوب بالمرض، ويونس بالتقام الحوت، ونبينا -صلى الله عليه وسلم- بإخراج قومه له من بيته وبلده، وحصاره في شعب أبي طالب حتى أكل هو وأصحابه -رضي الله عنهم- ورق الشجر.
عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: "قلتُ: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل من الناس، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خفف عنه، وما يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على ظهر الأرض عليه خطيئة"(أخرجه أحمد والدارمي).
والمقصود الأكبر من البلاء والابتلاء تكفير السيئات، وتكثير الحسنات، ورفعة الدرجات، وهي ضروب لا يمكن حصرها، ويعسر استقصاؤها؛ منها الماديَّة: من ضيق في الرزق، وعلة في البدن، وفِقدان للأهل، وهلاك للحرث، ومنها معنويَّة؛ من حزن وهم وغم وخوف ونحوها، عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة -رضي الله عنهما-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حَزَنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بها مِنْ خَطَايَاهُ"(أخرجه البخاري)، وعنه أيضًا -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ أَوِ الْمُؤْمِنَةِ، في جَسَدِهِ، وَفِي مَالِهِ، وَفِي وَلَدِهِ، حَتَّى يَلْقَى اللهَ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ"(أخرجه أحمد).
والله -جل وعلا- يبتلي عباده ليشعرهم بفقرهم إليه، وحاجتهم له، وعدم استغنائهم عنه، فيهرعون إليه، ويستغيثون به، فيسمع دعاءهم، ويرى تذللهم، ويبصر تضرعهم، فتنقلب المحنة منحة، والبلاء هبة ومنة، والضر عبادة وخضوعًا، وإلا فإن الله غني عن تعذيب عباده؛ (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا)[النِّسَاءِ: 147]، فهنيئًا عباد الله لمن قابل ذلك بإحسان الظن بربه، فسلم أمره لله، ورضي واسترجع، وأعقب ذلك صدق الالتجاء وإخلاص الدعاء، فاستحق من الله الرحمة والثناء؛ (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)[الْبَقَرَةِ: 155-157].
ويا خيبة ويا خسارة من قابل ذلك بالتسخط والعصيان، والتمرد والكفران، فباء بغضب من الرحمن، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: "عِظَمُ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ"(أخرجه الترمذي وابن ماجه).
ولا يُفهَم من ذلك -عبادَ اللهِ- الترغيبُ في التعرضِ للبلاء، ولا الحثُّ على تمنِّي الابتلاء -معاذَ اللهِ-، فإنَّ ذلك من قِلَّة العقل ونقص في الدِّين؛ فالمؤمنُ لا يدري أَيَصْبِرُ أم يَسخَطُ، يَشْكُرُ أَمْ يَكْفُرُ، والعافيةُ لا يَعْدِلُها شيءٌ؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "سمعت أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- على هذا المنبر يقول: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي هَذَا الْيَوْمِ مِنْ عَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ اسْتَعْبَرَ أَبُو بَكْرٍ وَبَكَى، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "لَمْ تُؤْتَوْا شَيْئًا بَعْدَ كَلِمَةِ الْإِخْلاصِ مِثْلَ الْعَافِيَةِ، فَاسْأَلُوا اللهَ الْعَافِيَةَ"(أخرجه الإمام أحمد والنَّسائي)، ولكن مَنْ سبَق في علم الله أن يلحقه بلاء، وأن يصاب بابتلاء فعليه بالصبر والرضا ما استطاع، فإن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، رُفعت الأقلامُ وجفَّت الصُّحُف.
أقول قولي هذا وأستغفِر اللهَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على ما قضى وقَدَّر، والصلاة والسلام على أكرم مَن ابتُلي فصبر، وعلى آله وصحابته أُولي المكارم الغُرَر.
ثم أما بعدُ: ومن الابتلاء -عبادَ اللهِ- ما يصيب الناسَ ويلحقهم من عنت ولأواء بسبب شدة حَرِّ الصيف وزمهرير الشتاء، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: يَا رَبِّ، أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ في كُلِّ عَامٍ، نَفَسٍ في الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ في الصَّيْفِ، فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ"(مُتفَق عليه).
وقد أقبل الصيف بحره ولهيبه، ولفحه وقيظه، وإن الصبر فيه على الطاعات والتجلد فيه على القربات ممَّا يُعظِم الأجرَ عند رب الأرض والسماوات؛ من جُمَع وجماعات، وطواف بالبيت أوقات الظهيرات، ومن أجل العبادات القيام على أمن وسلامة وخدمة حجاج بيت الله الحرام، من طرف رجال الأمن وباقي الجهات والهيئات، وبخاصة فيما يستقبل من العشر المباركات التي تضاعف فيها الحسنات، وترفع فيها الدرجات، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما العَمَلُ فِي أَيَّامِ العَشْرِ أَفْضَلَ مِنَ العَمَلِ في هَذِهِ". قالُوا: وَلا الجِهادُ؟ قالَ: "وَلا الجِهادُ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ"(أخرجه البخاري)؛ فاحتسِبوا -عبادَ اللهِ- فيها أعمالكم عند ربكم، فإن الأجر على قدر المشقة، متى ما حصلت اتفاقًا، واعلموا أنما هي أيام قلائل تمضي وتنقضي، ويبقى الثواب عند من لا يضيع عنده مثقال ذرة؛ (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا)[النِّسَاءِ: 40].
ثم وصلُّوا وسلِّموا على خير خلق الله محمد بن عبد الله؛ فقد أمرَكم بذلك ربُّكم فقال -جل في علاه-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، فاللهمَّ صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض اللهمَّ عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن باقي العشرة وأصحاب الشجرة، وعن سائر الصحابة أجمعين والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، واحمِ حوزةَ الدين، وانصر عبادَكَ المؤمنينَ الموحدين، اللهمَّ فَرِّجْ همَّ المهمومينَ من المسلمين، ونَفِّسْ كربَ المكروبين، واقضِ الدَّينَ عن المدينينَ، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمينَ يا ربَّ العالمينَ.
اللهمَّ آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِحْ أئمتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق والتوفيق والتسديد إمامنا وولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين، اللهمَّ أطل عمره في صحة وعافية، ونعمة سابغة ضافية، اللهمَّ وفِّقْه ووليَّ عهده الأمين لِمَا فيه صلاح البلاد والعباد، وعز ورفعة للإسلام والمسلمين.
اللهمَّ كن لإخواننا المستضعَفين مؤيدًا وظهيرًا، ومُعينًا ونصيرًا، اللهمَّ كن لهم في فلسطين، وفي كل مكان يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ احفظ جندنا المرابطين على الحدود والثغور، اللهمَّ احرسهم بعينك التي لا تنام، واكنفهم بركنك الذي لا يرام، يا ربَّ العالمينَ.
اللهمَّ ارزقنا الصبر عند البلاء، والرضا بالقضاء، والشكر عند الرخاء، ولا تكلفنا ما لا نطيق، فعافيتك أوسع لنا يا أرحم الراحمين.
(رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ)[الصَّافَّاتِ: 180-181]، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم