جزاه الله خيرا فقد أخذ الذي لي

د عبدالعزيز التويجري

2025-11-21 - 1447/05/30 2025-12-10 - 1447/06/19
عناصر الخطبة
1/موقف من نصرة النبي للضعفاء 2/أحب الناس إلى الله أنفعهم 3/خلق الشهامة ومظاهره 4/وجوب إنصاف المرء غيره منه 5/من مفاتيح القلوب

اقتباس

كرم النفس أن تخدم بلا بمقابل، وتعين بلا مصلحة، وقف النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- مع غريب لا يعرفه، فليس بينه وبينه نسب، ولا مصلحة ولا مقابِل، فلم يسأله عن مكانته؟ وماذا سأجني من مساعدته؟ لأنّ مروءة المؤمن لا تحسب الربح والخسارة...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

الحمد لله الذي لا يبلغُ مِدحَتَه القائلون، ولا يُحصِي نعماءَه العادُّون، تبارك رباً، وجلّ ملكاً، وتقدس إلهاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

 

أما بعد: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التوبة: 119].

 

أخرج البيهقي في الدلائل بسنده قَالَ: "قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ إِرَاشٍ بِإِبِلٍ لَهُ مَكَّةَ فَابْتَاعَهَا مِنْهُ أَبُو جَهْلِ، فَمَطَلَهُ بِأَثْمَانِهَا وَأَقْبَلَ الْإِرَاشِيُّ حَتَّى وَقَفَ عَلَى نَادِي قُرَيْشٍ، وَرَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- جَالِسٌ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مَنْ رَجُلٌ يُعَدِّينِي عَلَى أَبِي الْحَكَمِ، فَإِنِّي غَرِيبٌ قَدْ غَلَبَنِي عَلَى حَقِّي، فَقَالَ أَهْلُ الْمَجْلِسِ: اذْهَبْ إلى ذَلِكَ الرَّجُلَ، وَهُمْ يُهْوُونَ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- استهزاءً، فَهُوَ يُؤَدِّيكَ عَلَيْهِ، فَأَقْبَلَ الْإِرَاشِيُّ حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَامَ مَعَهُ، حَتَّى جَاءَ باب أبي جهل  فَضَرَبَ عَلَيْهِ بَابَهُ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: "مُحَمَّدٌ، فَاخْرُجْ إِلَيَّ"، فَخَرَجَ إِلَيْهِ وَمَا فِي وَجْهِهِ بَايِحَةٌ وَقَدِ انْتَقَعَ لَوْنُهُ، قَالَ: أَعْطِ هَذَا الرَّجُلَ حَقَّهُ، قَالَ: لَا تَبْرَحْ حَتَّى أُعْطِيَهُ الَّذِي لَهُ، فَدَخَلَ فَخَرَجَ إِلَيْهِ بِحَقِّهِ، فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، فَأَقْبَلَ الْإِرَاشِيُّ حَتَّى وَقَفَ عَلَى ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، فَقَالَ: جَزَاهُ اللهُ خَيْرًا فَقَدْ أَخَذَ الَّذِي لِي".

 

جُودٌ إذا مَدَّ كَفًّا لا تُحَاسِبُهُ *** والبَحرُ لو قِيسَ بالجُودَيْنِ يَنفَلِقُ

يمشي إلى الخَلقِ لا يُثنيهِ ذو سَفَهٍ *** ولا تُزيغُ فؤادًا عنهُ يَدٌ سَبَقُوا

يَلقَى الضعيفَ بِوَجهٍ فيهِ بَسْمَتُهُ *** فَيَنْجَبِرُ القلبُ مِن لُطفٍ بهِ طَرَقُوا

ما قالَ لا قطُّ، إلّا حينَ أمْسَكَها *** حَقٌّ، فلا يُنطِقُ التثريبَ أو فِرَقُ

 

يجلي لنا هذا الحديث الجليل وهذا المشهد العجيب، أن الكرم هو كرم الأخلاق وأن السّعة ليست في المال فحسب، بل الكريم من كرمت نفسه، واتسع صدره، واستمع لغيره، وإن لم يعْنِهِ أمره.

 

مَنْ يَفْعَلِ الخَيْرَ لَا يَعْدَمْ جَوَازِيَهُ *** لَا يَذْهَبُ العُرْفُ بَين اللهِ والنَّاسِ

 

كرم النفس أن تخدم بلا بمقابل، وتعين بلا مصلحة، وقف النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- مع غريب لا يعرفه، فليس بينه وبينه نسب، ولا مصلحة ولا مقابِل، فلم يسأله عن مكانته؟ وماذا سأجني من مساعدته؟ لأنّ مروءة المؤمن لا تحسب الربح والخسارة، فالوقوف مع الضعيف يكشف معدن الإنسان الحقيقي.

 

ومُبْتَدرُ المَعْرُوفِ تَسْرِي هِبَاتُه *** إليهمْ ولا تَسري إليهم غَوائِلُهْ

 

"أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ"، هذا الموقف يعلن أن الإنسان لا تُعرف قيمته في مواقفه مع الأقوياء، ولا في شطارته في تجارته، بل كيف ينجح في التعامل مع الضعفاء.

 

يجلي لنا هذا المشهد أن القيادات العظيمة لا تتعالى على الناس، ولا تمشي فوقهم، بل تمشي معهم، وتحمل همومهم، في صحيح البخاري قال أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: "إِنْ كَانَتِ الأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ المَدِينَةِ، لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ".

 

أعزُّ بني الدنيا وأعلى ذوي العلا *** وَأكرَمُ مَن فَوقَ الترَابِ وَلا فَخْرُ

 

لا يرفع الإنسان منصبه إذا لم يرفعهُ خلقه، ولا يعلو المرء بجاهه إذا لم تعلُ شيمه، المنصب بلا خُلق قصر من ذهب، جماله للناظرين، بلا كرمٍ للداخلين، والجاه بلا شيم عرشٌ بلا روح، وجسرٌ لا يصل إلى القلوب.

 

الشهامة إذا اقترنت بالسماحة منحا الإنسان ثقلًا في الأرض، ونورًا في القلوب، ومحبة عند الخلق، والرحمة ولين الجانب هبة من الله؛ (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)[آل عمران: 159].

 

الشهامة قيمة روحية تجعل المرء شامخًا بلا شدة، ومواقفه تحدث عنه بلا ثرثرة، وينصر الضعيف بلا مصلحة، الشهامة مزيج من الشجاعة والعدل والكرم والوفاء، والثبات ونُصرة الحق والخلق، الشهامة تتجلّى في الكظم عند الغضب، والعفو عن الناس عند المقدرة، وإعطاء كل ذي حق حقه؛ (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ)[آل عمران: 134].

 

من امتلك الشهامة صار قلبه حصنًا للمظلومين، ويده ممدودة للمستضعفين، لسانه ينطق حكمة، ووجهه يبشّر بالمحب؛ (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)[الفرقان: 63].

 

الشهامة من يرى الفضلَ في غيره، والنقصَ في نفسه، من إذا رأى محتاجاً أعانه، وإن وجد جاهلاً علّمه، وإن لقي مخطئاً ناصحه، الشهامةُ أن تمشي إلى الحقّ ولو مشى الناسُ إلى غيره، وأن تثبتَ على الخير وإن رآه غيرك تخلفا.

 

الشهامةٌ لا تُقاسُ بارتفاع الصوت، بل بارتفاع الهمّة، ولا تُعرفُ بصلابة الملامح، بل بصلابة المبدأ، الشهامةُ أن تبذل النصيحة كما يُبذل العطاء، وتغار على الدين أن يدنس، كما تحمي مالك أن يُمسّ.

 

ما أقسى أن يكون الإنسانُ شهمًا في طلب حقه، جبانًا في إنصاف الآخرين، إذا مُسّت كرامته أو جيبه شمخ بأنفه، وعلا صوته، يطرق الأبواب، ويستجمعُ كلَّ ما في روحه من حميّة، وما إن ينتقل المقامُ من حقّه الشخصي إلى حقّ غيره؛ حتى تهوي شهامتُه، ويبهتُ صوته، ويصيبه الخور، تراهُ قوياً في الخصومة إذا كان هو المتأذّي، ضعيفاً في النصرة إن كان غيره هو المظلوم.

 

يجيدُ المطالبة، ولا يُجيدُ البذل، يتقن أخذَ الخير، ويَتثاقَل عن صناعته في وجوه الناس، كما قال ابن القيم -رحمه الله-: "وَهَلْ بَلِيَّةُ الدِّينِ إلَّا مِنْ هَؤُلَاءِ، الَّذِينَ إذَا سَلَّمْت لَهُمْ مَآكِلَهُمْ وَرِيَاسَاتِهِمْ فَلَا مُبَالَاةَ بِمَا جَرَى عَلَى الدِّينِ؟! تراه بَارِدُ الْقَلْبِ سَاكِتُ اللِّسَانِ، وَلَوْ نُوزِعَ فِي بَعْضِ مَا فِيهِ غَضَاضَةٌ عَلَيْهِ، فِي جَاهِهِ أَوْ مَالِهِ بَذَلَ وَتَبَذَّلَ، وَجَدَّ وَاجْتَهَدَ، وَاسْتَعْمَلَ مَرَاتِبَ الْإِنْكَارِ الثَّلَاثَةِ".

 

فاللهم استعملنا بطاعتك، وأعذنا من خلان دينك وعبادك المؤمنين، أستغفر الله لي ولكم وللمسلمين والمسلمات، فاستغفروه إن ربي رحيم ودود.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وعلى الله وسلم على عبده ورسوله وآله وأصحابه.

 

أما بعد: لما أسر ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، سَيِّدُ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، "فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: "مَاذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟"، فَقَالَ: عِنْدِي خَيْرٌ يَا مُحَمَّدُ، إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ، فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ قال له مثل ذلك، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- : "أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ"، فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، يَا مُحَمَّدُ، وَاللهِ مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إِلَيَّ، وَاللهِ، مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ كُلِّهِ إِلَيَّ، وَاللهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلَادِ كُلِّهَا إِلَيَّ، فَبَشَّرَهُ رَسُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-  وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ لَهُ قَائِلٌ: أَصَبَوْتَ، فَقَالَ: لَا، وَلَكِنِّي أَسْلَمْتُ، وَلَا وَاللهِ، لَا يَأْتِيكُمْ مِنَ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-"(متفق عليه).

 

للقلوب مغاليق لا يفتحها إلا دعوة طيبة، وبشاشة وحسن مخاطبة، وإذا انفتحت القلوب قبلت الدعوة، وأذعنت للحق وانقادت للخير، لم يشتر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- القلوب بالمناصب، ولم يملكها بالأعطيات، وإنما انقادت إليه بحسن البيان، ولطيف الكلام، وجميل الحوار.

 

الدين خيرُ كله؛ سعادة للنفس، وراحة للقلب، وشهامة للروح، فمن فتحت له قلوب الناس فليُدخل عليها الدين والخير، ولا يدخُلُها ليستنفذ ما فيها، ومن فتح له باب في الخير فليلزمه؛ (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)[فصلت: 33].

 

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد.

 

 

المرفقات

جزاه الله خيرا فقد أخذ الذي لي.doc

جزاه الله خيرا فقد أخذ الذي لي.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات