عناصر الخطبة
1/إسلام أنس بن النضر 2/من مواقف أنس بن النضر 3/ثبات أنس واستشهاده 4/الحث على الثبات على الديناقتباس
فأقبل أنس إلى الكفار ولم يتراجع قيد أنملة، وانطلق إليهم يُقاتلهم، والمسلمون يتراجعون، فجعل يعاتبهم على تراجعهم، فقالوا له: "قُتل النبي -صلى الله عليه وسلم-"، فقال: "فموتوا على ما مات عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-"، فأقبل -رضي الله عنه- وتركهم وأخذ سيفه...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله الذي لم يزل موصوفا بصفات الكمال، ولا يزال دائما مستمرا باقيا سرمديا بلا انقضاء ولا زوال، يعلم دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، العليِّ العظيمِ، الذي خلق كل شيء فقدّره تقديرا، ورفع السماوات بغير عمد وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، صلى الله عليه وعلى سائر إخوانه من النبيين والمرسلين، ورضي الله عن جميع أصحابه، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدّين.
أما بعد: فاتقوا الله -يا أمة الإسلام-، واعلموا أنّ أنسَ بنَ النضر الصحابي الجليل -رضي الله عنه- كان من أوائل من أسلم من أهل المدينة، وذلك حينما لما هاجر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى المدينة، وشعّ نور الإسلام بين أهلها، وعلا صوت القرآن في نواحيها، فدخل الإيمان في قلبه، وبلغ درجةً عاليةً في اليقين بالله، والثقة به، والتوكل عليه، وحسنِ الظن به -جَلَّ وَعَلَا-.
ومن عجائب مواقفه: أنه حصل خلاف بين عمته الرُّبَيّع وبين جارية، فغضبت الرُّبَيّع فضربت وجه الجارية، فكسرت ثنيّتها، أي: سنها، فأقبل أهلُها إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وطالبوا بالقَصاص، فأمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالقصاص، كما قال -جَلَّ وَعَلَا-: (وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ)[المائدة: 45].
فعلم بذلك أخوها أنس بن النضر، فأقبل إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: "يا رسول، أتُكسر ثنيّة الرُّبَيّع؟ لا -والله- لا تكسر ثنيتها"، لم يقل ذلك اعتراضًا على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، حاشاه، وإنما قال ذلك ثقةً بالله ويقينًا به أنّه سيأخذ بقلوبهم ويليّنها، فيتنازلوا عن القصاص ويرضوا بالدّية، فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مستغربًا هذا: "يا أنس، كتاب الله القصاص"، أي هذا شرعُ الله، فلم يخيّب الله ظنّه ورجاءه، فألان قلوبهم وعفوا ولم يطالبوا بالقصاص، فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره".
والمعنى: إن من عباد الله من لو قال: يا رب، أقسم عليك أن تغيثنا؛ لأبرّ الله قسمه وأجابه، ولم يجعله يحنث في يمينه؛ لأن قلبه قد امتلأ إيمانًا بالله، وحبًّا له، ويقينًا به، وثقة به، وتوكلاً عليه.
ومن عجائب مواقفه كذلك: أنه لما انتهت غزوة بدر، رجع المسلمون من المعركة، وكان المشاركون في المعركة قلةً من الصحابة؛ لأنّ أغلبهم لم يعلموا أن هناك قتال، ومنهم أنس -رضي الله عنه-، فلما رجع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ضاق صدره وتكدّر خاطره، وقال: "أوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- غُيِّبْتُ عَنْهُ، وَإِنْ أَرَانِيَ اللهُ مَشْهَدًا فِيمَا بَعْدُ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، لَيَرَانِي اللهُ مَا أَصْنَعُ"، وهاب أن يقول كلمة غيرها؛ لأنه خشي ألا يوفي بعهده.
لقد أقسم بالله وعاهده أنْ يرى الله عظيم ما يصنع من القتال والجهاد، والثبات والصبر، وقد صدق ما عاهد الله عليه، فلما كانت معركة أحد دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- للجهاد، فأقبل أنس بن النضر فرحًا مسرورًا لنصرةِ النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وليُوفِي ما عاهد الله عليه، فأقبل ومعه السلاح، فلما بدأت المعركة انطلق كالسهم يذود عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وعن دين الله، فقتل من قتل من الكفار، ولقد قدّر الله -جَلَّ وَعَلَا- أن تكون الهزيمةُ على الصحابة -رضي الله عنهم-، فقُتل منهم سبعون، وأشيع في الناس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد مات.
فأقبل أنس إلى الكفار ولم يتراجع قيد أنملة، وانطلق إليهم يُقاتلهم، والمسلمون يتراجعون، فجعل يعاتبهم على تراجعهم، فقالوا له: "قُتل النبي -صلى الله عليه وسلم-"، فقال: "فموتوا على ما مات عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-"، فأقبل -رضي الله عنه- وتركهم وأخذ سيفه، وجعل يقول وهو متوجه إلى الكفار: "اللهم إني أبرأ إليك مما فعل هؤلاء -يعني المشركين-، وأعتذر إليك مما فعل هؤلاء -يعني أصحابه-"؛ حيث تراجعوا ولم يثبتوا في ميدان المعركة، فقابله سعدُ بن معاذ -رضي الله عنه- وهو متجه إلى المدينة، فقال: إلى أين يا أبا عمرو؟ ثم قال: "وَاهًا لِرِيحِ الْجَنَّةِ، أَجِدُهُ دُونَ أُحُدٍ"، فقد أراه الله -جَلَّ وَعَلَا- آية وكرامة، فجعَله يشمّ ريح الجنة وهو في الدنيا.
فذهب -رضي الله عنه- إلى الكفار وجعل يقاتلهم، حتى تكالبوا عليه، وكلّ واحد منهم يضربه ويرميه، فهذا يضرب بالسيف، وهذا يطعنه بالرمح، وهذا يصوّب عليه السهم، حتى وُجد في جسده بضعٌ وثمانون من بين ضربة وطعنة ورمية، فأنزل الله -جَلَّ وَعَلَا- فيه وفي بقية أصحابه: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)[الأحزاب: 23].
اللهم ثبتنا على دينك حتى نلقاك، إنك سميع قريب مجيب.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوثِ رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
معاشر المسلمين: إنّ من حكمة الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يبتليَ المسلمين بفتن ومحن؛ ليرى الصابر وغير الصابر، والثابت وغير الثابت، ومن ينصر دينه ومن يخذلُه، ومن أعان المسلمين ووقف معهم، ومن كان ضدّهم وفي صفّ أعدائه، قال -تعالى-: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)[العنكبوت: 2 - 3].
فيا عباد الله: اثبتوا على دين الله ولا تبدّلوا، كما قال الله -جَلَّ وَعَلَا- عن الصحابة الكرام: (وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)[الأحزاب: 23].
أيتها المرأة: اثبتي على الدين وعلى حجابك، ولا تتراجعي وتضْعُفي وتنتكسي، فما كان حرام في السابق فهو حرام؛ فإنّ شرع الله لا يتغيّر ولا يتبدّل.
أيها الشبابّ: اثبتوا على الدين؛ فإنه -والله- الحق، اثبتوا حتى تلحقوا بالرفيق الأعلى؛ (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)[آل عمران: 8].
عباد الله: أكثروا من الصلاة والسلام على نبي الهدى، وإمام الورى، فقد أمركم بذلك -جل وعلا- فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، والربا والزنا، والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، وخُصَّ منهم الحاضرين والحاضرات، اللهم فرِّج همومهم، واقض ديونهم، وأنزل عليهم رحمتك ورضوانك، يا رب العالمين.
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النحل: 90]، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم