حقيقة الدنيا وما يجب على المسلم

صلاح بن محمد البدير

2025-11-21 - 1447/05/30 2025-11-22 - 1447/06/01
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/الدنيا دار مصائب وأكدار 2/عظات وعبر ممن غبر 3/رسائل إلى كل عاص 4/الحث على التوبة والإنابة

اقتباس

رَحِمَ اللهُ امرأً جعَل الدنيا مطيةً صالحةً عليها يَبلُغ إلى روضات الجنات، وبها ينجو من الجحيم والدركات، وطُوبى لعبدٍ نظَر لنفسه، واستعد لِرَمْسِهِ، ومهدَّ لمصرعه، ووطأ لمضجعه؛ قبل أن ينفد أجله، وينقطع عمله، وقبل أن تُذْرَى الدموع وتُسبَل، وتُبذَل التوبة ولا تُقبَل...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الذي قرَّبَ مِنْ خلقِه مَنْ تقرَّب إليه ودنا، وأجزَل العطايا لمن كان مطيعًا مُحسنًا، وقَبِلَ توبةَ الخَطَّاءِ وقد أساء وجنى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له؛ شهادةَ عبدٍ قالها مخلصًا ومُصدِّقًا ومُوقِنًا، وأشهد أنَّ نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه أكرمُ الناس مَعْدِنًا، صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابه صلاةً يزول بها عن القلب العَنَا.

 

أما بعد، فيا أيها المسلمون: اتقوا الله، ولا تكونوا ممن فرَّط وأساء، ولا تَشَبَّهُوا بالأشقياء التعساء؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102].

 

أيها المسلمون: إنكم في دارِ الأكدارِ والأنكادِ والنَّفَادِ؛ أحزانُها لافحةٌ، ومصائبُها طافحةٌ، وحوادثُها فادحةٌ، ومصاعبُها رامحةٌ. سكناتها محذورة، وعهودها منقوضة، وحبالها أنكاث.

 

دارٌ تلمَعُ لَمْعَ السراب، وتمرُّ مَرَّ السحابِ، وتُوهِمُ إيهامَ رقراقِ السرابِ؛ زوالها مَحْسُومٌ، ورخاؤها لا يدوم، وعناؤها لا يرتفع، وبلاؤها لا ينقطع، وزهرتها إلى ذَوَاء، وحيُّها إلى فناء، وأهلها سَفْرٌ نازلونَ، وظَعْنٌ شَاخِصُون؛ وما هم فيها إلا أغراضٌ مستهدَفةٌ، ترميهم بسهامها، وتُغَصِّصُهم بِحِمَامِها؛ وكأَنْ قد انقلبَتْ بهم الحالُ، وتنادَوْا بالارتحال، وأصبحَتْ مساكنُهم أجداثًا، وأموالهم ميراثًا.

أَلَمْ تَرَهَا تُلهِي بَنِيهَا عَشِيَّةً *** وتترك في الصبح المجالس نُوَّحَا؟

 

دارٌ لذاتُها غرورٌ، ومواعيدُها زورٌ؛ (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[آلِ عِمْرَانَ: 185]، (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)[الْأَنْعَامِ: 32].

 

وما الدنيا الدنية غير ظل يزول، وطيف أحلام يزور، عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "حقٌّ على الله ألَّا يرتفعَ شيءٌ من الدنيا إلا وضعه"(أخرجه البخاري).

 

دار تغيِّرها الآفات، وتَنُوبُهَا الفجيعاتُ، وتكدِّرها الرزايا والبلياتُ؛ قد سَلَّتِ المنايا فيها سيوفَها، ونثرَتْ بينَ الأنامِ حُتُوفَها، ومَنْ لم يَمُتْ عاجلًا مات آجلًا؛ (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)[الْأَنْبِيَاءِ: 34-35].

أينَ مَنْ كان قبلَنا أينَ أينَ؟ *** مِنْ رجالٍ كانوا جَمالًا وزَيْنَا؟

كَمْ رأينَا مِنْ مَيِّتٍ كان حيًّا *** ووَشِيكًا يُرَى بنا ما رَأَيْنَا

 

أين مَنْ كان لنا صديقًا مُؤَانِسًا؟ أين من كان لنا رفيقًا مُجَالِسًا؟ تخطفتهم أوتارُ الحنايا، وأوقعتهم سهامُ المنايا.

 

فيا من غَرِق في المنكَراتِ والغفلاتِ، هلَّا اعتبرتَ بمدافنِ الآباءِ والأمهاتِ؟ هل اتعظتَ بمن مضى من الإخوان والأخوات؟ قِفْ بالقبور وانظر كم حوَتْ من الأموات؛ دَرَجُوا ولستَ بخالد مِنْ بعدهم، وَأَنَّى لك الخلود في هذه الحياة؟!

 

فاستعِدُّوا قبلَ هجوم الموت ونزوله، وخُذُوا زادكم قبلَ حضور الفَوْت وحلوله؛ ولا تُبْطِرَنَّكُم الدنيا الفانية، ولا تُشْغِلَنَّكُم عن الدار الباقية، ولا تَخْدَعَنَّكُم زخارفُها، ولا تُذْهِلَنَّكُم مُتَعُهَا، ولا تُضِلَّنَّكُم فتنُها، ولا تُغْوِيَنَّكُم شياطينُها وغُوَاتُهَا.

 

أيها العاصي: تأمل في حالك، وتفكَّرْ في مآلك، وتذكَّرْ إذا ذهَب زمانُكَ، وتهدمَتْ أركانُكَ، ونُشِر ديوانُكَ، وخَفَّ ميزانُكَ.

أَتَفْرَحُ بِالذُّنُوبِ وَبِالْمَعَاصِي *** وَتَنْسَى يَوْمَ يُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي

وَتَأْتِي الذَّنْبَ عَمْدًا لَا تُبَالِي *** وَرَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْكَ حَاصِي

 

أي شيء غرك وخدعك وأغواك؟ وأي شيء جرَّأك على معصية مولاكَ؟! وأيُّ شيء أرداك وأهواك حتى قابلت الجبار بما لا يليق، وارتكبت الحرام واقترفت الآثام؟!

 

يا مشغولًا باللهو والعصيان:

إِلَى كَمْ وَكَمْ تُخَالِفُ مَوْلَاكَ وَتُجَاهِرْ *** إِلَى كَمْ وَكَمْ تُضَيِّعُ الصَّلَاةَ وَتُكَابِرْ

إِلَى كَمْ وَكَمْ تَأْتِي الْمَعَاصِيَ وَتُفَاخِرْ

 

يا مشغولًا بشهواته، يا منهمكًا في لذاته، يا مضيعًا ما لا يرجع من أوقاته، يا من لا يتقي مولاه في خلواته؛ إلى كم تُرخِي على السوءِ الستورَ؟ إلى كم تُغلِق دون المنكَراتِ الأبوابَ والدُّورَ؟ يا من خلا بالمعاصي، خَفْ يومًا تشيب فيه النواصي.

يَا كَاتِمَ الذَّنْبِ أَمَا تَسْتَحِي *** وَاللَّهُ في الْخَلْوَةِ رَائِيكَ

غَرَّكَ مِنْ رَبِّكَ إِمْهَالُهُ *** وَسِتْرُهُ طُولَ مَسَاوِيكَ

يَا مَنْ غَدَا في الْغَيِّ وَالتِّيهِ *** وَغَرَّهُ طُولُ تَمَادِيهْ

أَمْلَى لَكَ اللَّهُ فَبَارَزْتَهُ *** وَلَمْ تَخَفْ غِبَّ مَعَاصِيهْ

 

فرحم اللهُ امرأً جعَل الدنيا مطيةً صالحةً عليها يَبلُغ إلى روضات الجنات، وبها ينجو من الجحيم والدركات، وطُوبى لعبدٍ نظَر لنفسه، واستعد لِرَمْسِهِ، ومهدَّ لمصرعه، ووطأ لمضجعه؛ قبل أن ينفد أجله، وينقطع عمله، وقبل أن تُذْرَى الدموع وتُسبَل، وتُبذَل التوبة ولا تُقبَل، وقبل أن يُصبِح في بطن موحشة غبراء، مُدلَهِمَّة ظلماء؛ لا يستطيع أن يزيد في حسنة، ولا ينقص من سيئة.

 

أقول ما تسمعون وأستغفر الله؛ فاستغفروه، ويا فوز المستغفرين.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله آوى مَنْ إلى لُطفه أوى، وأشهدُ أَنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له داوى بإنعامه من يئس من أسقامه الدَّوَا، وأشهد أنَّ نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه مَنِ اتبعَه كان على الهدى، ومن عصاه كان في الغواية والردى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاةً تبقى وسلامًا يترى.

 

أما بعد، فيا أيها المسلمون: اتقوا الله وراقِبوه وأطيعوه، ولا تعصوه؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التَّوْبَةِ: 119].

 

أيها المسلمون: أسرِعوا بالأَوبة، وتعجَّلوا بالتوبة؛ فربُّكم غفورٌ توَّابٌ، يغفر ذنوبكم مرة بعد أخرى، وكلما تكررت ذنوبُهم وتوبتُهم تكررت مغفرتُه لهم، قال -جل في علاه-: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ)[النِّسَاءِ: 27]، وقال -جلَّ وعزَّ-: (أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[الْمَائِدَةِ: 74]، وقال -جلَّ وعزَّ-: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)[الْفُرْقَانِ: 70]، وقال -جلَّ وعلا-: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[الزُّمَرِ: 53]، وقال -جلَّ وعزَّ-: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)[الشُّورَى: 25].

 

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيدِه لو لم تُذنِبوا لَذَهَبَ اللهُ بكم، ولَجَاءَ بقومٍ يُذنِبون فيستغفرون اللهَ فيغفر لهم"(أخرجه مسلم)، وعن أنس -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "قال الله -تبارك وتعالى-: يا بن آدم إنكَ ما دعوتَني ورجوتَني غفرتُ لكَ على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم لو بلغَتْ ذُنُوبُكَ عنانَ السماء ثم استغفرتَني غفرتُ لكَ ولا أبالي، يا بن آدمَ إنكَ لو أتيتَني بِقُرَاب الأرض خطايا، ثم لقيتَني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بِقُرَابِها مغفرة"(أخرجه الترمذي).

 

وهذا من كرمه -تعالى- وجوده ولطفه ورحمته بخلقه مع ذنوبهم وإسرافهم، يدعوهم إلى التوبة والمغفرة، ويصفح عن إجرامهم؛ فكلُّ مَنْ تاب إليه تابَ عليه، فامحوا سوابقَ العصيانِ بِلَوَاحِقِ الإحسانِ، وسارِعوا بالتوبة قبل فوات الأوان، ولا تؤخروا التوبة؛ فمَنْ أخَّر التوبةَ حتى عايَن المَلَكَ، وحشرجتِ الروحُ في الحَلْقِ، وضاقَ بها الصدرُ، وبلغت الحلقومَ، وغرغرتِ النفسُ صاعدةً في الغلاصم؛ فلا توبةَ متقبلة حينئذ، ولات حين مَنَاص، جعلني الله وإيَّاكم ممن تاب وأناب.

 

وصلُّوا وسلِّمُوا على أحمد الهادي شفيع الورى طُرًّا؛ فمن صلى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه بها عَشْرًا.

 

اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ على نبينا وسيدنا محمد، وارض اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، ذَوِي الشرف الجلي، والقَدْر العلي: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر الآل والأصحاب، وعنا معهم يا كريم يا وهاب.

 

اللهمَّ أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كيد الكائدين، ومكر الماكرين، وحقد الحاقدين، وحسد الحاسدين يا ربَّ العالمينَ.

 

رب اجعل هذا البلد آمنًا، اللهمَّ احفظ جنودنا المرابطين على حدودنا وثغورنا، وتقبل موتاهم في الشهداء، ومُنَّ على جرحاهم بالشفاء، ورُدَّهم إلى أهلهم سالمينَ يا ربَّ العالمينَ.

 

اللهمَّ وَفِّقْ إمامَنا ووليَّ أمرنا خادم الحرمين الشريفين لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهمَّ وفِّقْه ووليَّ عهدِه وسائرَ ولاةِ المسلمين لِمَا فيه عزُّ الإسلام وصلاح المسلمين يا ربَّ العالمينَ.

 

اللهمَّ واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، وارحَمْ موتانا يا ربَّ العالمينَ.

 

اللهمَّ انصر إخواننا في فلسطين، على الطغاةِ المعتدينَ، والظلمةِ المحتلينَ، اللهمَّ طهِّر المسجدَ الأقصى من رجس اليهود الغاصبين، واحفظ أهلَنا في فلسطين، واجبر كسرهم، وعجِّلْ نصرَهم، وأَقِلْ عثرتهم، واكشف كربتهم، وفك أسراهم، واشف مرضاهم، وتقبَّلْ موتاهم في الشهداء يا رب العالمين.

 

اللهمَّ أغثنا، اللهمَّ أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.

 

اللهمَّ اجعل دعاءنا مسموعًا، ونداءنا مرفوعًا، يا كريمُ، يا عظيمُ، يا رحيمُ.

 

المرفقات

حقيقة الدنيا وما يجب على المسلم.doc

حقيقة الدنيا وما يجب على المسلم.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات