عناصر الخطبة
1/ماذا نقصد بأحلام المراهق وأوهامه؟ 2/خطورة أحلام اليقظة وآثارها على المراهق3/بعض مظاهر أحلام وأوهام المراهقين وسبل التعامل معها 4/كيفية استثمار الأحلام الوهمية وتحويلها إلى طموحات مفيدة.اقتباس
وَلْنُوَجِّهْ أَحْلَامَ مُرَاهِقِينَا لِتُوَافِقَ الدِّينَ وَالشَّرْعَ وَالْإِيمَانَ؛ فَإِنْ كَانَتْ أَحْلَامُ الْمُرَاهِقِ أَنْ يَكُونَ بَطَلًا فِي كُرَةِ الْقَدَمِ -مَثَلًا-، فَلْنَعْمَلْ أَنْ نَجْعَلَ طُمُوحَهُ أَنْ يَكُونَ بَطَلًا مِنْ أَبْطَالِ الْإِسْلَامِ كَخَالِدٍ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ... وَإِنْ كَانَ يَحْلُمُ أَنْ يَكُونَ مُغَنِّيًا أَوْ مُمَثِّلًا، فَلْنَسْتَثْمِرْ...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]؛ أَمَّا بَعْدُ:
عِبَادَ اللَّهِ: مَرْحَلَةٌ فَارِقَةٌ فِي حَيَاةِ كُلِّ آدَمِيٍّ؛ يَتَطَوَّرُ فِيهَا عَقْلُهُ، وَيَنْمُو فِيهَا جَسَدُهُ، وَتَتَشَكَّلُ فِيهَا مَلَامِحُ شَخْصِيَّتِهِ، وَتَتَكَوَّنُ فِيهَا مَبَادِئُهُ وَقِيَمُهُ وَسُلُوكُهُ؛ إِنَّهَا فَتْرَةُ الْمُرَاهَقَةِ وَدُخُولِ ذَلِكَ الْمُعْتَرَكِ الشَّرِسِ بَيْنَ مُتَطَلَّبَاتِ الْجَسَدِ الْجَاذِبَةِ وَنَوَازِعِ الرُّوحِ السَّامِيَةِ، وَإِنَّ مِنْ أَخْطَرِ مَا يُهَدِّدُ الْمُرَاهِقَ أَثْنَاءَ تِلْكَ الْمَرْحَلَةِ لَهُوَ مَا يُعْرَفُ بِ "أَحْلَامِ الْيَقَظَةِ"، الْمُخَالِفَةِ لِهَدْيِ الدِّينِ وَتَعَالِيمِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ الْحَسَنِ مَوْقُوفًا قَوْلُهُ: "لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي وَلَا بِالتَّحَلِّي، وَلَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ".
وَرُبَّ سَائِلٍ يَسْأَلُ فَيَقُولُ: وَمَا هِيَ أَحْلَامُ الْيَقَظَةِ تِلْكَ؟! وَنُجِيبُ: إِنَّهَا أَنْ يَعِيشَ الْمُرَاهِقُ فِي عَالَمِ الْوَهْمِ وَالْخَيَالِ، وَيَنْفَصِلَ عَنِ الْوَاقِعِ مِنْ حَوْلِهِ، فَيَحْيَا فِي بَحْرِ التَّمَنِّي، وَكُلَّمَا تَمَنَّى شَيْئًا حَقَّقَهُ وَأَنْجَزَهُ، وَلَكِنْ فِي عَالَمِ الْأَحْلَامِ فَقَطْ، لَا يَبْذُلُ فِي سَبِيلِ ذَلِكَ جُهْدًا وَلَا وَقْتًا، وَإِنَّمَا فَقَطْ يَحْلُمُ وَيَتَمَنَّى!
فَإِنْ كَانَ فَقِيرًا فَلَا يَزَالُ يَحْلُمُ بِالْغِنَى وَالثَّرَاءِ حَتَّى يُصْبِحَ -فِي أَحْلَامِهِ- مِنَ "الْمِلْيَارْدِيرَاتِ"! وَإِنْ رَسَبَ فِي امْتِحَانَاتِهِ فَهُوَ يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلَ عَلَى أَقْرَانِهِ وَفِي جَمِيعِ الْمُقَرَّرَاتِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ ضِعَافِ الْبِنْيَةِ فَلَا يَزَالُ يَتَمَنَّى أَنْ يَصِيرَ أَقْوَى الْأَقْوِيَاءِ، بَلْ مِنْ أَبْطَالِ "الْمَارَاثُونَاتِ"! فَهُوَ فِي أَحْلَامِهِ بَطَلٌ مِغْوَارٌ، ذُو سَيْفٍ بَتَّارٍ، يُزِيلُ عَنْ أُمَّتِهِ الْعَارَ!. وَهُوَ وَسَطَ أَوْهَامِهِ قَدْ حَقَّقَ كُلَّ أَحْلَامِهِ، وَلَا يَسْتَطِيعُ مَخْلُوقٌ أَنْ يُبَارِيَهُ أَوْ يُجَارِيَهُ! فَتَرَى الْمُرَاهِقَ الْمُبْتَلَى بِأَحْلَامِ الْيَقَظَةِ كَثِيرَ الشُّرُودِ وَالِانْعِزَالِ، دَائِمَ التَّفْكِيرِ وَالسُّهَادِ، يَجْلِسُ وَحِيدًا، وَيَمْشِي وَحِيدًا، وَيَوَدُّ لَوْ عَاشَ حَيَاتَهُ كُلَّهَا تَائِهًا شَرِيدًا غَارِقًا فِي بُحُورِ أَمَانِيهِ!
وَقَدْ أَرْسَاهَا اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- قَاعِدَةً فِي قُرْآنِهِ تَقُولُ: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ)[النِّسَاءِ:123]، وَعَلَّمَنَا نَبِيُّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْأَخْذَ بِالْأَسْبَابِ؛ فَلَمَّا سَأَلَهُ رَجُلٌ قَائِلًا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ، أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ؟ أَجَابَهُ: "اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ"(حَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ)، وَقَالَ الْفَارُوقُ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "لَا يَقْعُدْ أَحَدُكُمْ عَنْ طَلَبِ الرِّزْقِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي، فَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ السَّمَاءَ لَا تُمْطِرُ ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً"، وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ:
تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا *** إِنَّ السَّفِينَةَ لَا تَجْرِي عَلَى الْيَبَسِ
وَلَا تَسْتَهِينُوا -مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ- بِتِلْكَ الْأَحْلَامِ وَالْأَوْهَامِ الَّتِي يَغْرَقُ فِيهَا الْمُرَاهِقُ؛ فَإِنَّهَا جِدُّ خَطِيرَةٍ، وَتَعَالَوْا نَنْظُرْ بَعْضَ مَا تُسَبِّبُهُ لِلْمُرَاهِقِ مِنْ آثَارٍ مَقِيتَةٍ:
فَأَوَّلُهَا: الْعَجْزُ وَعَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِنْجَازِ: فَقَدْ تَعَوَّدَ الْمُرَاهِقُ عَلَى عَالَمِ الْخَيَالِ وَالْأَحْلَامِ، وَفِيهِ كُلُّ شَيْءٍ سَهْلٌ مُتَاحٌ مَيْسُورٌ، يَحْصُلُ عَلَى مَا شَاءَ دُونَ كَدٍّ وَلَا تَعَبٍ، وَيَظْفَرُ بِمَا أَرَادَ دُونَ عَمَلٍ وَلَا سَبَبٍ! فَإِذَا طُلِبَ مِنْهُ الْإِنْجَازُ عَلَى أَرْضِ الْوَاقِعِ تَقَهْقَرَ وَعَجَزَ، وَالسَّبَبُ أَنَّ الْوَاقِعَ يَحْتَاجُ إِلَى جُهْدٍ وَنَصَبٍ.
وَمِنْهَا: الْهُرُوبُ مِنَ الْوَاقِعِ، وَعَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّكَيُّفِ مَعَهُ؛ فَإِنَّ عَالَمَ الْوَهْمِ -الَّذِي يَحْيَاهُ الْمُرَاهِقُ- مَعْسُولٌ، وَعَالَمُ الْحَقِيقَةِ -عِنْدَهُ- مَمْلُولٌ، فَكَيْفَ يَتْرُكُ مَا تُحِبُّهُ نَفْسُهُ إِلَى مَا تُبْغِضُهُ؟! لِذَا تَرَاهُ دَوْمًا مُتَبَاعِدًا عَنْ وَاقِعِهِ، هَارِبًا إِلَى خَلَوَاتِهِ، مُنْكَبًّا عَلَى خَطَرَاتِهِ!... وَلِجَهْلِهِ لَا يَدْرِي أَنَّ الْقُرْآنَ دَائِمًا مَا كَانَ مُلْتَحِمًا بِالْوَاقِعِ الْتِحَامًا، فَيُتَابِعُ الْحَضَارَاتِ الْمُعَاصِرَةَ وَيَقُولُ: (غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ)[الرُّومِ:2-4].
وَمِنْهَا: تَرَاجُعُ مُسْتَوَاهُ الدِّرَاسِيِّ: فَهُوَ فِي وَهْمِهِ سَابِحٌ، وَالْوَهْمُ بَحْرٌ بِلَا سَاحِلٍ، لَا وَقْتَ عِنْدَهُ لِلِاسْتِذْكَارِ وَطَلَبِ الْعِلْمِ؛ فَقَدْ شَغَلَتِ الْأَحْلَامُ أَوْقَاتَهُ، وَطَوَّقَتِ الْأَوْهَامُ أَنْفَاسَهُ، وَكَبَّلَتْهُ أَمَانِيهِ الزَّائِفَةُ حَتَّى غَرِقَ فِي بَحْرِ التَّمَنِّي! وَمَهْمَا كَانَ الْمُرَاهِقُ مُتَفَوِّقًا فَإِنَّهُ إِذَا اسْتَمْرَأَ الْأَحْلَامَ وَالْأَوْهَامَ تَرَاجَعَ وَتَعَثَّرَ.
وَمِنْهَا: الْإِصَابَةُ بِالْأَمْرَاضِ النَّفْسِيَّةِ: فَعِنْدَمَا يَتَخَلَّفُ الْمُرَاهِقُ الْغَارِقُ فِي أَحْلَامِ الْيَقَظَةِ عَنْ أَقْرَانِهِ، فَيَنْجَحُونَ وَيَرْسُبُ، وَيَتَفَوَّقُونَ وَيَتَقَهْقَرُ، إِذَا بِهِ يَشْعُرُ بِالْفَشَلِ وَالْهَوَانِ، فَإِذَا حَاوَلَ أَنْ يُجَارِيَهُمْ فَفَشِلَ شَعَرَ بِالْعَجْزِ وَالْقَهْرِ وَاتَّهَمَ نَفْسَهُ بِالْغَبَاءِ، وَلَا يَزَالُ يَتَمَادَى بِهِ الْأَمْرُ حَتَّى يُصَابَ بِ"الِاكْتِئَابِ" وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَمْرَاضِ النَّفْسِيَّةِ... وَلَقَدْ وَصَلَ الْأَمْرُ بِبَعْضِ الْمُرَاهِقَاتِ أَنْ كَانَتْ تَتَخَيَّلُ أَنَّ لَهَا "حَبِيبًا"، وَكَانَتْ تُكَلِّمُهُ وَتَدَّعِي أَنَّهَا تَسْمَعُ صَوْتَهُ يُنَاجِيهَا، وَتُقْسِمُ أَنَّهَا تَرَاهُ بِعَيْنَيْهَا... مَعَ أَنَّهُ لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْوَاقِعِ بَتَاتًا!
وَمِنْهَا: الْوُقُوعُ فِي حَمْأَةِ الْإِدْمَانِ وَالْمُخَدِّرَاتِ: فَفِي اللَّحَظَاتِ الَّتِي يُفِيقُ فِيهَا الْمُرَاهِقُ مِنْ أَحْلَامِهِ وَأَوْهَامِهِ، إِذَا بِهِ يَصْطَدِمُ بِصَخْرَةِ الْوَاقِعِ فَيَهُولُهُ وَيَشْدَهُهُ؛ فَهُوَ مُطَالَبٌ بِأَنْ يَسْتَذْكِرَ بِجِدٍّ لَكِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ، وَمُطَالَبٌ بِالْعَمَلِ لَكِنَّهُ لَمْ يَتَعَوَّدْهُ، وَمُطَالَبٌ بِدَوْرٍ اجْتِمَاعِيٍّ لَكِنَّهُ عَنْهُ عَاجِزٌ، وَالضَّغْطُ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ يُنَغِّصُ عَلَيْهِ أَحْلَامَ يَقَظَتِهِ، فَلَا يَجِدُ مَهْرَبًا وَلَا مَلَاذًا إِلَّا أَنْ يَهْرُبَ مِنْ إِدْمَانِ أَحْلَامِ الْيَقَظَةِ إِلَى إِدْمَانِ الْمُخَدِّرَاتِ وَالْمُسْكِرَاتِ! وَهُوَ مَجْزِيٌّ وَمُحَاسَبٌ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ مَا دَامَ قَدِ احْتَلَمَ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ"، مِنْهُمْ: "وَعَنِ الْغُلَامِ حَتَّى يَحْتَلِمَ"(صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
وَرُبَّ قَائِلٍ يَقُولُ: وَكَيْفَ لِي أَنْ أَعْرِفَ أَنَّ وَلَدِي الْمُرَاهِقَ مُصَابٌ بِأَحْلَامِ الْيَقَظَةِ؟ وَنُجِيبُ: إِنَّ لِذَلِكَ مَظَاهِرَ يُعْرَفُ بِهَا، وَمِنْهَا:
شُرُودُ الذِّهْنِ وَالْمَيْلُ لِلِانْعِزَالِيَّةِ: فَتَرَاهُ مَعَكَ وَلَيْسَ مَعَكَ، جَسَدُهُ حَاضِرٌ وَعَقْلُهُ غَائِبٌ، مُنْطَوٍ عَلَى نَفْسِهِ، مُنْعَزِلٌ فِي غُرْفَتِهِ، ذَاهِلُ النَّظَرَاتِ، زَائِغُ الْعَيْنَيْنِ، تُكَلِّمُهُ فَلَا يَسْمَعُ، وَتُنَادِيهِ فَلَا يَسْتَجِيبُ!... وَأَفْضَلُ عِلَاجٍ لِمَنْ هَذَا حَالُهُ هُوَ ذِكْرُ اللَّهِ وَالِاسْتِعَاذَةُ بِهِ؛ فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ كَانَ يَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَثِيرًا يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ..."(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَمِنْهَا: عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى حُسْنِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَوَاقِفِ الصَّعْبَةِ: فَتَرَاهُ دَوْمًا مُتَرَدِّدًا، مُكَبَّلًا، مُتَّكِلًا عَلَى سِوَاهُ، فَإِنَّهُ مَا اعْتَادَ إِلَّا أَنْ يَغْرَقَ فِي الْأَحْلَامِ وَالْأَوْهَامِ... وَمِنْ عِلَاجِهِ: أَنْ نُقَدِّمَ لَهُ قُدْوَةً مِمَّنْ هُمْ فِي مِثْلِ عُمْرِهِ؛ فَهَذَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ يَقُودُ جَيْشًا فِيهِ كِبَارُ الصَّحَابَةِ، وَهَذَا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَجْمَعُ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ، وَهَذَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَعِيشُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ مُهَابًا وَيَمُوتُ فِي شَبَابِهِ... وَلْنُعَلِّمْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ قَائِلًا: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ"(صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
وَمِنْهَا: الِانْفِصَالُ عَنِ الْوَاقِعِ: فَتَرَى الْمُرَاهِقَ الْمُبْتَلَى بِأَحْلَامِ الْيَقَظَةِ لَا يُجِيدُ التَّعَامُلَ مَعَ وَاقِعِهِ، وَلَا يَدْرِي شَيْئًا عَنْ حَالِ أُمَّتِهِ، وَلَا يَعْرِفُ عَدُوَّهُ مِنْ صَدِيقِهِ، وَلَا خَيْرَهُ مِنْ شَرِّهِ... وَعِلَاجُهُ: أَنْ نُوقِظَهُ مِنْ هَذِهِ الْغَفْلَةِ؛ فَنُبَصِّرَهُ بِمَا يُرَادُ بِأُمَّتِهِ، وَمَا يَنْتَظِرُهُ مِنَ الصِّعَابِ فِي وِجْهَتِهِ، وَمَا يَسْتَدْعِيهِ مِنْهُ الْوَاقِعُ مِنْ جَلَدٍ وَقُوَّةٍ وَوَعْيٍ وَعِلْمٍ وَعَمَلٍ دَؤُوبٍ، وَأَنَّ "مَنْ لَمْ يَهْتَمَّ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ"، وَأَنَّ الْخَيْرَ كُلَّ الْخَيْرِ فِي اتِّبَاعِ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
لَنْ تَهْتَدِي أُمَّةٌ فِي غَيْرِ مَنْهَجِهِ *** مَهْمَا ارْتَضَتْ مِنْ بَدِيعِ الرَّأْيِ وَالنُّظُمِ
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ؛ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[الْبَقَرَةِ: 281].
وَالْآنَ -عِبَادَ اللَّهِ- دَعُونِي أُبَشِّرْكُمْ بِأَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كُلُّهُ شَرًّا؛ بَلْ هُنَاكَ دَائِمًا نُورٌ وَأَمَلٌ، فَتَعَالَوْا بِنَا نُحَوِّلُ الْمِحْنَةَ إِلَى مِنْحَةٍ؛ فَنُحَوِّلُ الْأَحْلَامَ الْوَهْمِيَّةَ إِلَى طُمُوحَاتٍ وَاقِعِيِّةِ؛ فَكَمْ مِنْ أَمْرٍ عَظِيمٍ كَانَ أَوَّلُهُ حُلُمًا، فَهَذَا نُورُ الدِّينِ مَحْمُودِ زِنْكِيٍّ يَأْمُرُ بِصُنْعِ مِنْبَرٍ لِيُوضَعَ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي كَانَ وَقْتَهَا تَحْتَ أَيْدِي الصَّلِيبِيِّينَ، وَعَاشَ وَحُلْمُهُ أَنْ يَضَعَهُ فِيهِ بِيَدِهِ، لَكِنَّهُ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَوَرِثَ عَنْهُ الْحُلْمَ صَلَاحُ الدِّينِ الْأَيُّوبِيُّ، فَتَحَقَّقَ لَهُ بَعْدَ مَعْرَكَةِ حِطِّينَ، وَكَانَتْ بِدَايَةُ الْأَمْرِ مُجَرَّدَ "حُلْمٍ وَأُمْنِيَةٍ".
وَهَذَا السُّلْطَانُ الْعُثْمَانِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ مُرَادٍ مُنْذُ طُفُولَتِهِ يَحْلُمُ بِفَتْحِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، حَتَّى أَصْبَحَ الْحُلْمُ جُزْءًا مِنْ كِيَانِهِ وَطُمُوحَاتِهِ َفَظَلَّ يَعْمَلُ لَهُ حَتَّى تَحَوَّلَ إِلَى حَقِيقَةٍ، وَسُمِّيَ بِالسُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ الْفَاتِحِ، حِينَ فَتَحَ اللَّهُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ عَلَى يَدَيْهِ.
بَلْ إِنَّ كُلَّ اخْتِرَاعٍ نَفَعَ الْبَشَرِيَّةَ وَوَفَّرَ لَهَا الْيُسْرَ وَالرَّفَاهِيَةَ كَانَ أَوَّلُهُ خَيَالًا وَأَحْلَامًا، ثُمَّ تَحَوَّلَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى حَقِيقَةٍ، فَهَلْ كَانَتِ الطَّائِرَةُ الَّتِي تُحَلِّقُ فِي الْهَوَاءِ إِلَّا خَيَالًا وَحُلْمًا؟! وَهَلْ كَانَ الْهَاتِفُ الْمَحْمُولُ النَّقَّالُ، وَالتِّلْفَازُ، وَالشَّبَكَةُ الْعَنْكَبُوتِيَّةُ، وَالْغَوَّاصَةُ الَّتِي تَصِلُ إِلَى أَعْمَاقِ الْبِحَارِ، وَغَيْرُهَا مِنَ الْمُخْتَرَعَاتِ إِلَّا خَيَالًا وَأَحْلَامًا، ثُمَّ أَصْبَحَتْ حَقَائِقَ مَلْمُوسَةً وَمَحْسُوسَةً؟!
وَلْنُوَجِّهْ أَحْلَامَ مُرَاهِقِينَا لِتُوَافِقَ الدِّينَ وَالشَّرْعَ وَالْإِيمَانَ؛ فَإِنْ كَانَتْ أَحْلَامُ الْمُرَاهِقِ أَنْ يَكُونَ بَطَلًا فِي كُرَةِ الْقَدَمِ -مَثَلًا-، فَلْنَعْمَلْ أَنْ نَجْعَلَ طُمُوحَهُ أَنْ يَكُونَ بَطَلًا مِنْ أَبْطَالِ الْإِسْلَامِ كَخَالِدٍ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ... وَإِنْ كَانَ يَحْلُمُ أَنْ يَكُونَ مُغَنِّيًا أَوْ مُمَثِّلًا، فَلْنَسْتَثْمِرْ حُلْمَهُ فِي أَنْ يَكُونَ قَارِئًا وَدَاعِيَةً مُؤَثِّرًا...
خِتَامًا تَنَبَّهُوا -يَا رَعَاكُمُ اللَّهُ- لِمُرَاهِقِيكُمْ لِيُنَشَّئُوا نَشْأَةً صَالِحَةً، أَخْرِجُوهُمْ مِنْ أَحْلَامِهِمْ لِيَقِفُوا فِي صُفُوفِ الْعَمَلِ، وَأَعِينُوهُمْ أَنْ يُحَطِّمُوا أَوْهَامَهُمْ وَيُوَاجِهُوا الْوَاقِعَ وَالْحَقَائِقَ، وَيَطْلُبُوا الْمَعَالِيَ لِيُصْبِحُوا مِنْ رُوَّادِهَا، وَعَلِّمُوهُمْ: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ وَأَشْرَافَهَا، وَيَكْرَهُ سَفَاسِفَهَا"(صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ)... فَيَكُونُوا لَكُمْ عُدَّةً وَعَتَادًا وَمُعِينًا عَلَى أَمْرِ دِينِكُمْ وَدُنْيَاكُمْ، وَتَكُونُونَ قَدْ قَدَّمْتُمْ لِلْإِسْلَامِ جِيلًا وَاعِدًا وَشَبَابًا نَاضِجًا.
شَبَابٌ ذَلَّلُوا سُبُلَ الْمَعَالِي *** وَمَا عَرَفُوا سِوَى الْإِسْلَامِ دِينَا
إِذَا شَهِدُوا الْوَغَى كَانُوا كُمَاةً *** يَدُكُّونَ الْمَعَاقِلَ وَالْحُصُونَا
وَإِنْ جَنَّ الْمَسَاءُ فَلَا تَرَاهُمْ *** مِنَ الْإِشْفَاقِ إِلَّا سَاجِدِينَا
شَبَابٌ لَمْ تُحَطِّمْهُ اللَّيَالِي *** وَلَمْ يُسْلِمْ إِلَى الْخَصْمِ الْعَرِينَا
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم