حديث الأعرابي

د عبدالعزيز التويجري

2025-11-07 - 1447/05/16 2025-11-25 - 1447/06/04
عناصر الخطبة
1/حديث شكوى الأعرابي من القحط والجدب 2/دعاء النبي ونزول الغيث 3/المعاني الإيمانية من حديث الأعرابي 4/حاجة القلوب إلى اللجوء إلى الله

اقتباس

العرب أمهر الناس بعلم الفلك ومجريات الكواكب، بل قامت حياتهم من دون حسابات، ومع هذا لم يجلس الأعرابي يتابعها ولا يتحرى كوكبها، بل انطلق إيمانه، وقاده إخلاصه ويقينه إلى من لا يتعلق قلبه إلا بربه، ولا يرفع شكوى إلا إلى العلي الأعلى...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

الحمد لله الكبير المتعال، له الشكر بالغدو والآصال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شديد المحال، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وسلم تسليما مزيدا.

 

أما بعد: فاتقوا الله حيثما كنتم، وأتبعوا السيئة الحسنة تمحها، وخالقوا الناس بخلق حسن.

 

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: "أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ جُمُعَةٍ، مِنْ بَابٍ كَانَ نَحْوَ دَارِ الْقَضَاءِ، وَرَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَائِمًا، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ هَلَكَتِ الْأَمْوَالُ، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللهَ يُغِثْنَا، قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "اللهُمَّ أَغِثْنَا، اللهُمَّ أَغِثْنَا، اللهُمَّ أَغِثْنَا"، قَالَ أَنَسٌ: وَلَا -وَاللهِ- مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ وَلَا قَزَعَةٍ، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ وَلَا دَارٍ، قَالَ: فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ، فَلَمَّا تَوَسَّطَتِ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ، ثُمَّ أَمْطَرَتْ، قَالَ: فَلَا -وَاللهِ- مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سَبْتًا، قَالَ: ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ فِي الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ، وَرَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلَكَتِ الْأَمْوَالُ وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللهَ يُمْسِكْهَا عَنَّا، قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "اللهُمَّ حَوْلَنَا وَلَا عَلَيْنَا، اللهُمَّ عَلَى الْآكَامِ، وَالظِّرَابِ، وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ، وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ" فَانْقَلَعَتْ، وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ.

 

حديثٌ يحكي قصة فردٍ جسَّدَ معاناة مجتمع، وسعى لتفريج كربِ أمة من غير ترتيب أو استعداد، فكانت النتيجة عظيمة، والأثر بالغٌ، والخير بعدها واسع، فلا يحقرنَّ أحد نفسه في السعي في الخير ونشر الخير والإحسان للغير.

 

لا يلزم ألا ترفع شكوى ولا يهتم بأمر حتى يكون رأي عام، أو حتى تهلك أسر، أو يكون حديث الساري والجالس.

 

المؤمنون رحماء بينهم، يرحم قاصيهم لدانيهم، ويستغيث قويهم لضعيفهم، يشكو فقيرهم لغنيهم، وكلهم تحت رحمة ارحم الراحمين.

 

في هذا الحديث النبوي العظيم يجسد أن الأمة يجسِّد حاجتها منقطع لا يُعرف، أو أعرابي لا يهتم بأمره، لم يكن الشاكي من كبار الصحابة، أو ذوي الشأن والشارة، وإنما أعرابي جاء يحكي واقع مجتمع قد مسه الضر، وأصابته المسغبة: "هَلَكَتِ الْأَمْوَالُ، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ".

 

لم يكن يتحرى وقت ليرفع مذكرة أو يقدم بمقدمه، بل دَخَلَ الْمَسْجِدَ، وَرَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَائِمًا، ثُمَّ قَالَ: "يَا رَسُولَ اللهِ، هَلَكَتِ الْأَمْوَالُ، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللهَ يُغِثْنَا"، انتهت الشكوى بدون مقدمات أو تزلف أو تصنع، بل صدق ومصادقة، ومصارحة ومكاشفة.

 

فماذا كانت النتيجة؟ النتيجة أن توقف قائد الأمة وأمين الأمة ورسول رب العالمين، فلم يُسْكته أو ينهره، ولم يأمره بأن ينتظره بعد خروجه، أو في قت جلوسه، بل قطع حديثه وموضوعه الذي يتحدث عنه، وفهم الشكوى، ثم رفعها إلى فاطر السماوات والأرض، وتوجه إلى من عِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ، ومن بيده مقاليد الأمور، فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: "اللهُمَّ أَغِثْنَا، اللهُمَّ أَغِثْنَا، اللهُمَّ أَغِثْنَا".

 

ثلاث كلمات خرجت من أطهر قلب، وأصدق لسان، فشقت حُجُبَ السماوات بلحظة، وارتفعت فوق العرش بلمحة، وسمعها رب العزة والجلال من فوق عرشه -سبحانه-، فلبى النداء، واستجاب الدعاء، فأرسل الرياح لواقح، وبعث الغمام سوافح، بماء يتدفّق، ورِواءً غدق، من سماء طبق، استهلّ جفنُها فدمع، وسمح دمعُها فهمع، وأصابَ وبلُها فنقع، فاستوفت الأرض رِيّا، واستكملت من نباتها أَثَاثًا وَرِئْيًا، قَالَ أَنَسٌ: "وَلَا -وَاللهِ- مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ وَلَا قَزَعَةٍ، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ وَلَا دَارٍ، قَالَ: فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ، فَلَمَّا تَوَسَّطَتِ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ، ثُمَّ أَمْطَرَتْ، قَالَ: فَلَا -وَاللهِ- مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سَبْتًا".

 

ما أعظم الموقف وما أجل الحدث!، تغيرت الدنيا بلحظات وتبدل الحال ورسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم ينزل من منبره، المسألة لا تحتاج إلى قت إذا أُخلصت النية، ولا تتأخر الإجابة إذا صدق القلب وعظُم اليقين.

 

يخرج أُناسٌ إلى المصلى وهو يتابع الأرصاد، ومشترك مع بشر ينتظر أخبارهم حول مسيرات السحب ومجريات الامطار، إذا تعلقت القلوب بالضعفاء، وقلب الناس أبصارهم في الفلك والفضاء، وتابع آخرون حكايات وتوقعات؛ أوكلهم الله إليهم ولم يستجب في لحظتهم.

 

العام كله بيد الله لا يعلمه لا يُقَدِره إلا الله، ولا يُصَرِفه إلا خالقه، لا تتحرك ذرة إلا بأذنه، ولا تسقط ورقة إلا بعلمه؛ (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)[الأنعام: 59].

 

العرب أمهر الناس بعلم الفلك ومجريات الكواكب، بل قامت حياتهم من دون حسابات، ومع هذا لم يجلس الأعرابي يتابعها ولا يتحرى كوكبها، بل انطلق إيمانه، وقاده إخلاصه ويقينه إلى من لا يتعلق قلبه إلا بربه، ولا يرفع شكوى إلا إلى العلي الأعلى؛ (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ)[البقرة: 144]، (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ)[الأنفال: 9].

 

استجاب لهم فنزل المطر بأمره، فسالت أودية بقدرها، ولم تتوقف السماء أسبوعاً، حتى دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ فِي الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ، وَرَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا، فَقَالَ: "يَا رَسُولَ اللهِ، هَلَكَتِ الْأَمْوَالُ وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللهَ يُمْسِكْهَا عَنَّا"، قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "اللهُمَّ حَوْلَنَا وَلَا عَلَيْنَا، اللهُمَّ عَلَى الْآكَامِ، وَالظِّرَابِ، وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ، وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ"، قَالَ أنس: فَمَا يُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَى نَاحِيَةٍ إِلَّا تَفَرَّجَتْ، فانْقَلَعَتْ حتى رَأَيْتُ الْمَدِينَةَ فِي مِثْلِ الْجَوْبَةِ، وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ، وَسَالَ وَادِي قَنَاةَ شَهْرًا، وَلَمْ يَجِئْ أَحَدٌ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَّا أَخْبَرَ بِجَوْدٍ"(متفق عليه).

 

فسبحانَ من تعنو الوجوه لوجهِهِ *** ومــن كــلِ ذي عـزٍ له يتذلــــــلُ

تكفـلَ فضـلاً لا وجوبـًا برزقــــــــــهِ *** على الخلقِ فهو الرازقُ المتكفلُ

 

أستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إن ربنا لغفور شكور.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله.

 

أما بعد: السماء لا تبخل بعطائها وهي بيد الكريم -سبحانه-، والأرض ما عطشت إلا بعد ما عطشت قلوبٌ من اليقين الجازم، والإيمان الخاص، والتوجه الصادق؛ "لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ؛ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَرُوحُ بِطَانًا".

 

التوكل هو اليقين الجازم والاعتماد الكامل، ثم بذل الأسباب من السعي والدعاء والابتهال، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا، أعمال القلوب هي التي تسير الأبدان، ومن تصدق توجهه لم يخب ظنه.

 

استغنى أناس عن صلاة الاستسقاء والالحاح بالدعاء؛ لأنهم لا يرون الحاجة ماسة للماء لأنه لا ينقطع عن بيوتهم؛ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ)[الملك: 30]، ومن اعتمد على علمه وإمكانياته وما في يده وكله الله إلى نفسه، فأفقر قلبه، وكان فقير القلب وإن ملك كنوز كسرى.

 

القلوب تحتاج إلى غيث يزيل عنها غل الحسد، ويغسلها من درن الشبهات، والعقول تحتاج إلى غيث من العلم يهديها، ومن اليقين يقويها، ومن البصيرة يرشدها؛ (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)[الأعراف: 96].

 

اللهم طهر قلوبنا من الغل والحسد، وأغثها يا رب باليقين والايمان والإخلاص، وأغث بلادنا بالأمطار والخيرات والبركات.

 

ثم صلوا وسلموا على من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، اللهم صل وسلم على المبعوث رحمة وهداية للعالمين، نبينا محمد صاحب الحوض والشفاعة.

 

 

المرفقات

حديث الأعرابي.doc

حديث الأعرابي.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات