عظات وعبر من انقضاء الأجل

عبدالمحسن بن محمد القاسم

2025-11-07 - 1447/05/16 2025-11-08 - 1447/05/17
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/وجوب تحقيق أركان الإيمان الستة 2/مشاهد من احتضار الإنسان 3/بيان بعض ما يحدث للإنسان في قبره 4/توحيد الله تعالى أعظم سبب للنجاة من عذاب القبر 5/الحث على تقوى الله والعمل الصالح

اقتباس

لا بُدَّ للإسلام من إيمانٍ يُحقِّقه ويُصدِّقه، ومن أركان الإيمانِ الستةِ: الإيمانُ باليومِ الآخِر، ومنه الإيمانُ بكلِّ ما أخبَر به النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ممَّا يكون بعدَ الموتِ؛ من فتنةِ القبرِ، وعذابِه، ونعيمِه، إلى البعثِ والنشورِ...

الخطبة الأولى:

 

إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا ومِنْ سيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدِه اللهُ فلا مُضلَّ له، ومَنْ يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أَنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

 

أمَّا بعدُ: فاتقوا اللهَ -عبادَ اللهِ- حقَّ التقوى، وراقِبوه في السرِّ والنجوى.

 

أيُّها المسلمون: أَمَرَ اللهُ عبادَه أن يتمسَّكوا بالإسلام، ويأخذوا بجميع عُراه وشرائعه، ولا بُدَّ للإسلام من إيمانٍ يُحقِّقه ويُصدِّقه، ومن أركان الإيمانِ الستةِ: الإيمانُ باليومِ الآخِر، ومنه الإيمانُ بكلِّ ما أخبَر به النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ممَّا يكون بعدَ الموتِ؛ من فتنةِ القبرِ، وعذابِه، ونعيمِه، إلى البعثِ والنشورِ.

 

وأوَّلُ مراحلِ الانتقالِ إلى هذه الدار: حضورُ الأَجَلِ، فتنزلُ إلى المؤمن ملائكةٌ من السماء بيضُ الوجوهِ، كأنَّ وجوهَهم الشمسُ، معَهم كفنٌ من أكفانِ الجنةِ، وحنوطٌ -أي طِيبٌ- من حنوطِ الجنةِ، حتى يجلسوا منه مدَّ البصرِ، ثم يجيءُ مَلَكُ الموتِ حتى يجلسَ عندَ رأسِه، فيقول: "أيتُها النفسُ الطيبةُ اخرُجي إلى مغفرةٍ من الله ورضوانٍ"، فتَخرُجُ تسيلُ كما تسيلُ القطرةُ مِنْ في السقاء.

 

وأما الكافر، فتنزلُ إليه من السماء ملائكةٌ سودُ الوجوهِ، معهم المسوحُ -وهو الصوفُ الخَشِن- فيجلسون منه مدَّ البصرِ، ثم يجيء ملكُ الموتِ حتى يجلسَ عندَ رأسِه، فيقول: "أيتها النفسُ الخبيثةُ اخرُجي إلى سخطٍ من الله وغضبٍ، فتفرَّقُ في جسده، فينتزعُها كما يُنتزعُ السفودُ -وهو حديدةٌ بها شُعبٌ معقوفة- من الصوفِ المبلول"(رواه أحمد).

 

وإذا نَزَعَ ملكُ الموتِ الروحَ من البدن، فالعبدُ المؤمنُ يستريحُ من نَصَبِ الدنيا وأذاها إلى رحمةِ اللهِ، والعبدُ الفاجرُ يستريحُ منه العبادُ والبلادُ والشجرُ والدوابُّ. (متَّفَقٌ عليه).

 

ثم يرحلُ إلى حياةٍ أخرى أطولَ من حياتِه الدنيا؛ وهي حياةُ البرزخِ بين الدنيا وقيامِ الساعةِ، والقبرُ أوَّلُ منزل من منازلِ الآخرةِ، فإذا وُضع الميتُ فيه سمعَ قرعَ نعالِ أصحابِه إذا انصرفوا عنه، ثم يُفتَن في قبرِه فتنةً عظيمةً، بسؤاله ثلاثةَ أسئلةٍ لا يُجيب عليها إلا القلةُ من الناس. قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "أُوحي إليَّ أنكم تُفتنون في القبور قريبًا من فتنةِ الدجال"(مُتفَق عليه).

 

فيأتيه ملكان، فيُجلسانه ويسألانه: من ربُّك؟ وما دينُك؟ ومَنْ نبيُّك؟ فمَنْ ثبَّته اللهُ قال: اللهُ ربي، والإسلامُ ديني، ومحمدٌ نبيِّي.

 

فيقال له: انظر إلى مقعدِكَ من النار، أبدلكَ اللهُ به مقعدًا من الجنة، فيراهما جميعًا.

 

وأمَّا الكافرُ أو المنافقُ فيقول: لا أدري، كنتُ أقول ما يقول الناس. فيقال: لا دَرَيتَ ولا تَلَيتَ؛ أي: لا علمتَ ما هو الحق، ولا قرأتَ القرآن، ثم يُضرَب بمطرقةٍ من حديدٍ ضربةً بين أُذُنَيْه، فيصيحُ صيحةً يسمعُها مَنْ يليه إلا الثقلين. (مُتفَق عليه).

 

ثم بعد هذه الفتنة: إمَّا نعيمٌ، وإمَّا عذابٌ، إلى أن تقومَ القيامةُ الكبرى، قال -سبحانه-: (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)[غَافِرٍ: 45-46].

 

وكذلك هذه الأمةُ تُبتلى، قال -عليه الصلاة والسلام-: "إنَّ هذه الأمة تُبتلى في قبورها" -أي بالعذاب فيها- (رواه مسلم).

 

ومرَّ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- على قبرين فقال: "إنهما لَيُعَذَّبانِ، وما يُعذَّبانِ في كبير؛ أمَّا أحدُهما فكان يمشي بالنميمة، وأمَّا الآخَرُ فكان لا يستتر من بوله" -أي لا يتحرز منه- (مُتفَق عليه).

 

والبهائمُ تسمع عذابَ القبور، قال -عليه الصلاة والسلام-: "إنهم يُعذَّبون عذابًا تسمعُه البهائمُ كلُّها"(مُتفَق عليه).

 

وبيَّن النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- الحكمةَ من عدم سماع الناس لعذاب القبور فقال: "لولا ألَّا تَدَافَنُوا، لدعوتُ اللهَ أَنْ يُسمِعَكُمْ من عذابِ القبر الذي أسمعُ منه"(رواه مسلم).

 

والنعيمُ والعذابُ للروحِ والجسدِ، قال شيخُ الإسلام -رحمه الله-: "العذابُ والنعيمُ على النفسِ والبدنِ جميعًا باتفاق أهلِ السنةِ والجماعةِ".

 

وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتعوَّذ بالله من عذاب القبر دُبُرَ كلِّ صلاةٍ، وأقبلَ على الصحابةِ ذاتَ يومٍ وقال لهم: "تَعَوَّذوا بالله من عذاب القبر"، فقالوا: "نعوذُ بالله من عذاب القبر"(رواه مسلم).

 

وكان يأمُرُهم أن يتعوَّذوا من عذاب القبر في كل صلاة، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا فرَغ أحدُكم من التشهد الآخِر، فليتعوَّذْ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومِنْ شرِّ المسيح الدجال"(مُتفَق عليه). قال ابنُ عباسٍ -رضي الله عنهما-: "كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يعلِّمُهم هذا الدعاءَ كما يعلِّمُهم السورةَ من القرآن"(رواه مسلم).

 

والموتى في قبورهم أحوجُ ما يكونون إلى مَنْ يدعو لهم؛ فطلبُ الحوائجِ منهم، أو الاستغاثةُ بهم، أو التوجُّهُ إليهم من دونِ اللهِ، هو أصلُ شركِ العالَمِ، وأولُ ما وقَع الشركُ في بني آدم كان بسببِه.

 

وبعدُ، أيُّها المسلمون: فالقبورُ وعظتْ فلم تتركْ لواعظٍ مقالًا، وكان عثمانُ -رضي الله عنه- إذا وقَف على قبرٍ بكى حتى يبلَّ لحيته. (رواه أحمد).

 

وقام رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- خطيبًا، فذكر فتنةَ القبرِ التي يُفتَن فيها المرء، فلما ذكر ذلك ضجَّ المسلمون ضجَّةً -أي من البكاء- (رواه البخاري).

 

وتوحيدُ اللهِ ولوازمُه أعظمُ سبيلٍ للنجاةِ من عذاب القبر، قال -عليه الصلاة والسلام-: "إذا أُقعِد المؤمنُ في قبره أُتيَ، ثم شَهِدَ أَنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ، وأنَّ محمدًا رسولُ اللهِ، فذلكَ قولُه -تعالى-: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ)[إِبْرَاهِيمَ: 27]"(مُتفَق عليه).

 

والعملُ الصالحُ مؤنسٌ في القبور، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في وصف حال المؤمن إذا وُضع في القبر: "يأتيه رجلٌ حَسَنُ الوجهِ، حَسَنُ الثيابِ، طيِّبُ الريحِ، فيقول: أَبشِرْ بالذي يسُرُّكَ، هذا يومُكَ الذي كنتَ تُوعَد، فيقول له: مَنْ أنتَ؟ فوجهُك الوجهُ الذي يَجِيءُ بالخيرِ. فيقول: أنا عملُكَ الصالحُ"(رواه أحمد)؛ فالعاقلُ يتزوّدُ من الصالحات قبلَ الرحيلِ، فوعدُ اللهِ حقٌّ، والأجلُ قادمٌ، والحياةُ وإِنْ طالَتْ فلا مناصَ من القبر.

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ)[الِانْشِقَاقِ: 6].

 

بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني اللهُ وإيَّاكم بما فيه من الآياتِ والذِّكرِ الحكيم.

 

أقول قولي هذا، وأستغفر اللهَ لي ولكم، ولجميعِ المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقه وامتِنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيمًا لشانه، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلَّم تسليمًا مزيدًا.

 

أيها المسلمون: العمرُ قصيرٌ، ومرورُه سريعٌ، والدنيا تأخُذ بالعبد إلى الغفلة، والقبورُ تُذكِّرُ الآخرةَ، قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "زُورُوا القبورَ فإنَّها تذكِّر الموتَ"(رواه مسلم).

 

وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُذكِّر أصحابَه بالقبر في كلِّ حينٍ، ولَمَّا انكسفتِ الشمسُ في عهدِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وانصرَف من صلاته، قال ما شاء الله أن يقول، ثم أمرَهم أن يتعوَّذوا من عذاب القبر. (مُتفَق عليه).

 

فتعوَّذوا بالله من عذاب القبر وفتنته، واجتنِبوا الآثامَ التي تقتضيه، وابذلوا الأسبابَ للفوز بنعيمه.

 

ثم اعلموا أنَّ اللهَ أمرَكم بالصلاة والسلام على نبيِّه، فقال في محكم التنزيل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].

 

اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِكْ على نبيِّنا محمد، وارضَ اللهمَّ عن خلفائه الراشدين الذين قضَوا بالحق وبه كانوا يعدِلون: أبي بكرٍ، وعُمَرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وعَنْ سائر الصحابة أجمعينَ، وعنَّا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.

 

اللهمَّ أعزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذلَّ الشركَ والمشركينَ، ودمِّرْ أعداءَ الدينِ، واجعل اللهمَّ هذا البلدَ آمنًا مطمئنًّا رخاءً، وسائرَ بلادِ المسلمين، يا ربَّ العالمينَ.

 

اللهمَّ أَصلِحْ أحوالَ المسلمينَ في كل مكان، واجعلْ ديارَهم ديارَ أمنٍ وأمانٍ بقدرتك يا ربَّ العالمينَ.

 

اللهمَّ وفِّقْ إمامَنا خادمَ الحرمين الشريفين ووليَّ عهده لما تحب وترضى، وخُذ بناصيتِهما للبرِّ والتقوى، وانفعِ اللهمَّ بهما الإسلامَ والمسلمينَ.

 

(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23]، (رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201].

 

عبادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزدْكم، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].

المرفقات

عظات وعبر من انقضاء الأجل.doc

عظات وعبر من انقضاء الأجل.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات