عناصر الخطبة
1/أعظم بشرى من الله تعالى لخلقه 2/من معاني رحمة الله تعالى وفضائلها 3/إقامة الحج من مظاهر رحمة الله تعالى بخلقهاقتباس
لقد غشيتكم من ربكم رحمةٌ من الخيرات، وبركاتٌ من الحسنات، لا يعلم منتهى آثارها إلا ربُّ الأرض والسماوات، وكيف يعلم غيرُ اللهِ -تعالى- منتهى تلك النعم والعطايا، والنفحات الرحمانية لمن حجَّ البيت، ووقَف بعرفات، وتضرَّع إلى الرب الجواد الكريم في تلك المشاعر المقدَّسات...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ، الحمدُ لله ربِّ العالَمِينَ، الرحمن الرحيم، العزيز العليم، لربنا -جل وعلا- الأسماء الحسنى، والصفات العلا، أحمده -سبحانه- وأشكره، على نعمه التي نعلم، والتي لا نعلم، حمدًا وشكرًا يرضاه، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له المُلكُ وله الحمدُ، وهو العلي العظيم، وأشهد أنَّ نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه النبي الكريم، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه الذين نصروا الدين القويم.
أما بعدُ: فاتقوا اللهَ بفعل الخيرات، وتَرْك المحرَّمات، تكونوا من الفائزينَ برضا الرحمن، والخلود في نعيم الجنات.
أيها الناسُ: أذكركم برحمة الله الواسعة، وبنعم الله عليكم السابغة، التي لا يحصيها غيره، التي توجب شكركم، وذكركم لربكم -سبحانه-، قال -سبحانه-: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)[إِبْرَاهِيمَ: 7].
هل تعلمون أعظم بُشرى من الله -تعالى-؟ أعظم بشرى للخلق من ربهم أن الله -سبحانه- أخبرهم بالوحي أن العَلاقة بين رب العالمين وبين خلقه هي الرحمة؛ فالرحمة العامَّة يرحم الله بها البر والفاجر، والمؤمن والكافر، في هذه الحياة الدنيا، قال -سبحانه-: (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا)[غَافِرٍ: 7]، وقال -تعالى-: (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ)[الْكَهْفِ: 58]، وقال -تعالى-: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)[الْأَنْعَامِ: 54].
وفي الآخرة اختصَّ اللهُ المؤمنينَ بهذه الرحمة، لِعَمَلِهم بالطاعات، واجتنابهم المحرَّماتِ، قال -تعالى-: (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 43]، ولا يظلم الرب أحدًا من الخلق مثقال ذرة.
والرحمة صفة لله -تعالى- حقيقةً، تختص بالله، كما يليق بجلال الله -تعالى- وعظمته، نعلم معناها، ونفهم هذا المعنى، وكيفيتها لله وحده، العليم بحقائق صفاته، على ما هي عليه، والخير في اتباع من سلف، والشر في ابتداع من خلف، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: "إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ، أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ، وَالْإِنْسِ، وَالْبَهَائِمِ، وَالْهَوَامِّ، فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ، وبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ عَلَى أَوْلَادِهَا، وأَخَّرَ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، يَرْحَمُ بها عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"(رواه البخاري ومسلم)، وأكمَل الله المائة رحمة بالرحمة التي تتراحم بها المخلوقات في الدنيا؛ ليرحم عباده يوم القيامة.
تطيب الحياة بالرحمة، وتصلح المجتمعات بالرحمة، ويعيش الضعفاء والفقراء والمظلومون في كنف الأقوياء والأغنياء والقادرينَ على العدل، يعيش هؤلاء بالرحمة، فإذا فُقدت الرحمةُ فقَد الناسُ بهجةَ الحياة، وتعرَّضوا لقسوتها وويلاتها، وأصابَهم من الشرور بحسب ما فَقَدُوا من الرحمة؛ فربُّكم الرحمنُ -جل وعلا- الموصوف بالرحمة أنزَل الكتابَ رحمةً للناس، قال -تعالى-: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ)[لُقْمَانَ: 2-3]، وقال -تعالى-: (هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)[الْجَاثِيَةِ: 20]، وافتتح ربنا -سبحانه- كل سورة ببسم الله الرحمن الرحيم؛ ليبشر الناس أن تشريعه كله رحمة وكمال، وأن أوامره كلها رحمة وخير ورفعة، بعمل الصالحات، وأن نواهيه رحمة، تحجز عن الشرور والمهلكات، وأن قصصه عبر، وعظات، وأرسل سير المرسلين؛ نبينا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- رحمة للناس، قال -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[الْأَنْبِيَاءِ: 107]،
فهو رحمة للمؤمنين في الدنيا والآخرة، ورحمة للكافرين بتقليل وتخفيف شرورهم، التي أفسدت الأرض، وسحقت المظلومين، وأقام الله الحجة على الناس، فأخبر أن سبل الرحمة ممهدة، مبينة لمن أراد أن يعمل بها ويسلكها فقال -تعالى-: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ في التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)[الْأَعْرَافِ: 156-157]، وما أركان الإسلام وما يتبعها من الأوامر والنواهي إلا عمل بأسباب رحمة الله -تعالى-، والحج الذي أقيم في الأيام القريبة تمام هذه الأركان الذي أقامه النبي -صلى الله عليه وسلم- بنفسه، وتم به هذا الدين، قال الله -تعالى-: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ في السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[آلِ عِمْرَانَ: 133-134].
بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بسنة النبي الكريم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله خالق السماوات السبع الشداد، وخالق الأرض، ومُرسِيها بالأطواد، الذي شرَع السُّنَنَ، والجُمَعَ، والأعيادَ، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ، وحدَه لا شريكَ له، ولا ضد له ولا أنداد، وأشهد أنَّ نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه، الذي أقام ملة الإسلام، وأذل الكفر والشرك وجاهَد في الله حقَّ الجهاد، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله نجوم الْهُدَى وقدوة العبادة.
أما بعدُ: فاتقوا الله في كل أموركم، وفي سركم وعلانيتكم، تكونوا ممن تولاه الله بهدايته، وأحسن عاقبته، ونور بصيرته، ورضي عنه وأدخله جنته.
عبادَ اللهِ: لقد غشيتكم من ربكم رحمةٌ من الخيرات وبركات من الحسنات، لا يعلم منتهى آثارها إلا رب الأرض والسماوات، وكيف يعلم غيرُ اللهِ -تعالى- منتهى تلك النعم والعطايا، والنفحات الرحمانية لمن حج البيت، ووقَف بعرفات، وتضرع إلى الرب الجواد الكريم في تلك المشاعر المقدَّسات، وقدَّم خالص العبادات لله -عز وجل- في عشر ذي الحجة؟
وكيف يعلم غيرُ اللهِ -تعالى- ما منَّ اللهُ به على كل مسلم على وجه الأرض، من الأجور المضاعَفة، والخيرات المترادفة بصيامه ليوم عرفة، والذِّكْر في العشر، والصلوات والدعوات، وقرابين الأضاحي التي يُعْظِم اللهُ بها الأجور لكل مسلم على وجه الأرض، ويدفع الله بها العقوبات، والناسُ بخيرٍ ما أقاموا شرائعَ الدين، وما دام الحجُّ قائمًا، فالناس بخير.
أيها المسلمون جميعًا: لقد صَفَتْ لكم الأيامُ بالطاعات، وانقلبتُم كلُّكم بخير من ربكم، ومغفرة -بإذن الله تعالى-، بعد شهر الحج، كل بما قسم الله له، -تبارك وتعالى-، قال -تعالى-: (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ)[آلِ عِمْرَانَ: 174]، فحافظوا على ما قدمتم من الحسنات، ولا تبطلوا الحسنات بالسيئات، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ)[مُحَمَّدٍ: 33]، فادعوا الله لأنفسكم ولولاة الأمر بكل خير، وللمسلمين بالاستقامة على هذا الدين.
عبادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما صليتَ على آلِ إبراهيمَ، وعلى آل إبراهيم، اللهمَّ بارِكْ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما باركتَ على إبراهيمَ، وعلى آل إبراهيم، إنكَ حميدٌ مجيدٌ، وسَلِّمْ تسليمًا كثيرًا، اللهمَّ وارضَ عن الخلفاء الراشدينَ؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وعن سائر الصحابة أجمعينَ، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ، وعنَّا معهم برحمتكَ يا أرحمَ الراحمينَ.
اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأَذِلَّ الكفرَ والكافرينَ والمشركين، وأبطل خطط الكافرين، ومكرهم، الذي يكيدون به الإسلام، اللهمَّ أذل البدع، التي تضاد دينك وسُنَّة نبيِّكَ محمد -صلى الله عليه وسلم-.
اللهمَّ أعذنا وذرياتنا من إبليس وذريته وشياطين الإنس والجن، وأعذ المسلمين من الشياطين، اللهمَّ اشف مرضانا ومرضى المسلمين، واغفر لموتانا وموتى المسلمين، اللهمَّ اختم بالصالحات أعمالنا، ونسألك من خير ما تعلم، ونعوذ بك من شر ما تعلم، اللهمَّ احفظ هذه البلاد المباركة بحدودها وجنودها، واحفظها بأمنها ورخائها وازدهارها، واحفظ بلاد المسلمين من كل شر يا ربَّ العالمينَ.
اللهمَّ وفِّق خادمَ الحرمين الشريفين لما تحب وترضى، واجعل عملَه في رضاكَ، وانصر به دينكَ، ووفِّق وليَّ عهده لما تحب وترضى، وأَعِنْهُ على كل خير.
اللهمَّ احفظ فلسطين وبيت المقدس، ولا تسلط عليهم الصهاينة الغاصبين، واجعل لمؤمنيهم رحمة وفرجًا، واكفهم شرارهم، وأطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف.
(رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، اذكروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكرُ اللهِ أكبرُ، واللهُ يعلم ما تصنعون.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم