اقتباس
ومن فوائد معرفة المرء قدر نفسه: ألا يجعل من نفسه فتنة للناس: فمن أدرك موقعه في دنياه؛ كأن يكون أبًا لأسرة، أو أن يكون مديرًا لعمل، أو إمامًا في الدين، أو رمزًا من الرموز... صان نفسه عن التصابي وعن مواطن الشبهات، ولم يرض لنفسه أن يكون فتنة لمن يقتدون به فيحمل أوزارهم...
من أنت؟ قل لي: من أنت؟... إنه لا يعرفك حق المعرفة إلا الله -عز وجل-، ثم -ربما- أنت.
أما البشر من حولك فكل منهم يراك من زاويته، ويحكم عليك من منظوره؛ فمنهم من يراك بخيلًا مقطِّرًا، ومنهم من يراك سفيهًا مبذرًا!... منهم من يراك ناسكًا صالحًا، ومنهم من يراك فاسقًا فاجرًا!... منهم من يراك جسورًا مغامرًا، ومنهم من يراك جبانًا فرارًا... منهم من يراك لينًا متواضعًا، ومنهم من يراك غشومًا متجبرًا!... منهم من يرفعك فوق النجوم، ومنهم من يضعك تحت الثرى!...
لكن من رحمة الله -عز وجل- أنه لا يؤاخذك أبدًا بظنونهم ولا بتخرصاتهم وتخميناتهم، وإنما يؤاخذك بما يعلم -سبحانه وتعالى- منك، أليس الله -تعالى- هو القائل: (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)[الملك: 13-14]، وهو القائل: (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى)[النجم: 32].
فالله -تعالى- وحده هو من يعلم: من أنت؟ ومن تكون؟ وما هو قدْرك وقُدُراتك؟... ثم بعد الله -تعالى- المفترض أن تكون أنت عالمًا بنفسك؛ عالمًا بذنوبها وعيوبها مهما زكَّاك الناس، عالمًا بمميزاتها وإمكانياتها مهما حقرك الناس، عالمًا بما تُحسن وبما تجهل مهما ظن بك الناس... و"رحم الله امرأ عرف قدر نفسه".
لكن المشكلة كل المشكلة أن تجهل أنت؛ من تكون أنت!!... أن تغتر بمدح الناس وثنائهم عليك فتغفل عما توقن به من عيوب نفسك وخباياها، ألا تدرك قدْرك ومقامك وقُدُراتك فتحتقر نفسك وتبخسها حقها، يقول أبو علي الوراق: "من جهل قدر نفسه عدل على نفسه وعدل على غيره، وآفة الناس من قلة معرفتهم بأنفسهم"(حلية الأولياء، لأبي نعيم)، نعم، نعم؛ "آفة الناس من قلة معرفتهم بأنفسهم".
***
والعكس بالعكس، والضد بالضد؛ فإن لمعرفة الإنسان قدْر نفسك فوائد جمة، فمنها:
أولًا: ألا يرفعها فوق مقامها، ولا يفتخر بها: قال عبد الله بن المبارك: "إذا عرف الرجل قدر نفسه يصير عند نفسه أذل من الكلب"(حلية الأولياء، لأبي نعيم)، ولقد "مر المهلب بن أبي صفرة على مالك بن دينار وهو يتبختر في مشيته فقال له مالك: "أما علمت أن هذه المشية تكره إلا بين الصفين؟"، فقال له المهلب: أما تعرفني؟ فقال له: "أعرفك أحسن المعرفة"، قال: وما تعرف عني؟ قال: "أما أولك فنطفة مذرة، وأما آخرك فجيفة قذرة، وأنت بينهما تحمل العذرة"، قال: فقال المهلب: الآن عرفتني حق المعرفة"(حلية الأولياء، لأبي نعيم).
بل عن بسر بن جحاش القرشي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بزق يومًا في كفه، فوضع عليها أصبعه، ثم قال: "قال الله: ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه، حتى إذا سويتك وعدلتك، مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد..."(رواه أحمد، وصححه الألباني).
و"عرض على بعض الأمراء مملوك بألف درهم، فلما أحضر الثمن استكثره فبدا له في شرائه فرد الثمن إلى الخزانة، فقال العبد: يا مولاي اشترني فإن فيَّ بكل درهم من هذه الدراهم خصلة تساوى أكثر من ألف درهم، فقال: وما هي؟ فقال: أقلها وأدناها ما لو اشتريتني وقدمتني على جميع مماليكك لا أغلظ في نفسي وأعلم أنى عبد، فاشتراه"(الرسالة القشيرية).
ثانيًا: أن يتصدر فيما يحسن: فينبُغ ويترقى فيه، ويؤجر ولا يأثم؛ وبالمثال يتضح المقال: فمن تصدر لتفسير القرآن الكريم أو شرح الحديث -مثلًا-، فإن كان مؤهلًا لذلك فأحسن في تفسيره وفي شروحه فهو مأجور... فإن لم يكن مؤهلًا لذلك وأعطى نفسه فوق قدرها، فهو مأزور مخذول -والعياذ بالله-؛ فقد عدَّ الله -تعالى- من أعظم الآثام: (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)[الأعراف: 33]، يقول ابن عثيمين -رحمه الله-: "والواجب على الإنسان أن يعرف قدر نفسه، وألا يتكلم.. إلا بما يعلم من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وكلام الأئمة"(شرح رياض الصالحين).
ثالثًا: راحة القلب والروح: فمن أدرك قدر نفسه وقُدُراتها لم يقحمها فيما لا تستطيع ولا فيما لا تقدر عليه فيستريح من العناء والذل والإهانة... كذلك فإن من عرف قدر نفسه ربأ بها عن الانشغال بالتوافه والسفاسف فاستراح من لوم نفسه وتأنيبها... لذا قال عمر بن عبد العزيز: "رحم الله من عرف قدر نفسه فاستراح"(فيض القدير، للمناوي).
رابعًا: صيانة النفس عن المعاصي والذنوب: فمن عرف أنه على الله -عز وجل- كريم؛ فقد خلق الله -عز وجل- أباه آدم بيديه، وأسجد له الملائكة، وسخر له ما في السموات والأرض، وجعله مؤهلًا لمعيته ولأن يذكره ويعبده ويتقرب منه... من علم هذا لم تهن عليه نفسه أن يذلها بذل الذنوب والمعاصي.
خامسًا: ألا يكون فتنة للناس: فمن أدرك موقعه في دنياه؛ كأن يكون أبًا لأسرة، أو أن يكون مديرًا لعمل، أو إمامًا في الدين، أو رمزًا من الرموز... فهو قدوة لهم؛ إن استقام استقاموا وإن اعوج اعوجوا، من عرف مكانته ومنزلته صان نفسه عن التصابي وعن مواطن الشبهات، ولم يرض لنفسه أن يكون فتنة لمن يقتدون به فيحمل أوزارهم:
مشى الطاووس يومًا باعوجاج *** فقلد شكل مشيته بنوه
فقال: علام تختالون؟ قالوا: *** بدأت به ونحن مقلدوه
فخالف سيرك المعوج واعدل *** فإنا إن عدلت معدلوه
أما تدري أبانا كل فرع *** يجاري بالخطى من أدبوه
وينشأ ناشئ الفتيان منا *** على ما كان عوده أبوه
سادسًا: أن يترك ما لا يعنيه: فما هو لي، ولا شأن لي به، ولا هو من قدري ولا منزلتي؛ فكيف أنشغل به؟! وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"(رواه الترمذي، وصححه الألباني).
سابعًا: العفة والتعفف: من عرف قدر نفسه لم يذلها بسؤال الناس، وخاف أن تأتي مسألته نكتة سوداء في وجهه يوم القيامة، وهذا أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه؛ فعن حكيم بن حزام -رضي الله عنه- قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني ثم قال: "يا حكيم، إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، كالذي يأكل ولا يشبع، اليد العليا خير من اليد السفلى"، قال حكيم: فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدا بعدك شيئًا حتى أفارق الدنيا(متفق عليه).
ثامنًا: ألا يتحلى بما ليس فيه: فإن كان غنيًا أظهر أثر نعمة الله عليه، وإن كان فقيرًا قدر لنفسه قدرها، فعن عمر بن عبد العزيز أنه بلغه أن ابنه اشترى خاتمًا بألف درهم، فكتب إليه: "إنه بلغني أنك اشتريت خاتمًا بألف درهم، فبعه وأطعم منه ألف جائع، واشتر خاتمًا من حديد بدرهم، واكتب عليه: "رحم الله امرأ عرف قدر نفسه"(تفسير القرطبي)، وعن أسماء، أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن لي ضرة، فهل علي جناح إن تشبعت من زوجي غير الذي يعطيني؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور"(متفق عليه).
تاسعًا: التأدب مع الكبراء: فلا يُسوِّي نفسه بهم، بل يدرك حجمه بجانب حجمهم، ويقدر لهم قدرهم، ويقر بسبقهم وبتتلمذ علماء زماننا عليهم، فلا يُسقِط عالمًا نفع الله به الإسلام لزلة أو هفوة أو أمر اجتهد فيه فأخطأ فهو عليه مأجور، ولا يتجرأ على مقامهم، ومَنْ مِنَ الفضلاء بلا خطأ؟! يقول سعيد بن المسيب: "ليس من شريف ولا عالم ولا ذي سلطان إلا وفيه عيب، لا بد، ولكن من الناس من لا تذكر عيوبه، من كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله"(الكفاية في علم الرواية، للخطيب البغدادي)، ويقول الذهبي في "ميزان الاعتدال": "ما كل أحد فيه بدعة أو له هفوة أو ذنوب يُقدَح فيه بما يوهن حديثه، ولا من شرط الثقة أن يكون معصومًا من الخطايا والخطأ".
***
والآن، ورغم أننا قد تناولنا جوانب وصورًا عديدة من معاني "معرفة الإنسان لنفسه"، إلا أننا نقر ونعترف أننا ما وفينا الموضوع حقه، بل ما أتينا بعشر معشار ما يستحق من بسط وبيان، لذلك فقد جمعنا هاهنا من خطب الخطباء في العديد من تلك الجوانب؛ جوانب "معرفة الإنسان لقدر نفسه"، فلعلها توفي الموضوع حقه.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم