حقارة الدنيا

خالد بن عبدالله الشايع

2025-05-02 - 1446/11/04 2025-05-14 - 1446/11/16
عناصر الخطبة
1/الدنيا متاع وغرور 2/النبي -صلى الله عليه وسلم- يزهد أصحابه في الدنيا 3/حقارة الدنيا عند الله 4/موقف المؤمن من الدنيا

اقتباس

موقف القرآن من الحياة الدنيا، موقف يجمع بين متطلبات الدنيا ومتطلبات الآخرة، ويلحظ الجانب المادي للإنسان والجانب الروحي، ويوائم بين مقتضى العقل وحاجة العاطفة، موقف لا يقدم الدنيا بإطلاق ويُنكر أمر الآخرة...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

أما بعد:

 

فيا أيها الناس: لقد خلق الله الدنيا، وزينها فتنة للناس؛ (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)[الكهف: 7]، ومع تزيينها أخبر الناس أن الدنيا فتنة وأنها متاع الغرور، وأنها لا تساوي عن الله شيئا، وإنما خلق الخلق ليختبرهم فيها، قال الله -تعالى-: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)[الأنعام: 32]، وقال -تعالى-: (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ)[الرعد: 26].

 

بل نهى الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- والنهي للأمة أن ينظر إلى ما وهب الله بعض المترفين من متاع الدنيا، قال -تعالى-: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[طه: 131].

 

ولقد لخص الله لنا الحياة واختصرها في هذه الآية: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[الحديد: 20].

 

وضرب الله للناس مثلا مما يشاهدونه من متاع الدنيا؛ حتى لا يغتروا بالدنيا ويركنوا إليها، فقال: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا)[الكهف: 45- 46].

 

وكان -صلى الله عليه وسلم- يحذر أصحابه من الافتتان بالدنيا، ويضرب لهم الأمثال باستمرار؛ لأن النفس تغفل وتركن، أخرج مسلم في صحيحه من حديث جابر -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرّ بالسوق داخلاً من بعض العالية، والناس كنفتيه، فمرَّ بجدي أسكَّ ميِّتٍ، فتناوله بأذنه، ثم قال: "أيّكم يحب أن هذا له بدرهم؟"، فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟! قال: "أتحبون أنه لكم؟"، قالوا: والله لو كان حيَّاً لكان عيباً فيه؛ لأنه أسكَّ، فكيف وهو ميِّتٍ؟! فقال: "والله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم".

 

بل أمرهم أن يتقوها ويحذروا منها، كما أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها؛ فينظر كيف تعملون؟ فاتقوا الدنيا واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل، كانت في النساء"(رواه مسلم).

 

ومع تحذيره للصحابة من الدنيا كان -صلى الله عليه وسلم- مطبِّقا ذلك عمليا، فقد أخرج الترمذي في جامعه من حديث عبدالله قال: نام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على حصير فقام وقد أثّر في جنبه، فقلت: يا رسول الله، لو اتخذنا لك وطاء، فقال: "مالي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها".

 

بل كان -صلى الله عليه وسلم- يربط الصحابة بنعيم الجنة، كلما رآهم يميلون للدنيا، فقد أخرج الترمذي في جامعه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها"، وقال: "مناديل سعد في الجنة خير من ذلك".

 

بل صور النبي -صلى الله عليه وسلم- الدنيا بأحقر صورة، فقد أخرج الترمذي في جامعه من حديث مسهر بن سعد قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافراً منها شربة ماء".

 

وأخبر المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أن الدنيا متاع، والمتاع: هو الشيء الذي يستمتع به برهة من الزمن، ثم يتلف أو يستغنى عنه، كما أخرج مسلم في صحيحه من حديث عبدالله بن عمر، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الدنيا كلها متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة".

 

فأنت تلاحظ هنا في الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة أن الدنيا موصوفة بأنها لهو ولعب، وأنها لا تساوي شيئاً عند الله، وهي لا قيمة لها في الآخرة، وهي مذمومة في جميع أحوالها إلا ما كان لله، وأنها كلها متاع، وهي عرض زائل، وزمنها قصير جداً، لا يُمكّن المرء من قضاء حاجاته فيها، والمؤمن لا يركن لها لأنها سجنه، وإنما يُطلق من سجنه ويُفك أسره بموته إذا قدم على ربه، نسأل الله -عز وجل- ألا يحرمنا الجنة.

 

ولو كانت الدنيا تعدل عند الله شيئاً ذا قيمة لوهبها الصالحين من عباده، ولكنه -عز وجل-ادخر لهم الكرامة عنده، كما أخرج الترمذي في جامعه من حديث رافع بن خديج قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أحب الله -عز وجل- عبداً حماه الدنيا، كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء".

 

فإذا علم الموفق أن عباد الله الصالحين الذين يُحبهم قد أكرمهم بحجب الدنيا وزهرتها عنهم، ونزههم عن فتنتها، وأخلصهم له ولعبادته، وادّخر لهم كرامته عنده يوم يلقونه، بقلوب مطمئنة ونفوسٍ راضيةٍ بما قدره ربهم الرحيم بهم -جلّت قدرته وتعالت حكمته-؛ فكيف يأسى بعد ذلك إنسانٌ عاقلٌ على ما يفوته من حطام الدنيا وزخارفها الزائلة عمّا قريب؟!.

 

اللهم وفقنا لهداك، والعمل برضاك، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.

 

الخطبة الثانية:

 

أما بعد:

 

فيا عباد الله: تبايَن موقف الناس من الحياة الدنيا، فمن منكبٍ عليها، ولاهث وراء ملذاتها وشهوتها، ومن منصرف عنها زاهد فيها، لا يقيم لها وزناً، ولا يلقي لها بالاً، وهي عنده لا تعدل جناح بعوضة، ومن مقتصد في شأنها، فآخذ منها بقدر يعينه على أمر دنياه وأخراه، فما هو الموقف الحقيقي الذي ينبغي للعبد أن يقفه من الدنيا؟.

 

المتأمل في حديث القرآن الكريم عن الدنيا يجد أن القرآن قد تضمن عدداً من الآيات تبلغ نحو من خمس وعشرين آية، تحذر العبد من مغريات الدنيا وتصفها بأنها متاع الغرور، فهي ليست أكثر من متاع يستخدمه الإنسان في هذه الحياة، إلى أن يصل إلى دار القرار.

 

وإن الناظر في أحوالنا يجد الانكباب الكلي والغرق في الحياة، وكأننا خالدون فيها، بل كأنه ليس هناك آخرة -والعياذ بالله-، وعلى المسلم أن يعيش فيها باعتدال، ويتخذها وسيلة للآخرة، يزرع فيها ما يجنيه في الآخرة.

 

فالقرآن الكريم يثني على من يجمع بين أمري الدنيا والآخرة، فيقول: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[البقرة: 201]، ويقول على لسان نبي الله موسى -عليه السلام-: (وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ)[الأعراف: 156]، ويمدح -سبحانه- خليله إبراهيم -عليه السلام- فيقول: (وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)[النحل: 122].

 

ويخاطب القرآن عبادة بالاقتصاد في طلب الدنيا، والأخذ منها بقدر، فيقول -سبحانه-: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)[القصص: 77]، ويبين -سبحانه- أن طيبات الدنيا إذا أُخذت باعتدال أمر لا حرج فيه، والحرج كل الحرج إنما يكون بالإفراط في الأخذ من طيباتها، وتجاوز ذلك إلى حدِّ الوقوع في محرماتها، يقول -سبحانه-: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا)[الأعراف: 31]، ويذم -سبحانه- الذين يحرمون ما أحل الله لعباده من الطيبات، وذلك قوله -سبحانه-: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ)[الأعراف: 32].

 

وبما تقدم يتضح لنا موقف القرآن من الحياة الدنيا، موقف يجمع بين متطلبات الدنيا ومتطلبات الآخرة، ويلحظ الجانب المادي للإنسان والجانب الروحي، ويوائم بين مقتضى العقل وحاجة العاطفة، موقف لا يقدم الدنيا بإطلاق ويُنكر أمر الآخرة، ولا يقدم الآخرة بإطلاق ويلعن الدنيا وما فيها من طيبات وخيرات، بل يأخذ من هذه لتلك، ويجعل الدنيا وسيلة للآخرة، ويجعل الآخرة عاقبة لأعمال الدنيا.

 

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[البقرة: 201]

 

المرفقات

حقارة الدنيا.doc

حقارة الدنيا.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات