تجربة الشيخ أبي إسحاق الحويني الخطابية (1)

محمود الفقي

2025-06-30 - 1447/01/05
التصنيفات: تجارب

اقتباس

من الخطباء من يعتمد على الموعظة والإثارة فقط، مع خواء خطبته من مادة علمية دسمة قوية، فلربما رأيت الناس قد خرجوا من الخطبة دامعة عيونهم خاشعة قلوبهم، لكنك لو سألتهم: ماذا تعلمتم من الخطبة؟ لحاروا...

يُكْبره المرء إذا ما وقعت عليه عيناها، ويوقره إذا ما نطقت بالحكمة شفتاه، ويحبه إذا ما اقترب منه وواظب على الاستماع له، تظنه رجلًا قدم من عصر سابق على عصرنا؛ عصر من عصور ازدهار الإسلام وعزة المسلمين؛ يدفعك إلى هذا سمته وطريقته في التأصيل وثبات منطقه وقوة حجته وهدوءه ورزانته وتمهله وثقته في عرضه وتمسكه بالكتاب والسنة وعاطفته الإيمانية وابتغاؤه وجه الله -تعالى- بقوله وعمله، نحسبه كذلك والله حسيبه.

 

إذا حضرت له أو استمعت إليه انقطعت صلتك بالزمان وبالمكان، وغمرك الخشوع والانبهار؛ فهذا الرجل من طراز فذ قَلَّ أن تجد في زماننا مثله.

  

فمن هو شيخنا اليوم؟

هو الشيخ الجليل المحدث الفذ والداعية الوقور والخطيب البارع: حجازي بن محمد بن يوسف بن شريف، الشهير بـأبي إسحاق الحويني -رحمه الله-، سمَّاه والده "حجازي" نسبة لبلاد الحجاز؛ لأنه وُلد عند عودته منها بعد أداء فريضة الحج، وكان والده سليم الفطرة محبًا للقرآن الكريم وأهله مُعظِّمًا لشعائر الله -تعالى-، وكان مولد شيخنا في غرة ذي القعدة من عام (1375ه)، الموافق العاشر من يونيو عام (1956م)، في قرية حُوَين بمحافظة كفر الشيخ بمصر.

 

وأما كنيته الذي اشتهر بها؛ "أبو إسحاق"، فقد تكنى بها تيمنًا بكنية الصحابي الجليل: سـعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-، وأما "الحويني" فنسبة إلى مسقط رأسه ببلدة "حُوين".

 

ولقد كان شيخنا محبًا للغة العربية منذ نعومة أظفاره حيث انشغل بقراءة القصص الأدبية الرفيعة لمصطفى لطفي المنفلوطي، ومصطفى صادق الرافعي وغيرهما، وقرأ كذلك دواوين الشعراء كأحمد شوقي وحافظ إبراهيم وعلي الجارم ومحمود حسن إسماعيل، وكان أحب الشعراء إلى قلبه محمود سامي البارودي حيث لقَّبه بـ"متنبي العصر"، ثم أقبل شيخنا على كتب العلامة محمود شاكر فنهل منها، كما أخذ القرآن عن خاله "عبد الحي زيَّان" الذي كان متقنًا للقراءات.

 

وأما عن دراسته، فقد تنقَّل شيخنا في مراحلها بين قرى محافظة كفر الشيخ، ثم انتقل في السنةِ الأخيرة من المرحلة الثانوية إلى محافظة القاهرة ليقيم مع أخيه، وكان هذا تقدير الله -تعالى-؛ ليكون أول احتكاك له بالشيخ عبد الحميد كشك([1])، حيث داوم على حضور خطبه ومحاضراته، وتعلم منه عاطفته الحارة نحو دينه وذوده عنه وصدعه بالحق لا يخشى في الله لومة لائم.

 

وهناك -أيضًا- كانت أول معرفة له بكتب الشيخ الألباني حيث اشترى من عند مسجد الشيخ كشك كتاب: "تلخيص صفة صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- من التكبير إلى التسليم كأنك تراها"، ثم جزءًا من "السلسلة الضعيفة" والذي تدارسه لمدة عامين وتأثر به أيما تأثر وفتح له الباب لدارسة علوم الحديث.

 

وما أن أنهى شيخنا المرحلة الثانوية حتى التحق بجامعة عين شمس في كلية الألسن قسم اللغة الإسبانية، وكان بجانب دراسته يعمل في متجر صغير للمواد الغذائية، ورغم هذا كان من الثلاثة الأوائل على صفه في اللغة الإسبانية في جميع السنوات، ولتفوقه أُرسِل في بعثة لإسبانيا، لكنه لم يلبث أن ضاقت نفسه مما عاينه هناك من مخالفات فعاد إلى مصر بعد شهرين اثنين، وكان قد أعفى هناك لحيته.

 

ثم بدأت رحلته الحقيقة مع العلم الشرعي، فبدأ بحضور دروس الشيخ محمد نجيب المطيعي في أصول الفقه والحديث ولزمه نحو أربع سنوات، وتتلمذ على الشيخ عبد الفتاح الجزَّار في اللغة العربية، ثم ارتحل إلى الشيخ الألباني رحلتين مشهورتين تعلم خلالهما الكثير، كما حضر دروس الشيخ عبد العزيز بن باز بالجامع الكبير، ودروس الشيخ محمد بن صالح العثيمين بالمسجد الحرام، وحضر للشيخ عبد الله بن قعود شرح كتاب "البرهان في أصول الفقه" للجُوَيني، كما تتلمذ شيخنا في الجامع الأزهر علي يد جماعة من العلماء كالدكتور موسى شاهين لاشين رئيس قسم الحديث بكلية أصول الدين ساعتها.

 

ولشيخنا من المؤلفات الكثير والكثير مما يضيق عن ذكره المقام، وقد ظل شيخنا سنونًا طوالًا من عمره يخطب الجمعة بمساجد مصر ثم بدولة قطر، مخلفًا لنا -بجانب كتبه العلمية- تراثًا مرئيًا ومسموعًا غزيرًا من الخطب والدروس والمحاضرات، التي أنار الله -تعالى- بها القلوب وفتح بها العقول.

 

وفي الدوحة عاصمة قطر، وفي مساء يوم الاثنين 17 رمضان 1446ه، الموافق 17 مارس 2025م، وعن عمر ناهز سبعين سنة هجرية، انتقل شيخنا إلى جوار ربه، وصُلِّى عليه في جامع الإمام محمد بن عبد الوهَّاب، ودُفن بمقبرة مسيمير، رحمه الله رحمة واسعة([2]).

 

وكعادتنا في هذه السلسلة؛ "سلسلة خطباء في الميزان" فحديثنا قسمان، القسم الأول للمميزات، والثاني للمآخذ.

 

القسم الأول: نقاط القوة وعوامل التميز:

أولًا: جمعه بين العلم والتأثر والتأثير:

لقد ثبت وتقرر؛ أنه "لا يؤثر إلا المتأثر"، وليست النائحة الثكلى كالمستأجرة، فكلما كان تأثر الخطيب بما يقول أكثر كان تأثيره في السامعين أعظم وأدوم... وإن أنجح موضوع تتناوله -أيها الخطيب- هو أكثر موضوع أنت به متأثر وله معايش، ولقد كان التأثر باديًا في جميع خطب نبينًا -صلى الله عليه وسلم- ينبئك بذلك قول جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: "صبحكم ومساكم""([3]).

 

لكن من الخطباء من يعتمد على الموعظة والإثارة وغرضه هو التأثير في الجمهور وفقط، مع خواء خطبته من مادة علمية دسمة قوية، فلربما رأيت الناس قد خرجوا من الخطبة دامعة عيونهم خاشعة قلوبهم -وهذا توفيق كبير وإنجاز عظيم-، لكنك لو سألتهم: ماذا تعلمتم من الخطبة؟ لحاروا بم يجيبون! والحق والصواب هو: الجمع بين الأمرين؛ التأثير مع التعليم، لا يغني أحدهما عن الآخر.

 

وهذا مما تفوق فيه شيخنا المحدث الجليل والخطيب النِحْرير([4])؛ فتجده كثيرًا ما يقيم خطبته على حديث نبوي، كسلسلة: "من عرف شرف ما يطلب هان عليه ما يبذل"، التي ذكر في الدقيقة الثالثة منها أنه سيقيم سلسلة خطب كاملة على حديث واحد([5]) هو: حديث جابر بن عبد الله أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لبث عشر سنين يتبع الحجاج في منازلهم في الموسم وبمجنة وبعكاظ، وبمنازلهم بمنى يقول: "من يؤويني، من ينصرني حتى أبلغ رسالات ربي وله الجنة؟"، فلا يجد أحدًا ينصره ويؤويه، حتى إن الرجل يرحل من مضر، أو من اليمن، إلى ذي رحمه، فيأتيه قومه، فيقولون: احذر غلام قريش لا يفتنك..."([6]).

 

وكذلك محاضرة: "ليلة في بيت النبي -صلى الله عليه وسلم-"([7])، التي أقامها على حديث أم زرع([8]) في الصحيحين، وكذا خطبة: "فتنة الشهوات والشبهات"([9])، بل إن جل خطب فضيلته تبدأ بحديث يشرحه أو يدور في فلكه أو يتخذه قاعدة لانطلاقه..

 

وفوق ذلك فإن خطبه كلها زاخرة بالفوائد والملح والعلم الغزير، فلو أردت استقصاء ذلك في خطبة واحدة لوجدته متطرقًا إلى علم الحديث وعلم الفقه وأصوله مبحرًا في كتب التاريخ والتراجم فضلًا عن الرقائق، وربما تطرق إلى بعض العلوم العصرية كالطب والكيمياء والهندسة وغيرها، في مزيج متناسق متكامل من الاستفادة.

 

ثانيًا: التحامه بواقع أمته:

فمن الخطباء من هو منفصل عن الواقع؛ يخطب في واد وواقع الناس في واد آخر، يُنَظِّر ويُقَعِّد في مجال الوهم والخيال! ويعالج من الموضوعات ما لا يمت بصلة إلى حياة جمهوره التي يعيشونها! فلا عجب أن ينصرف الناس عن أمثال هؤلاء الخطباء.

 

أما شيخنا الحويني فكان لا يبتعد عن واقع أمته قيد أنملة، فتسمعه في خطبة: "التوحيد أولًا"([10])، وفي الدقيقة الخامسة منها وهو يقول -مرتبطًا بالواقع المعاش-: "نحن نقول دائمًا للمستعجلين؛ الذين يريدون أن يصلوا إلى قمة الهرم دون أن يبذلوا شيئًا مذكورًا بدءًا من قاعدته كما فعل الرسل، نقول لهم: كلمة التوحيد قبل توحيد الكلمة، لن يجتمع إنسان قط مع آخر يختلف معه في الاعتقاد، الذين يريدون أن يصلوا إلى قبة الحكم؛ إلى قمة الهرم دون أن يبذلوا شيئًا من قاعدته: تأملوا كيف فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- منذ بعثه الله؛ إنه بدأ من القاعدة...".

 

ثم في الدقيقة الثامنة يقدِّم -رحمه الله- نماذج واقعية مدللًا على كلامه قائلًا: "ولنا في الواقع عبرة؛ أفغانستان يوم هجم عليها الروس واحتلوها واستنفر شباب المسلمين من كل البلاد للذب عن هذا البلد المسلم المغتصب، أول من بدأ الجهاد في أفغانستان الشيخ جميل الرحمن -رحمه الله- كان والي "كونار"..."، ثم انطلق يحلل الأمر ويفصِّله تفصيلًا يظهر التحامه بالواقع ووعيه التام بملابساته وتوازناته.  

 

 

 

[1])) قد وقفني الله -تعالى- إلى عرض تجربة الشيخ "عبد الحميد كشك" الخطابية، وقد جاءت في ثلاثة أجزاء هذه روابطها:

تجربة الشيخ عبد الحميد كشك الخطابية (1):
https://khutabaa.com/ar/article/%D8%AA%D8%AC%D8%B1%D8%A8%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%8A%D8%AE-%D8%B9%D8%A8%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%85%D9%8A%D8%AF-%D9%83%D8%B4%D9%83-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%B7%D8%A7%D8%A8%D9%8A%D8%A9-1
تجربة الشيخ عبد الحميد كشك الخطابية (2):
https://khutabaa.com/ar/article/%D8%AA%D8%AC%D8%B1%D8%A8%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%8A%D8%AE-%D8%B9%D8%A8%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%85%D9%8A%D8%AF-%D9%83%D8%B4%D9%83-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%B7%D8%A7%D8%A8%D9%8A%D8%A9-2
تجربة الشيخ عبد الحميد كشك الخطابية (3):

https://khutabaa.com/ar/article/%D8%AA%D8%AC%D8%B1%D8%A8%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%8A%D8%AE-%D8%B9%D8%A8%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%85%D9%8A%D8%AF-%D9%83%D8%B4%D9%83-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%B7%D8%A7%D8%A8%D9%8A%D8%A9-3

[2])) ينظر في ترجمة الشيخ المصادر التالية:

- موقع الشيخ أبي إسحاق الحويني: https://alheweny.me/pages/page/about
- موقع ويكيبيديا: https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A3%D8%A8%D9%88_%D8%A5%D8%B3%D8%AD%D8%A7%D9%82_%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%88%D9%8A%D9%86%D9%8A

- موقع طريق الإسلام: https://ar.islamway.net/article/72299/%D8%AA%D8%B1%D8%AC%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%8A%D8%AE-%D8%A3%D8%A8%D9%8A-%D8%A5%D8%B3%D8%AD%D8%A7%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%88%D9%8A%D9%86%D9%8A

[3])) رواه مسلم (867).

[4])) النِحْرير هو: الفَطِن الحاذق في فنه، والجمع: نحارير.

[5])) استمع إلى فضيلته يقرر ذلك في الدقيقة الثالثة من الخطبة، وهذا رابطها:

https://www.youtube.com/watch?v=TSdqhTEYB5Y

[6])) رواه أحمد (14653)، والبيهقي في دلائل النبوة (جماع أبواب المبعث، باب ذكر العقبة الثانية)، وصححه الألباني (الصحيحة: 63).

[7])) هذا رابطها: https://www.youtube.com/watch?v=-tShYD6ti0Q

[8])) الحديث رواه البخاري (5189)، ومسلم (2448).

[9])) هذا رابط الخطبة: https://www.youtube.com/watch?v=jlfW_LegLmI&t=1589s

[10])) هذا رابط الخطبة: https://www.youtube.com/watch?v=cwhmK6hze58

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات