عناصر الخطبة
1/مختصر قصة هجرة النبي -عليه الصلاة والسلام- 2/دروس وعبر من حديث الهجرة 3/أهمية الهجرة النبوية ودلالاتها 4/اهتمام المسلمين بتاريخهم الهجرياقتباس
التاريخ الهجري توثيق أمجاد الأمة ومعاركها، ففي كل شهر هجري له قصة، وكل عام صفحة من سفر المجد، الاعتزاز بالتاريخ الهجري من صميم الولاء للدين، الاعتزاز بالتاريخ الهجري يعني أن تفتخر بأن بدايتك لا تصنعها التواريخ الميلادية، ولا حسابات الأمم...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحَمْدُ للهِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ، نَشْكُرُ ربنا على ما من علينا من الخير والبر والإحسان، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، هَدَانَا لِلْإِيمَانِ، وَعَلَّمَنَا القُرْآنَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، والتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فاتقوا الله ويعلمكم الله، واعلموا أنكم ملا قوه.
أخرج البخاري ومسلم عن البَرَاءِ بْنَ عَازِبٍ، قال: جَاءَ أَبُو بَكْرٍ-رضي الله عنه-، إِلَى أَبِي فِي مَنْزِلِهِ، فَاشْتَرَى مِنْهُ رَحْلًا، فَقَالَ لَهُ أَبِي: يَا أَبَا بَكْرٍ، حَدِّثْنِي كَيْفَ صَنَعْتُمَا حِينَ سَرَيْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: نَعَمْ، أَسْرَيْنَا لَيْلَتَنَا وَمِنَ الغَدِ، حَتَّى قَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ وَخَلاَ الطَّرِيقُ لاَ يَمُرُّ فِيهِ أَحَدٌ، فَرُفِعَتْ لَنَا صَخْرَةٌ طَوِيلَةٌ لَهَا ظِلٌّ، لَمْ تَأْتِ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، فَنَزَلْنَا عِنْدَهُ، وَسَوَّيْتُ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- مَكَانًا بِيَدِي يَنَامُ عَلَيْهِ، وَبَسَطْتُ فِيهِ فَرْوَةً، وَقُلْتُ: نَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَنَا أَنْفُضُ لَكَ مَا حَوْلَكَ، فَنَامَ وَخَرَجْتُ أَنْفُضُ مَا حَوْلَهُ، فَإِذَا أَنَا بِرَاعٍ مُقْبِلٍ بِغَنَمِهِ فَقُلْتُ لَهُ: يَا غُلاَمُ: أَفِي غَنَمِكَ لَبَنٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: أَفَتَحْلُبُ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَحَلَبَ فِي قَعْبٍ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ، وَمَعِي إِدَاوَةٌ حَمَلْتُهَا لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- يَرْتَوِي مِنْهَا، يَشْرَبُ وَيَتَوَضَّأُ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُ، فَوَافَقْتُهُ حِينَ اسْتَيْقَظَ، فَصَبَبْتُ مِنَ المَاءِ عَلَى اللَّبَنِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ، فَقُلْتُ: اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ، ثُمَّ قَالَ: "أَلَمْ يَأْنِ لِلرَّحِيلِ؟"، قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَارْتَحَلْنَا بَعْدَمَا مَالَتِ الشَّمْسُ، وَاتَّبَعَنَا سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ، فَقُلْتُ: أُتِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: "لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا"، فَدَعَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَارْتَطَمَتْ بِهِ فَرَسُهُ إِلَى بَطْنِهَا، فَقَالَ: إِنِّي أُرَاكُمَا قَدْ دَعَوْتُمَا عَلَيَّ، فَادْعُوَا لِي، فَاللَّهُ لَكُمَا أَنْ أَرُدَّ عَنْكُمَا الطَّلَبَ، فَدَعَا لَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَنَجَا، فَجَعَلَ لاَ يَلْقَى أَحَدًا إِلَّا قَالَ: قَدْ كَفَيْتُكُمْ مَا هُنَا، فَلاَ يَلْقَى أَحَدًا إِلَّا رَدَّهُ، قَالَ: وَوَفَى لَنَا.
هذا الحديث العظيم الجليل ليس مجرد سرد لوقائع، أو رواية حادثة مرت في التاريخ، أو مجرد حكاية تُروى للأجيال، بل هو كنز من الحكم الجليلة، والمعاني النبيلة، رحلة الهجرة تفتح لنا نافذة نرى من خلالها صورة الحياة النقية التي عاشها الصحابة.
في تفاصيل الرحلة نلمس معاني الصحبة الصالحة، والإخلاص في الخدمة، والتضحية دون كلل ولا ملل، وكيف أن أبسط الأفعال كإعداد فراش للنبي، أو حلب شاة ليشرب منها، كانت أعمالًا عظيمة في ميزان الإيمان.
سبقَ الأنامَ إلى الهدى بخطاهُ *** وهو الصدّيقُ، الحقُّ في يمناهُ
يمشي مع المختارِ في شعفِ الدُّجى *** ويُظِلُّهُ من حرِّها برداهُ
(وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى)[الليل: 19 - 21]، رحلة تجلي لنا أن الصحبة في سبيل الله ليست مجرّد رفقة، بل عقدُ وفاءٍ لا يقطعه خوف، ولا يُنقضه تهديد.
وأن التوكل على الله ليس كلامًا يُقال، بل يقينٌ يُعاش في لحظة المطاردة، وفي الغار، وتحت سيوف الطلب.
وأن الخدمة في أوقات الشدة أعظم من الخدمة في أوقات الرخاء، فاليد التي بردت اللبن للنبي -عليه الصلاة والسلام-، كانت تمسح بظلال الطمأنينة على وجه التاريخ.
رحلة الهجرة لم تكن انتقالًا من مكانٍ إلى آخر، بل عبورًا من مرحلة إلى مرحلة، ومن دعوةٍ مضيّقةٍ إلى أفقٍ رحب من النور والتمكين.
الهجرة إعلانًا بأن الدين لا يُقمع، وأن الرسالة لا تموت، وأن الحق وإن طال ليله لا بد أن تشرق شمسه.
رحلة الهجرة درسًا خالدًا في أن المبادئ لا تُشترى، وأن العقيدة أغلى من الأوطان إذا حاربت الإيمان، وأن الصبر على الحق لا يعرفه إلا من سكن اليقين قلبه، وامتلأ الإيمان في روحه حتى فاض على جوارحه صبرًا وثباتًا.
رحلة الهجرة مرآة تعكس روح الإسلام وجوهره، ودروس لا تنضب في الإيمان والتوكل، والصبر والإيثار.
هاجر النبي -عليه الصلاة والسلام- لا يحمل مالًا ولا جيشًا، لكنّه كان يحمل في قلبه وحي السماء، وفي عينيه بريق الأمل، وفي خطواته وعد الله: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ)[التوبة: 40].
خطوات مباركات طاهرات غيرن ملامح التاريخ، خطوات مهدن أمة تقود العالم بنور القرآن وسنة المصطفى.
الهجرة لم تكن غيابًا عن مكة، بل كانت حضورًا في كل بقعة سيُذكر فيها اسم الله عاليًا، رحلة الهجرة بداية الفتح، ومهد الدولة، وبوابة النصر، ومنارة للأجيال أن طريق الحق لا يخلو من الشوك، لكنه ينتهي دومًا إلى الجنات.
(لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)[التوبة: 40]، قمة السكينة، ومفاتيح الثقة، ونبراس الأمان لكل مؤمنٍ يسير في درب الدعوة، محاطًا بالمخاوف والشدائد.
الهجرة تلخص لنا طريق الحياة، وتذكرنا أن الهجرة ليست فقط مكانًا وزمانًا، بل هي حالة قلبية، وقوة إيمان، ونضال مستمر على دروب الحق.
الهجرة لم تكن مجرد انتقال جسدي، بل كانت ارتحالاً روحياً من ضيق الدنيا إلى سَعة الإيمان، ومن ظلمة الجهل إلى نور الوحي، ومن ظلم البشر إلى عدل السماء.
الهجرة منهج حياة ونبراس هداية، ومواقف تصنع أمماً، وتربي أجيالاً، وتبني مجتمعا.
أستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إن ربنا لغفور شكور.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله.
أما بعد: التاريخ الهجري ليس مجرّد أرقامٍ تتعاقب على أوراق التقويم، بل هو نبضُ أمةٍ، وسجلُّ حضارة، وخيطُ ضوءٍ موصولٌ بأعظم لحظةٍ عرفها الوجود، لحظة الهجرة النبوية، حين انشقّ ليل الظلم، وولد فجر الإيمان.
لقد اختار الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن يكون بدء التقويم من هجرة رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، لا من مولده، ولا من بعثته؛ لأن الهجرة كانت فجر التحوّل من الاستضعاف إلى التمكين، ومن الدعوة السرية إلى الدولة الراشدة، وكأنما أراد أن يهمس في أذن الأجيال: هنا بدأت الأمة، فهنا يجب أن تبدأ ذاكرتكم وتاريخكم.
كل عام هجري يذكّرنا بصحبة أبي بكر، وخدمة أسماء، وعزم المهاجرين، ووفاء الأنصار، هو تقويم لا يبدأ بعرش ملكٍ، بل بخطوة نبيٍّ في درب النور، فيه نُرتّب صومنا، وحجّنا، وزكاتنا، وأيام الله العظيمة؛ (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ)[البقرة: 189].
التاريخ الهجري توثيق أمجاد الأمة ومعاركها، ففي كل شهر هجري له قصة، وكل عام صفحة من سفر المجد، الاعتزاز بالتاريخ الهجري من صميم الولاء للدين، الاعتزاز بالتاريخ الهجري يعني أن تفتخر بأن بدايتك لا تصنعها التواريخ الميلادية، ولا حسابات الأمم، بل يصنعها حدثٌ غيّر مجرى التاريخ: هجرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.
وليكن هو شعار أيامك وتحديد مناسباتك، ولاتكن ممن يسارع لتوثيق أعراسه واجتماعاته ومواعيده وكلامه بالتاريخ الافرنجي، حدث ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قَالَ: "إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ، لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا" وَعَقَدَ الْإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ.(متفق عليه).
ثم صلوا وسلموا على المبعوث رحمة وهداية للعالمين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم