عناصر الخطبة
1/ماذا نقصد بتربية المراهق؟ 2/أهمية تربية المراهق وخصائصها 3/أنواع تربية المراهق 4/تطبيقات عملية في تربية المراهق.اقتباس
أَقْبِلُوا -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ- عَلَى أَوْلَادِكُمْ وَمُرَاهِقِيكُمْ؛ طَبِّبُوا نُفُوسَهُمْ، وَعَلِّلُوا قُلُوبَهُمْ، وَعَلِّمُوا عُقُولَهُمْ، دُلُّوهُمْ عَلَى مَا يَنْفَعُهُمْ، وَحَذِّرُوهُمْ مِمَّا يَضُرُّهُمْ، عَرِّفُوهُمْ مَسَالِكَ الْإِيمَانِ وَالتَّرَقِّي إِلَى الْإِحْسَانِ وَالتَّقَرُّبِ مِنَ الرَّحْمَنِ، وَإِيَّاكُمْ أَنْ تَتْرُكُوهُمْ لُقْمَةً سَائِغَةً لِكُلِّ فِكْرٍ ضَالٍّ وَمَنْهَجٍ مُنْحَرِفٍ...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: الْمُرَاهَقَةُ هِيَ فَتْرَةُ انْتِقَالٍ مِنَ الطُّفُولَةِ بِلَعِبِهَا وَلَهْوِهَا وَبَرَاءَتِهَا إِلَى الشَّبَابِ بِجِدِّهِ وَطُمُوحَاتِهِ وَتَطَلُّعَاتِهِ؛ لِذَا هِيَ أَشْبَهُ بِمَرْحَلَةِ مَخَاضٍ؛ لَيْسَ لِجَنِينٍ يُولَدُ، بَلْ لِرَجُلٍ جَدِيدٍ يَتَكَوَّنُ، وَلِشَخْصِيَّةٍ مُسْتَقِلَّةٍ تَتَبَلْوَرُ، وَبِالتَّالِي نَتَحَدَّثُ عَنْ مَرْحَلَةٍ حَرِجَةٍ تَحْتَاجُ مِنَّا إِلَى نَوْعٍ خَاصٍّ مِنَ التَّرْبِيَةِ تُرَاعِي تِلْكَ الْمُتَغَيِّرَاتِ وَالتَّقَلُّبَاتِ.
نَقْصِدُ -مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ- بِالتَّرْبِيَةِ الْخَاصَّةِ لِلْمُرَاهِقِ: أَيِ الْعُبُورَ بِهِ -فِي أَمَانٍ وَسَلَامٍ- مِنْ خِلَالِ أَعَاصِيرِ الشَّهَوَاتِ، وَطُوفَانِ الرَّغَبَاتِ، وَبُرْكَانِ التَّطَلُّعَاتِ، وَجَوَاذِبِ الْأَهْوَاءِ، وَشَتَّى النَّزَعَاتِ، إِلَى مَرْفَأِ الطُّمَأْنِينَةِ وَالِاسْتِقْرَارِ، ثُمَّ الْإِبْحَارِ بِهِ إِلَى هَدْيِ الْإِسْلَامِ وَمَعَالِيهِ...
وَمَرْحَلَةُ الْمُرَاهَقَةِ الَّتِي نَعِيشُهَا مَعَ الْمُرَاهِقِ كَأَنَّنَا فِي أَرْضِ حَرْبٍ تَتَسَاقَطُ عَلَيْهَا الْقَذَائِفُ وَالْقَنَابِلُ، وَيَنْتَشِرُ بِهَا قُطَّاعُ الطُّرُقِ؛ فَنَحْنُ نَعْبُرُ بِالْمُرَاهِقِ مِنْ أَسْلَمِ الطُّرُقَاتِ لِنُجَنِّبَهُ تِلْكَ الْأَخْطَارَ أَنْ تُصِيبَهُ مِنْهَا شَظِيَّةٌ أَوْ قَذِيفَةٌ أَوْ أَذًى!
وَبِذَلِكَ فَإِنَّ تَرْبِيَةَ الْمُرَاهِقِينَ تَخْتَلِفُ عَنْ تَرْبِيَةِ الْأَطْفَالِ؛ لِمَا يَثُورُ فِي أَجْسَادِ الْمُرَاهِقِينَ مِنْ بَرَاكِينِ الشَّهَوَاتِ الَّتِي تَؤُزُّهُمْ أَزًّا إِلَى ارْتِكَابِ الْمُحَرَّمَاتِ! وَلِمَا يَثُورُ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ حُبِّ الِاسْتِطْلَاعِ وَالْفُضُولِ وَتَجْرِبَةِ كُلِّ جَدِيدٍ مَهْمَا كَانَ مَمْنُوعًا أَوْ خَطِرًا أَوْ مُحَرَّمًا!
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: وَلِكَيْ تَتَمَيَّزَ تَرْبِيَتُنَا لِلْمُرَاهِقِ عَنْ غَيْرِهِ وَتُؤْتِيَ ثَمَرَتَهَا مَعَهُ فَلَابُدَّ أَنْ تَتَوَافَرَ فِيهَا الْخَصَائِصُ التَّالِيَةُ:
أَنَّهَا تَرْبِيَةٌ خَالِيَةٌ مِنَ التَّوْبِيخِ وَالتَّحْقِيرِ؛ فَمِنْ طَبِيعَةِ هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ وُقُوعُ الْمُرَاهِقِ فِي بَعْضِ الْأَخْطَاءِ وَالزَّلَّاتِ؛ فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ فَلْنَدَعِ الْمُرَاهِقَ يَتَحَمَّلُ نَتِيجَةَ خَطَئِهِ وَتَبِعَاتِهِ، لَكِنْ بِدُونِ تَوْبِيخٍ وَلَوْمٍ وَتَقْرِيعٍ إِلَّا لِحَاجَةٍ يَسْتَدْعِيهَا ظَرْفٌ مَا، وَنَصْنَعُ مَعَهُمْ كَمَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ نَصْنَعَ مَعَ إِمَائِنَا إِنْ أَخْطَأْنَ قَائِلًا: "إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ، فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ، وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ، وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، وَالتَّثْرِيبُ هُوَ: التَّوْبِيخُ وَالتَّعْيِيرُ وَاللَّوْمُ عَلَى الذَّنْبِ... وَفَلَذَاتُ أَكْبَادِنَا الْمُرَاهِقِينَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنَ الْجَوَارِي وَالْعَبِيدِ.
وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْمُرَاهَقَةَ سِنُّ عِنَادٍ وَاعْتِدَادٍ بِالنَّفْسِ وَشُعُورٍ بِالْأَنَفَةِ، فَلَرُبَّمَا إِنْ بَالَغْنَا فِي تَوْبِيخِ الْمُرَاهِقِ عَلَى خَطَئِهِ، دَفَعَهُ عِنَادُهُ إِلَى التَّمَادِي فِيهِ وَالْإِصْرَارِ عَلَيْهِ.
ثَانِيًا: أَنَّهَا تَرْبِيَةٌ تَعْتَبِرُ الْمُرَاهِقَ رَجُلًا مِنَ الرِّجَالِ: فَهَكَذَا كَانَ يَصْنَعُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ، وَعَنْ يَسَارِهِ أَشْيَاخٌ، فَقَالَ لِلْغُلَامِ: "أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلَاءِ؟" فَقَالَ الْغُلَامُ: لَا وَاللَّهِ، لَا أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا، قَالَ: فَتَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي يَدِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)؛ فَهُوَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْتَأْذِنُ الْغُلَامَ كَمَا يَسْتَأْذِنُ الْأَشْيَاخَ.
ثَالِثًا: تَرْبِيَةٌ تُدْرِكُ طَبِيعَةَ الْمَرْحَلَةِ فَتَتَعَامَلُ مَعَ مَظَاهِرِهَا بِرِفْقٍ: فَهَذَا شَابٌّ تَتَفَاعَلُ فِي جَسَدِهِ بَرَاكِينُ الشَّهْوَةِ، وَلَا يَجِدُ لَهُ إِلَى الْحَلَالِ سَبِيلًا، وَيَمْنَعُهُ دِينُهُ عَنْ فِعْلِ الْحَرَامِ إِلَّا أَنْ يَسْتَأْذِنَ فِي فِعْلِهِ مِنْ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَيَأْتِيهِ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ وَقَالُوا: مَهْ مَهْ، فَقَالَ: "ادْنُهْ، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا"، فَجَلَسَ قَالَ: "أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟"، فَقَالَ: لَا، فَقَالَ: "فَكَذَلِكَ النَّاسُ لَا يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ!"، فَسَأَلَهُ الثَّانِيَةَ: "أَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟" قَالَ: لَا، قَالَ: "وَكَذَلِكَ النَّاسُ لَا يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ، أَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟" قَالَ: لَا، قَالَ: "فَكَذَلِكَ النَّاسُ لَا يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ، أَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟"، قَالَ: لَا، قَالَ: "فَكَذَلِكَ النَّاسُ لَا يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ، أَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟" قَالَ: لَا، قَالَ: "وَكَذَلِكَ النَّاسُ لَا يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ، فَاكْرَهْ لَهُمْ مَا تَكْرَهُ لِنَفْسِكَ، وَأَحِبَّ لَهُمْ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ"، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُطَهِّرَ قَلْبِي، فَوَضَعَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ"؛ فَلَمْ يَكُنِ الشَّابُّ بَعْدَ ذَلِكَ يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ.(صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
فَلَمْ يَزْجُرْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَمْ يَنْتَهِرْهُ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ طَبِيعَةَ مَا يَثُورُ فِي جَسَدِهِ فِي تِلْكَ الْمَرْحَلَةِ الْحَرِجَةِ؛ مَرْحَلَةِ الْمُرَاهَقَةِ، فَيَتَعَامَلُ مَعَهُ مُرَاعِيًا ذَلِكَ.
رَابِعًا: تَرْبِيَةٌ تُكَلِّفُ بِالْمَسْئُولِيَّاتِ لِرَفْعِ الْكَفَاءَاتِ: فَهَذَا سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَحْكِي فَيَقُولُ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعْرِضُ غِلْمَانَ الْأَنْصَارِ فِي كُلِّ عَامٍ فَيُلْحِقُ مَنْ أَدْرَكَ مِنْهُمْ، قَالَ: فَعُرِضْتُ عَامًا، فَأَلْحَقَ غُلَامًا، وَرَدَّنِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ أَلْحَقْتَهُ وَرَدَدْتَنِي وَلَوْ صَارَعْتُهُ لَصَرَعْتُهُ؟ قَالَ: "فَصَارِعْهُ"، فَصَارَعْتُهُ فَصَرَعْتُهُ فَأَلْحَقَنِي"(صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ).
وَانْتَبِهْ -أَخِي الْمُسْلِمَ- إِلَى قَوْلِهِ: "غِلْمَانٌ"، فَهُوَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَعَاهَدُ "الْغِلْمَانَ" وَيُكَلِّفُ مَنْ يُطِيقُ مِنْهُمْ بِالْمَسْئُولِيَّاتِ، وَيُدْخِلُهُ مَيْدَانَ الرِّجَالِ؛ لِيُعِدَّهُمْ وَيُرَبِّيَهُمْ عَمَلِيًّا، وَلَيْسَ فَقَطْ بِمُجَرَّدِ الْكَلَامِ.
وَهَذَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ يَقُصُّ عَنْ أَخِيهِ عُمَيْرٍ فَيَقُولُ: "رَأَيْتُ أَخِي عُمَيْرًا قَبْلَ أَنْ يَعْرِضَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَوَارَى، فَقُلْتُ: مَا لَكَ يَا أَخِي؟ قَالَ: أَخَافُ أَنْ يَسْتَصْغِرَنِي رَسُولُ اللَّهِ، فَيَرُدَّنِي وَأَنَا أُحِبُّ الْخُرُوجَ"، وَبِالْفِعْلِ قَدِ "اسْتَصْغَرَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا أَرَادَ الْمَسِيرَ إِلَى بَدْرٍ، فَبَكَى فَأَجَازَهُ، وَكَانَ سَيْفُهُ طَوِيلًا، فَعَقَدَ عَلَيْهِ حَمَائِلَ سَيْفِهِ".
وَمَا حُبُّ عُمَيْرٍ وَحِرْصُهُ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا نَتِيجَةَ تَرْبِيَةٍ إِيمَانِيَّةٍ تُكَلِّفُ بِالْمَسْئُولِيَّاتِ، وَأَيْضًا فَهِيَ طَبِيعَةُ الْمَرْحَلَةِ الَّتِي يَحْيَاهَا؛ أَنْ يَتَطَلَّعَ لِدُخُولِ مَدْخَلِ الرِّجَالِ.
خَامِسًا: أَنَّهَا تَرْبِيَةٌ شَامِلَةٌ تَحْتَضِنُ الرُّوحَ وَالْجَسَدَ: فَالْإِسْلَامُ يَهْتَمُّ فِيهَا بِالْإِيمَانِيَّاتِ وَالرُّوحَانِيَّاتِ وَبِالْجَسَدِ وَالْبَدَنِ؛ فَهَا هُوَ الْفَارُوقُ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ- يَكْتُبُ إِلَى أَهْلِ الشَّامِ: عَلِّمُوا أَوْلَادَكُمُ السِّبَاحَةَ وَالرِّمَايَةَ وَالْفُرُوسِيَّةَ، وَمُرُوهُمْ بِالِاحْتِفَافِ بَيْنَ الْأَغْرَاضِ"، فَيَتَرَبَّى الْجَسَدُ وَالرُّوحُ وَالْعَقَلُ مَعًا.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: وَتَبَعًا لِخَصَائِصِ التَّرْبِيَةِ لِلْمُرَاهِقِينَ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الْعِلْمِ أَنَّهَا لَيْسَتْ صُورَةً بَلْ صُوَرٌ مُتَنَوِّعَةٌ، وَهَذِهِ بَعْضُ أَمْثِلَتِهَا:
التَّرْبِيَةُ الْإِيمَانِيَّةُ وَالرُّوحِيَّةُ: وَهِيَ أَسَاسٌ لِتَقْرِيبِ الْمُرَاهِقِ مِنَ الرَّحْمَنِ، وَتَحْصِينِهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَأَوَّلُهَا تَعْلِيمُهُ الْعَقِيدَةَ وَالْإِيمَانَ، ثُمَّ التَّثْنِيَةُ بِتَحْفِيظِهِ الْقُرْآنَ؛ فَعَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَنَحْنُ فِتْيَانٌ حَزَاوِرَةٌ، فَتَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ نَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ، فَازْدَدْنَا بِهِ إِيمَانًا"(صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
ثُمَّ ثَالِثُهَا تَعْلِيمُهُ الصَّلَاةَ، فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ"(صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
وَمِنْهَا: التَّرْبِيَةُ الْأَخْلَاقِيَّةُ وَالسُّلُوكِيَّةُ: تِلْكَ الَّتِي دَرَّسَهَا لُقْمَانُ الْحَكِيمُ لِابْنِهِ: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)[لُقْمَانَ:18-19].
وَمِنْهَا: التَّرْبِيَةُ الْجِنْسِيَّةُ: فَقَدْ أَمَرَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ الْمُرَاهِقَ أَلَّا يَدْخُلَ عَلَى أَهْلِهِ النَّائِمِينَ لِئَلَّا تَقَعَ عَيْنُهُ عَلَى مَا يُؤْذِي قَلْبَهُ وَيُؤَجِّجُ رَغَبَاتِهِ، وَمَا لَا يَجُوزُ ظُهُورُهُ إِلَّا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فَقَدْ قَالَ -تَعَالَى-: (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)[النُّورِ:59]، ثُمَّ أَمَرَ نَبِيُّ الْإِسْلَامِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ إِذَا أَتَمُّوا عَشْرَ سَنَوَاتٍ لِمَا يَفُورُ فِي الْأَجْسَادِ مِنْ غَرَائِزَ، فَقَالَ فِي تَمَامِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ: "مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا، وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ".
وَقَدْ قِيلَ إِنَّهَا: "نَزَلَتْ فِي أَسْمَاءَ بِنْتِ مَرْثَدٍ كَانَ لَهَا غُلَامٌ كَبِيرٌ فَدَخَلَ عَلَيْهَا فِي وَقْتٍ كَرِهَتْهُ، فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: إِنَّ خَدَمَنَا وَغِلْمَانَنَا يَدْخُلُونَ عَلَيْنَا فِي حَالٍ نَكْرَهُهَا"، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ.
فَالتَّرْبِيَةُ -عِبَادَ اللَّهِ- أَنْوَاعٌ كَثِيرٌ؛ التَّرْبِيَةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ، وَالتَّرْبِيَةُ الْعَاطِفِيَّةُ، وَالْفِكْرِيَّةُ، وَالْعَقْلِيَّةُ؛ وَمَتَى تَحَقَّقَ كُلُّ أَنْوَاعِ هَذِهِ التَّرْبِيَةِ الشَّامِلَةِ فَإِنَّهَا سَتُنْشِئُ مُرَاهِقًا صَالِحًا يَبْنِي وَلَا يَهْدِمُ، وَيُصْلِحُ وَلَا يُفْسِدُ.
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ؛ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[الْبَقَرَةِ: 281].
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ فِي الْعَمَلِ وَالْحَالِ مَا يُغْنِي عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْمَقَالِ؛ فَتَعَالَوْا نَرَى حَالَ سَلَفِنَا الْأَبْرَارِ وَمَنْ تَلَاهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ الْأَخْيَارِ؛ كَيْفَ كَانُوا يُتْقِنُونَ تَرْبِيَةَ مُرَاهِقِيهِمْ؛ وَأَوَّلُهُمْ وَقُدْوَتُنَا وَقُدْوَتُهُمْ؛ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يَحْكِي ابْنُ عَبَّاسٍ كَيْفَ كَانَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَزْرَعُ فِيهِ الْعَقِيدَةَ وَالْإِيمَانَ، قَائِلًا: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمًا، فَقَالَ: "يَا غُلَامُ، إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ؛ احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ..."(صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
وَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُوَجِّهُهُمْ إِلَى الزَّوَاجِ؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالصِّيَامُ؛ حِمَايَةً لَهُمْ مِنَ الِانْحِرَافَاتِ الْجِنْسِيَّةِ، قَائِلًا: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يُؤَدِّبُ وَلَدَهُ وَيُعَلِّمُهُ الِالْتِزَامَ بِالسُّنَّةِ؛ فَقَدْ كَانَ يَرْوِي لِأَهْلِهِ حَدِيثَ: "لَا تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمُ الْمَسَاجِدَ إِذَا اسْتَأْذَنَّكُمْ إِلَيْهَا"، فَقَالَ بِلَالٌ -أَحَدُ أَوْلَادِهِ-: وَاللَّهِ لَنَمْنَعْهُنَّ، قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ: فَسَبَّهُ سَبًّا سَيِّئًا مَا سَمِعْتُهُ سَبَّهُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَقَالَ: "أُخْبِرُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَتَقُولُ: وَاللَّهِ لَنَمْنَعْهُنَّ!"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَيَحْكِي أَحَدُ الصَّالِحِينَ عَنْ أُمِّهِ فَيَقُولُ: "اسْتَأْذَنْتُ أُمِّي فِي الْحَجِّ، فَبِعْتُ سَهْمًا بِأَلْفِ دِينَارٍ، وَخَرَجْتُ... فَقَالَتْ أُمِّي: تَوَجَّهْتَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ؛ فَلَا يَكْتُبَنَّ عَلَيْكَ حَافِظَاكَ شَيْئًا تَسْتَحِي مِنْهُ غَدًا"؛ فَلَمْ تُوصِهِ أُمُّهُ بِصِحَّتِهِ وَلَا بِمَالِهِ... وَإِنَّمَا أَوْصَتْهُ بِدِينِهِ وَتَقْوَاهُ وَإِيمَانِهِ، فَلِلَّهِ دَرُّهَا مِنْ أُمٍّ صَالِحَةٍ مُرَبِّيَةٍ حَصِيفَةٍ!
فَأَقْبِلُوا -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ- عَلَى أَوْلَادِكُمْ وَمُرَاهِقِيكُمْ؛ طَبِّبُوا نُفُوسَهُمْ، وَعَلِّلُوا قُلُوبَهُمْ، وَعَلِّمُوا عُقُولَهُمْ، دُلُّوهُمْ عَلَى مَا يَنْفَعُهُمْ، وَحَذِّرُوهُمْ مِمَّا يَضُرُّهُمْ، عَرِّفُوهُمْ مَسَالِكَ الْإِيمَانِ وَالتَّرَقِّي إِلَى الْإِحْسَانِ وَالتَّقَرُّبِ مِنَ الرَّحْمَنِ، وَإِيَّاكُمْ أَنْ تَتْرُكُوهُمْ لُقْمَةً سَائِغَةً لِكُلِّ فِكْرٍ ضَالٍّ وَمَنْهَجٍ مُنْحَرِفٍ... فَإِنْ فَعَلْتُمْ فَهِيَ السَّعَادَةُ لَكُمْ وَلَهُمْ، وَإِلَّا فَلَا تَلُومُوا سِوَى أَنْفُسِكُمْ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ..
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم