اقتباس
ومن علاجات الغفلة: أن تعلم وتستشعر أن الله -تعالى- يراقبك وينظر إليك ولا يغفل عنك طرفة عين، ثم يحاسبك على أفعالك، يقول أبو عبد الرحمن السلمي: "ومن عيوبها -أي النفس-: الغفلة، ومداواتها أن يعلم أنه...
كثيرًا ما تعجبت من حال نفسي ومن حال الناس؛ فإننا جميعًا نعلم أننا ميتون ومقبورون ومحاسبون ومجموعون ليوم عظيم وموقوفون للحساب والسؤال عن الصغير والكبير ثم إلى جنة أو نار... إننا جميعًا على علم بالموت وسكراته وبالقبر ووحشته وبيوم القيامة وأهواله...
ومع هذا، ورغم هذا، ومع يقيننا وإيماننا وتأكدنا من كل هذا إلا أن فينا من يحيا حياة من لا يخشى موتًا ولا حسابًا ولا نشورًا!.. رغم هذا لكننا نضحك ملء أفواهنا، ونأكل ملء بطوننا، ونلهو ونلعب ونمزح ونقصِّر في واجبات ديننا!!.. رغم تمام علمنا بهذا لكننا نؤمل لسنين قامة ونخطط لما يحتاج أضعاف أعمارنا لتحقيقه!!.. فكيف ولماذا؟!
وبعد قليلِ تفكرٌ وجدت تفسير ذلك، وجدته في كلمة واحدة؛ إنها "الغفلة"، داء الأدواء، مرض عضال يصيب الخاصة والعامة، يفوت على المرء فرص الطاعات والقربات، ويوقعه في المعاصي المهلكات... نعم؛ إنني لا أجد لحالنا هذا تفسيرًا إلا "الغفلة"؛ فإننا مؤمنون -والحمد لله-، وموقنون بالبعث والحساب والجزاء بالجنة أو النار -ولا نشك في ذلك-، لكن أحوالنا تكذِّب هذا الإيمان وذاك اليقين، فلا أجد سببًا إلا الغفلة؛ فهي تجعل العالِم يحيا حياته كالجاهل، وتجعل الشيخ المسن في حرصه كالشاب الغرير سواء بسواء! وفي الحديث الصحيح: "الشيخ يكبر، ويضعف جسمه، وقلبه شاب على حب اثنين: طول العمر، والمال"(رواه الشيخان، وأحمد واللفظ له).
فتُرى كيف تصيبنا هذه الغفلة مع تمام علمنا وإيماننا ويقيننا؟... أقول: إنه التوسع في الدنيا والتقلب في ملذاتها؛ فعن عمرو بن عوف أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها... فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة، فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- انصرف، فتعرضوا له، فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين رآهم، ثم قال: "أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين؟"، فقالوا: أجل يا رسول الله، قال: "فأبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم، كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم"(متفق عليه).
ومرة أخرى يحذِّر -صلى الله عليه وسلم- من نفس الأمر فيقول: "وإني قد أعطيت خزائن مفاتيح الأرض، وإني والله ما أخاف بعدي أن تشركوا، ولكن أخاف أن تنافسوا فيها"(متفق عليه).
***
ودعونا الآن لنكون أكثر تحديدًا؛ فنسأل: ومن هو الغافل؟
لقد أجاب القرآن الكريم؛ أنه من لا يذكر الله كثيرًا: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ)[الأعراف: 205].
وأجاب مرة أخرى أن الغافل هو: من يعمل لدنياه ويترك العمل لآخرته، الخبير بأمور الدنيا، الكليل العاجز الجهول العيي بأمر الآخرة: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)[الروم: 7]، فحين ترى المساجد خاوية والمقاهي مكتظة فاعلم أن الناس غافلون... وحين ترى حلقات القرآن فيها النفر القليل، وشواطئ البحار عليها الجمع الغفير فاعلم أن الناس غافلون... وحين ترى الجميع مكبًا على أشغاله منهكًا من أحماله ثم لا يأتي إلى مولاه يشتكي إليه في صلاة الليل فاعلم أن الناس غافلون... (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ)[الأنبياء: 1-3].
***
وللغافلين عقوبات وخيمة وآثار سيئة؛ فمن عقوباتهم:
الحسرة يوم القيامة: فعن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما جلس قوم مجلسًا لم يذكروا الله فيه، ولم يصلوا على نبيهم، إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم"، ومعنى قوله: ترة: حسرة وندامة(رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من قوم جلسوا مجلسًا لم يذكروا الله فيه، إلا رأوه حسرة يوم القيامة"(رواه أحمد، وحسنه الألباني).
ومنها: أن الغفلة أثناء الدعاء تحرمه من الإجابة: فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه"(رواه الترمذي، وحسنه الألباني).
ومن غفل عن ذكر ربه عند دخول بيته بات معه الشيطان؛ فعن جابر بن عبد الله أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا دخل الرجل بيته، فذكر الله عند دخوله وعند طعامه، قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله، قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه، قال: أدركتم المبيت والعشاء"(رواه مسلم).
وممن اشتدت غفلتهم من لا جزاء لهم إلا النار -والعياذ بالله-: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[يونس: 7-8].
ومن العقوبات التي نحياها في عصرنا هذا: الذلة والهوان والاستضعاف؛ فبينما يرى المسلمون إخوانهم يبادون ويجوَّعون ويمتهنون، إذا بالأمة تلهو وتمرح وتلعب وتصخب! كأنهم لا يرون ولا يسمعون! وكأنهم لا يدركون أن الدور آتيهم لا محالة!
***
والسؤال العملي المهم يقول: كيف ننجو من الغفلة ونبعدها عن قلوبنا.
يجيبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائلًا: "من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين"(رواه أبو داود، وصححه الألباني).
ومن علاجات الغفلة: أن تعلم وتستشعر أن الله -تعالى- يراقبك وينظر إليك ولا يغفل عنك طرفة عين، ثم يحاسبك على أفعالك، يقول أبو عبد الرحمن السلمي: "ومن عيوبها (أي النفس): الغفلة، ومداواتها أن يعلم أنه ليس بمغفول عنه وأن الله -تعالى- يقول: (وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)[هود: 123]، ويعلم أنه محاسب على الخطرة والهمة، ومن تحقق هذا فراقب أوقاته وراعى أحواله فيزول عنه بذلك عيب الغفلة"( عيوب النفس، للسلمي).
فحذار حذار أن نفيق بعد فوات الأوان؛ فإن من الناس من لا يفيق من غفلته إلا ساعة احتضاره: (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)[ق: 21-22]، ومنهم من لا يفيق إلا وهو يعذب في جهنم -والعياذ بالله-: (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ)[فاطر: 37].
يا غافلاً عن ساعة مقرونة *** بنوادب وصوارخ وثواكل
قدِّم لنفسك قبل موتك صالحًا *** فالموت أسرع من نزول الهاطل
حتّام سمعُك لا يعي لمذكر *** وصميم قلبك لا يلين لعاذل
تبغي من الدنيا الكثيرَ وإنما *** يكفيك من دنياك زاد الراحل
آي الكتاب تهزُّ سمعك دائمًا *** وتصم عنها معرضًا كالغافل
كم للإله عليك من نعم ترى *** ومواهب وفوائد وفواضل
كم قد أنالك من موانح طوله *** فاسأله عفوًا فهو غوث السائل
وحول هذا الداء الفتاك؛ داء الغفلة قامت محاور هذا الملف العلمي، تعرِّف الغفلة وتوضح ومظاهرها، وتسرد صفات الغافلين، وتحذر من عواقب الغفلة، ثم تُقدِّم علاجًا لهذا المرض العضال.. بعد ذلك تعرج على أهل اليقظة فتذكر صفاتهم وتحكي من قصصهم لتوقظ بسيرتهم سبات الغافلين وتغري بالاقتداء بهم الخاملين البطالين... والله من وراء القصد عليم.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم