الوطن

د. منصور الصقعوب

2025-09-19 - 1447/03/27 2025-11-23 - 1447/06/02
عناصر الخطبة
1/حب الأوطان 2/أهمية الوطن 3/مشروعية حب الوطن 4/المواطنة الإيجابية 5/موطننا الأصلي الذي غفلنا عنه.

اقتباس

وإذا كان المرء إذا تغرّب عن وطنه لا يغيب عن قلبه تذكُّر بلده وينشغل فؤاده بتذكره ويسعى للرجوع له، فقلب المؤمن في كل يومٍ يتذكر موطنه الأصل وهو الجنة، في قلبه تلك القصور والدور، وذلكم النعيم والحبور، فتراه فيه يؤمل، وفي سبيل الوصول إلى وطنه يعمل...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله....

 

أما بعد: فاتقوا الله حق التقوى.

 

معاشر المسلمين: شعورٌ كمْ خفقت به القلوب، وشوقٌ كم كلَفَت به الأفئدةُ، وحنينٌ يزلزل مكامنَ الوجدان، حبٌّ أطلقَ قرائحَ الشعراءِ، وهوى سُكبت له محابر الأدباءِ، وإلفٌ يأوي إليه كرام النفوس، حبٌّ لم تخلُ منه مشاعر الأنبياء، ووُدٌ وُجدَ في قلوب الصحابة والأصفياء، بل هو شعور رفرفت لأجله أجنحة الطير في السماء، إنه حب الأوطان.

 

قال أهل الأدب: "إذا أردت أن تعرف الرجل فانظر كيف تحنُّنَه إلى أوطانه، وتشوُقَه إلى إخوانه، وبكاؤَه على ما مضى من زمانه".

 

نعم، أن يحب المرء وطنه فذاك أمرٌ غريزي وطَبْع جِبِلّي، وسائِل الناسَ تراهم يحبون دياراً تنفسوا هواءها وعاشوا بين أهلها، ونشأوا فيها، ولو كانت قفراء موحشة، ولو أنهم فارقوها.

 

وفي القرآن يرِد شيء مما يدل على قدر الأوطان، فقد اقترن حب الأرض بحب النفس؛ قال الله: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اُقْتُلُوا أَنْفُسكُمْ أَوْ اُخْرُجُوا مِنْ دِيَاركُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيل مِنْهُمْ...)[النساء: 66].

 

بل ارتبط في موضع آخر بالدِّين؛ قال -تعالى-: (لَا يَنْهَاكُمْ اللَّه عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَاركُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّه يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ)[الممتحنة: 8].

 

ولما كان الخروج من الوطن قاسيًا على النفس، فقد كان من فضائل المهاجرين أنهم ضحَّوا بأوطانهم هجرةً في سبيل الله.

 

ولا يغيب عن البال ذلكم المشهد الذي يبيّن قدر الوطن، إنه مشهد رسول الهدى -عليه السلام- وهو يفارق مكة، ذلكم المشهد الذي يُبيّن أن من البلاء أن يُبتلى المرءُ بفراق وطنه، ففي سنن الترمذي: عن عبد الله بن عدي قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واقفًا على راحلته فقال: "إنكِ لخيرُ أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرِجت منك ما خرجت".

 

وحين هاجر للمدينة وعَلِم أنها مَقرُّه دعا بتحبيب المدينة إليه، فقال: "اللهم حَبِّب إلينا المدينة كما حببت مكة أو أشد"؛ وهذا ما وقع، فقد كان إذا قدم من سفر فأبصر درجات المدينة أوضع ناقته -أي أسرع بها-"(رواه البخاري).

قال ابن حجر: "فيها دلالة على فضل المدينة، وعلى مشروعية حب الوطن والحنين إليه".

 

أيها المسلمون: والدينُ لا يُغيِّر انتماءَ الناسِ إلى أرضِهم ولا شعوبِهم ولا قبائلهم، فقد بقي بلالٌ حبشيًّا، وصهيبٌ روميًّا، وسلمانُ فارسيًّا، ولم يتضارب ذلك مع انتمائهم للإسلام.

 

وعندما يفكرُ الإنسانُ في طبيعته فسيجدُ أن له محبةً وولاءً وانتماءً لأسرته وعشيرته وأهلِ قريته؛ كما يُحِسُّ بانتمائه الكبيرِ للأمة الإسلامية باتساعها وتلون أعراقها ولسانها، ولا تعارض بين هذه الانتماءاتِ ولا مساومةَ عليها، بل هي دوائرُ يحوي بعضُها بعضًا.

 

ونحن نحمد الله أننا في بلدٍ أسبغ ربنا عليه نعم الدين والدنيا، ففي نعم الدين لن ترى بحمد الله ضريحًا ولا قبراً، ولن ترى في بلدنا بحمد الله بدعة ترعى، ولا شركاً يُحمى، ترى بحمد ربنا محاكمَ تحكم بشرع الله وتقيم الحدود وتنصر المظلوم ومساجدَ تصدح بالأذان والصلاة في كل بقعة.

 

وفي نِعَم الدنيا سترى مصداق قول ربنا: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ)[العنكبوت: 67].

 

وستعاين امتنان ربنا بالأرزاق والنعم إذ يقول: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)[القصص: 57].

 

ستعاين في هذه البلاد -بحمد الله- عيشاً رغداً، وقلوباً متآلفة، وأمناً واستقراراً، وكل هذا بحمد ربنا -سبحانه-، فهو المنعم المتفضل.

 

وإن هذه النعم تُرعى حين نقيم شرع الله، ونَقدُر النعم قدرها، ونحافظُ على وحدة الصف، واجتماع الكلمة، والطاعة لولاة الأمر في غير معصية.

 

يا كرام: وتنمية المواطنة ينبغي أن يُقرَّ في النفوس بنشر العقيدة الصحيحة، ليتحقق للناس الأمن الحقيقي (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)[يونس: 82]؛ ويكون كذلك بالنصح لعامة المسلمين وأئمتهم، ونفع الناس بخير الدين والدنيا، كذا يكون المرء مواطناً نافعاً، وشخصاً إيجابياً.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وحده...

 

والحديث عن الوطنِ وحبه والحنينِ إليه يُذكِّرُ المؤمن بالوطن الأول لبني آدم وهو الجنة، فذلك هو موطننا الأصلي الذي غفل عنه معظم الناس؛ قال الفضيل بن عياض: "المؤمن في الدنيا مهمومٌ حزينٌ، همّه التزود بما ينفعه عند العود، فمن حين خلق الله آدم -عليه السلام- وأُسكن هو وزوجه الجنة ثم أُهبط منها ووُعِد بالرجوع إليها وصالحو ذريتهما، فالمؤمن أبدًا يحن إلى وطنِه الأول، وحبّ الوطن من الإيمان".

 

قال ابن القيم -رحمه الله-:

فحي على جنات عدن فإنها *** منازلك الأولى وفيها المخيم

ولكننا سبي العدو فهل ترى *** نعود إلى أوطاننا ونسلّم

 

والأول قال:

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى *** ما الحب إلا للحبيب الأولِ

كم منزل في الأرض يألفه الفتى *** وحنينه أبدًا لأول منزلِ

 

فأعظم حنينٍ ينبغي أن يكون إلى وطننا الأول سكنِ الأبوين، ودار الخلد والنعيم، وإذا كان المرء إذا تغرّب عن وطنه لا يغيب عن قلبه تذكُّر بلده وينشغل فؤاده بتذكره ويسعى للرجوع له، فقلب المؤمن في كل يومٍ يتذكر موطنه الأصل وهو الجنة، في قلبه تلك القصور والدور، وذلكم النعيم والحبور، فتراه فيه يؤمل، وفي سبيل الوصول إلى وطنه يعمل، يسعى لأن تكون أيامه وأعماله كلها مُقرِّبة له إلى وطنه الحقيقي.

 

لذا يا مؤمنون، نحن هنا سنبقى مؤقتاً، ثم سنرحل، فطوبى لمن عاد لوطنه الأول وهو الجنة، ويا خيبة من سيق إلى النار، فاجتمع عليه مع العذابِ الغربةُ والخسار.

 

 اللهم انا نسألك الجنة ونعوذ بك من النار.

 

المرفقات

الوطن.doc

الوطن.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات