تأملات في الحياة والموت

عبدالله الجهني

2025-04-18 - 1446/10/20 2025-04-19 - 1446/10/21
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/الدنيا دار ابتلاء واختبار 2/تأملات في مصيبة الموت 3/وصايا للفوز برضوان الله وحسن الخاتمة 4/احتساب من مات وحسن الصبر والعزاء

اقتباس

إن الدنيا قد آذنت بصُرْم وولَّت حذَّاءَ، ولم يبقَ منها إلا صُبابة كصُبابة الإناء يتصابُّها صاحبُها، وإنَّ هذه الدنيا دارُ ابتلاءٍ وامتحانٍ يُبتلى فيها المؤمنُ بالسراء والضراء، والشدة والرخاء، والصحة والمرض، والغنى والفقر، والشُّبُهات والشهوات، وبالموت الذي هو نهاية كل حي...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَنْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومَنْ يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُه ورسولُه؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71].

 

أما بعدُ: فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ اللهِ، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ مُحدَثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ.

 

أما بعدُ: فأوصيكم وإيايَ بتقوى الله -تعالى-؛ فإن التقوى تسمو بالإنسان إلى شرف العلا، وإلى صفاء الضمير وطهارة السلوك، وكثيرًا ما تختم آيات التشريع والتوجيه بالتقوى؛ لأنَّها الرباط الوثيق الذي يشد الحواسّ إلى طاعة الله، وهي الزاجر القوي الذي ينهى عن مخالفة أوامر الله، وهي السبب المتين الذي يصل العبد بخالقه -تبارك وتعالى-.

 

أيها الناسُ: إن الدنيا قد آذنت بصُرْم وولَّت حذَّاءَ، ولم يبقَ منها إلا صُبابة كصُبابة الإناء يتصابُّها صاحبُها، وإنَّ هذه الدنيا دارُ ابتلاءٍ وامتحانٍ يُبتلى فيها المؤمنُ بالسراء والضراء، والشدة والرخاء، والصحة والمرض، والغنى والفقر، والشبهات والشهوات، وبالموت الذي هو نهاية كل حي، وقد بشر الله -سبحانه وتعالى- بالأجر العظيم لمن صبر على بلاء الدنيا وشدتها، قال -تعالى-: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)[الْبَقَرَةِ: 155-157].

 

وإنكم -يا عباد الله- ستنتقلون من هذه الدار إلى دار لا زوال لها، فنحن نشاهد كلَّ يومٍ عددًا من الراحلينَ إلى الدار الآخرة، من الآباء والأبناء والإخوة والأحبة والجيران؛ فالموتُ حقٌّ لا بد من ملاقاته، كتبه الله على الصغير والكبير، والغني والفقير، لا يدفعه جاه أو سلطان، ولا يرده مال ولا أعوان، ولا يحول دونه الحُجَّاب ولا الحصون، ولو جعل الله البقاء لأحد من الخلق لكان ذلك لأنبيائه المطهرين ورسله الكرام، وكان أولاهم بذلك صفوة أصفيائه، سيد الأولين والآخرين، نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم تسليمًا كثيرًا الذي هدى الناس إلى صراط الله المستقيم؛ فالموت حتم لا محيص عنه ولا مفر، وإن تطاولت الآجال، يصل إلينا في الحصون المنيعة، والقلاع المتينة، وفي بطون كهوف الجبال، قاله الكبير المتعال؛ (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ في بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ)[النِّسَاءِ: 78]، وقال -جل جلاله-: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[الْجُمُعَةِ: 8]؛ لذا كان على العاقل أن يفكر في مآله بعد هذه الحياة، وليفكر على أي جنب سيكون مصرعه، وعلى أية هيئة تقبض روحه، ومن هو الوفد الذي سيستقبله، وكيف نزله ومدخله، هل يجد القبر روضة من رياض الجنة؟! وفيه جليس أنيس، أو يجده حفرة من حفر النار، وفيه جليس مخيف، عليه أن يتصور تلك الحال التي لا بد من المرور عليها، عليه أن يستحضر سكرات الموت، ونزعات الروح إذا تشجنت أعضاؤه، وانعقد لسانه، وشخص بصره، والأهل حوله يبكون، والأولاد بعده يتيتمون، والمال في الخزائن مكنوز، فلا يخرج حينئذ إلا مكنون القلب؛ (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشُّعَرَاءِ: 88-89]، فانتقِلُوا بخير ما بحضرتكم من عمل صالح، وقول صدق، وحُسْن خُلُق، واستعِدُّوا لهذا المستقبل الرهيب، وتهيؤوا لهذا الطريق الذي لابُدَّ من سلوكه، واستيقِظُوا من الرقدة، وانتبهوا من الغفلة، وسارعوا إلى معالم الرضوان قبل أن يعز الوصول، وأعطوا آخرتكم حقها كدار خلود ومقر، وأعطوا ديناكم حقها كدار متاع إلى الآخرة وممر، وتذكروا بيت الغربة والوحدة، وتذكروا بيت التراب والدود، تذكَّرُوا بيت الوحشة والضيق، ولا تغفلوا عن هذه اللذات، ومفرق الجماعات، والجؤوا إلى مقلب القلوب، واسألوه الثبات، وليحرص كل منا على أن توافيه منيته وهو على طاعة الله -عز وجل-، واعلموا أن الخاتمة الحسنة لا تقع إلا لمن كانت سريرته حسنة، فلحظة الموت لا يمكن تصنُّعُها.

 

اللهمَّ اجعل خيرَ أعمالنا خواتِمَها، وخير أيامنا يوم نلقاكَ وأنتَ راض عَنَّا، من الذين أنعمت عليهم في جنتك وجوارك يا أكرم الأكرمين.

 

نفعني اللهُ وإيَّاكم بالقرآن العظيم، وبحديث سيد المرسلينَ، وأجارني وإيَّاكم من عذابه الأليم، وغفر لي ولكم ولسائر المسلمين أجمعين، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ، الحمدُ للهِ الْمَلِكِ الدَّيَّانِ، الباقي على الدوام؛ (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)[الرَّحْمَنِ: 26-27]، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، الناصح الأمين، الرؤوف بأمته الرحيم، اللهمَّ صل على عبدِكَ ورسولِكَ مُحمَّدٍ، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعدُ: فاتقوا الله -تبارك وتعالى- وتوبوا إليه، ولا تجعلوا الدنيا أكبر همكم، ولا مبلغ علمكم، وخذوا حذركم، واحتسِبُوا مَنْ مات لكم من الأولاد والأقارب والأخلَّاء، واعلموا أنهم أَفْضَوْا إلى ما قدَّموا، وصاروا إلى رحمة أرحم الراحمين، وهم ذخائر عند الله لمن احتسبهم وصبر على مر القضاء، وتعزوا -رحمكم الله- بعزاء الإسلام، ولا تعزوا بعزاء الجاهليَّة، وبادروا بمحاسن الأعمال تمنحوا الإحسان والقَبول، وخذوا من صحتكم لمرضكم، ومن شبابكم لهرمكم، ومن فراغكم لشغلكم، ومن حياتكم لموتكم، وصلوا الذي بينكم وبين ربكم بكثرة ذكره وشكره، وبكثرة الصدقة، تُرزَقوا وتُنصَروا وتُجبَروا، والكيِّسُ مَنْ حاسَب نفسَه، وأتبَع السيئةَ الحسنةَ، وعَمِلَ لِمَا بعدَ الموت، والعاجزُ مَنْ أتبَع نفسَه هواها، وتمنَّى على الله الأمانيَّ.

 

وصَلُّوا وسلموا على البشير النذير، والسراج المنير، فقد أمركم بذلك فقال عز من قائل كريم: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].

 

اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك نبينا محمد، صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارضَ اللهمَّ عن الأربعة الخلفاء الراشدين، الهادين المهديين؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وعن بقية أصحاب نبيك أجمعينَ، وزوجاته أمهات المؤمنين، وأهل بيته الطيبين الطاهرين، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهمَّ ارض عَنَّا معهم بمنك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

 

اللهمَّ أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وانصر الإسلام وأهله في كل مكان، وأنجِ المستضعَفين من المسلمين في فلسطين وفي كل مكان، واشدد وطأتك على اليهود الغاصبين، وأحصهم عددًا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدًا.

 

اللهمَّ أدم الأمن والأمان في أوطاننا، واحفظ اللهمَّ أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق والتسديد والتأييد إمامنا وولي أمرنا، خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود نصره الله، واشدد أزره بسمو ولي عهده الأمين، سمو الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز -حفظه الله-، اللهمَّ هيئ لهما البطانة الناصحة الصالحة، التي تدلهم على الخير وتعينهم عليه، اللهمَّ وفق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وتحكيم شرعك.

 

اللهمَّ اغفر لجميع المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، اللهمَّ ارحم موتانا وموتى المسلمين، الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة، وماتوا على ذلك، اللهمَّ ارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه، تحت الجنادل والتراب وحدنا، خالين بأعمالنا، اللهمَّ فَرِّجْ همَّ المهمومينَ، واشف مرضى المسلمين، واقضِ الدَّينَ عن المدينين، اللهمَّ انصر جنودنا المرابطين على حدود بلادنا في كل مكان، وارحم شهداءهم، واشف جرحاهم، وفك أسراهم، واحفظ يا رب بلادنا المملكة العربيَّة السعوديَّة، وبلاد المسلمين من كل شر ومكروه بحفظك يا ربَّ العالمينَ.

 

اللهمَّ أنتَ اللهُ لا إلهَ إلا أنتَ، أنتَ الغنيُّ ونحن الفقراء، أنزِلْ علينا الغيثَ ولا تجعَلْنا من القانطينَ، اللهمَّ أغثنا، اللهمَّ اسقِنا وأغِثْنا، اللهمَّ إنَّا نستغفركَ إنَّكَ كنتَ غفَّارًا، فأرسِلِ السماءَ علينا مدرارًا.

 

عبادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكركم، واشكروه على نعمه يَزِدْكُمْ، ولذكرُ اللهِ أكبرُ، واللهُ يعلمُ ما تصنعونَ.

 

 

المرفقات

تأملات في الحياة والموت.doc

تأملات في الحياة والموت.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات