عناصر الخطبة
1/المقصود بالرفقة السيئة ووجوب الحذر منها 2/بعض صفات الرفقة السيئة التي يجب تحذير المراهق منها 3/خطورة وآثار الرفقة السيئة على المراهق.اقتباس
إِنَّ مِنَ الْآبَاءِ وَالْمُرَبِّينَ مَنْ يَسْتَهِينُ بِخَطَرِ رُفَقَاءِ السُّوءِ وَضَرَرِهِمْ عَلَى أَوْلَادِهِ، غَافِلِينَ الْآثَارَ الْخَطِيرَةَ لِلرُّفْقَةِ السَّيِّئَةِ؛ وَأَوَّلُهَا: أَنَّهُ سَيُصِيبُهُ مِنْ شَرِّهِمْ لَا مَحَالَةَ: نَعَمْ، سَتَنْتَقِلُ إِلَى أَوْلَادِكَ عَدْوَاهُمْ وَسَيَصِيرُونَ أَمْثَالَهُمْ، كَالْجَمَلِ السَّلِيمِ يَدْخُلُ عَلَى الْأَجْرَبِ فَيُعْدَى...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
فَيَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ أَصْعَبَ مَرَاحِلِ حَيَاةِ الْإِنْسَانِ وَأَكْثَرَهَا أَحْدَاثًا وَمُتَغَيِّرَاتٍ هِيَ مَرْحَلَةُ الْمُرَاهَقَةِ؛ فَفِيهَا يَنْمُو الْجَسَدُ وَيَنْضُجُ، وَفِيهَا تَتَشَكَّلُ النَّفْسُ وَالشَّخْصِيَّةُ، وَفِيهَا تَعْتَرِيهِ الْمَخَاطِرُ وَالتَّقَلُّبَاتُ، وَلَعَلَّ مِنْ أَخْطَرِ مَا يُهَدِّدُ الْمُرَاهِقِينَ بِالْعُدُولِ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ هِيَ؛ الرُّفْقَةُ السَّيِّئَةُ.
فَمَتَى -مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ- تَكُونُ الرُّفْقَةُ سَيِّئَةً فَنُجَنِّبُهَا مُرَاهِقِينَا؟
تَكُونُ الرُّفْقَةُ سَيِّئَةً إِذَا جَرَّتِ الْمُرَاهِقَ إِلَى طُرُقِ الْخَنَا وَالْفُجُورِ، وَدَلَّتْهُ عَلَى مَا يُسْتَقْبَحُ مِنَ الْأُمُورِ... وَتَكُونُ الرُّفْقَةُ سَيِّئَةً إِذَا مَا صَدَّتْهُ عَنِ الطَّاعَةِ وَأَبْعَدَتْهُ عَنِ التَّمَسُّكِ بِالْجَمَاعَةِ... إِذَا مَا عَلَّمَتْهُ الشَّرَّ وَزَهَّدَتْهُ فِي الْخَيْرِ... إِذَا مَا زَيَّنَتْ لَهُ الْبَاطِلَ وَكَرِهَتْ إِلَيْهِ الْحَقَّ.. وَأَمَرَتْهُ بِالْمُنْكَرِ وَنَهَتْهُ عَنِ الْمَعْرُوفِ... وَرَغَّبَتْهُ فِي الدُّنْيَا، وَزَهَّدَتْهُ فِي الْآخِرَةِ.
فَإِذَا وَجَدْنَا فِي أَصْدِقَاءِ مُرَاهِقِينَا مَنْ يَشْرَبُ السِّيجَارَةَ، وَيَلْبَسُ الْمُخَالِفَ مِنَ الثِّيَابِ، وَفِي رَقَبَتِهِ السِّلْسِلَةُ كَالنِّسَاءِ، وَهُوَ يَسْتَمِعُ إِلَى الْغِنَاءِ، وَقَدْ قَصَّرَ فِي الصَّلَاةِ وَهَجَرَ الْقُرْآنَ، فَتِلْكَ -بِلَا شَكٍّ- رُفْقَةٌ سَيِّئَةٌ.
وَإِذَا لَاحَظْنَا مُرَاهِقِينَا يَتَقَهْقَرُونَ وَلَا يَتَقَدَّمُونَ، وَإِلَى التَّوَافِهِ يُسَارِعُونَ، وَفِي لَيْلِهِمْ يَتَسَامَرُونَ وَيَسْهَرُونَ، وَعَنِ الْفَجْرِ يَنَامُونَ، وَعَنِ الْمَعَالَى مُنْصَرِفُونَ، وَوَجَدْنَا رُفَقَاءَهُمْ عَلَى ذَلِكَ يُوَافِقُونَ وَيُسَاعِدُونَ وَلَا يَنْتَهُونَ.. فَتِلْكَ -بِلَا شَكٍّ- رُفْقَةٌ سَيِّئَةٌ، قَدْ وَجَبَ مِنْهَا الْفِرَارُ وَالتَّحْذِيرُ وَإِبْعَادُ أَوْلَادِنَا عَنْهُمْ، خَاصَّةً مَنْ هُمْ فِي مَرْحَلَةِ الْمُرَاهَقَةِ؛ فَإِنَّهُمْ -لَا مَحَالَةَ- بِهِمْ مُتَأَثِّرُونَ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ"(حَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
وَتَرْكُ مُرَاهِقِينَا مَعَ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ ضَيَاعٌ وَتَخَلُّفٌ وَتَأَخُّرٌ، وَسَيَكُونُونَ مِعْوَلَ هَدْمٍ فِي مُجْتَمَعَاتِهِمْ لَا مِعْوَلَ بِنَاءٍ، ثُمَّ كَانُوا لِأُسَرِهِمْ وَأَهْلِهِمْ أُسَّ الشَّقَاوَةِ وَالتَّعَاسَةِ وَالْعَنَاءِ!
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لِكَيْ نَزْدَادَ بِالرُّفْقَةِ السَّيِّئَةِ مَعْرِفَةً، وَمِنْهَا حَذَرًا، تَعَالَوْا نُجَلِّي مَعًا بَعْضَ صِفَاتِهَا؛ فَأَمَّا الصِّفَةُ الْأُولَى الَّتِي تُمَيِّزُ الرُّفْقَةَ السَّيِّئَةَ: فَأَنَّهُمْ لَا يُعِينُونَ عَلَى مَعْرُوفٍ، بَلْ يَسُوقُونَ إِلَى مَسَالِكِ الشَّرِّ: فَعَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ قَالَ لَخِتْنِهِ مُغِيرَةَ: "يَا مُغِيرَةُ، انْظُرْ كُلَّ أَخٍ لَكَ، وَصَاحِبٍ لَكَ، وَصَدِيقٍ لَكَ، لَا تَسْتَفِيدُ مِنْهُ فِي دِينِكَ خَيْرًا، فَانْبِذْ عَنْكَ صُحْبَتَهُ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ لَكَ عَدُوٌّ"(مَسَاوِئُ الْأَخْلَاقِ، لِلْخَرَائِطِيِّ)، وَهَذَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبْزَى يَقُولُ: "كَانَ دَاوُدُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- يَقُولُ: تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ صَاحِبٍ، إِنْ أَنْتَ ذَكَرْتَ اللَّهَ لَمْ يُعِنْكَ، وَإِنْ أَنْتَ نَسِيتَ لَمْ يُذَكِّرْكَ".
وَأَمَّا الثَّانِيَةُ مِنْ صِفَاتِهِمْ: أَنَّهَا الرُّفْقَةُ الَّتِي تَفْتَقِدُ التُّقَى وَالْخَوْفَ مِنَ اللَّهِ -تَعَالَى-: تِلْكَ الَّتِي أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَلَّا نُصَاحِبَهَا وَلَا نُخَالِطَهَا قَائِلًا: "لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ"(حَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهَا رُفْقَةٌ مُتَلَبِّسَةٌ بِالْمَعَاصِي: فَإِنَّ شُؤْمَ مَعَاصِيهِمْ يَنْتَقِلُ إِلَى مَنْ يُرَافِقُهُمْ، فَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: "لَا تُصَاحِبْ قَاطِعَ رَحِمٍ، فَإِنَّ اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَعَنَهُ فِي آيَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ..."، وَعَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ: "رَجُلَيْنِ لَا تَصْحَبْهُمَا: صَاحِبٌ يَأْكُلُ سُوءًا، وَصَاحِبُ بِدْعَةٍ"... وَصَدَقَ الْخُوَارِزْمِيُّ حِينَ قَالَ:
لَا تَصْحَبِ الْكَسْلَانَ فِي حَاجَاتِهِ *** كَمْ صَالِحٍ بِفَسَادِ آخَرَ يَفْسَدُ
عَدْوَى الْبَلِيدِ إِلَى الْجَلِيدِ سَرِيعَةٌ *** وَالْجَمْرُ يُوضَعُ فِي الرَّمَادِ فَيَخْمُدُ
وَأَمَّا الرَّابِعَةُ: فَتِلْكَ الرُّفْقَةُ الَّتِي تَتَصَاحَبُ لِدُنْيَا، وَلَا تَتَآخَى فِي اللَّهِ: فَإِنَّهَا لَا خَيْرَ فِيهَا يُرْجَى، وَلَا نَفْعَ مِنْهَا يُطَالُ، يُذَكِّرُنَا حَالُهُمْ بِحَالِ مَنْ قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى- فِيهِمْ: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)[الزُّخْرُفِ:67].
كُلُّ مَنْ كَانَ لَا يُؤَاخِيكَ فِي اللَّهِ *** فَلَا تَرْجُ أَنْ يَدُومَ إِخَاؤُهُ
إِنَّ خَيْرَ الْإِخْوَانِ مَنْ كَانَ فِي اللَّهِ *** لَهُ دَوَامُ وُدِّهِ وَصَفَاؤُهُ
ثُمَّ إِنَّ قُرَنَاءَ السُّوءِ مَفْضُوحُونَ مَعْرُوفُونَ، لَا تُخْطِئُهُمْ -مِنْ سِيمَاهُمْ- الْعُيُونُ، وَلَيْسَ لَهُمْ فِي قُلُوبِ الْمُتَّقِينَ إِلَّا الِاشْمِئْزَازُ وَالنُّفُورُ، فَبَعْدَ تَحْرِيكٍ لِأَوْصَافِهِمْ سَيَدُلُّكُ قَلْبُكَ عَلَى خَبَايَاهُمْ، وَسَتَلْفِظُهُمْ نَفْسُكَ وَتَمْقُتْهُمْ رُوحُكَ؛ فَإِنَّ "الْأَرْوَاحَ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
هَذِهِ بَعْضُ صِفَاتِهِمْ لَا كُلُّهَا، وَإِنَّ فِيمَا ذَكَرْنَا إِشَارَةً وَأَمَارَةً عَلَى مَا لَمْ نَذْكُرْ، وَكُلُّ لَبِيبٍ بِالْإِشَارَةِ يَفْهَمُ.
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ؛ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[الْبَقَرَةِ: 281].
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ مِنَ الْآبَاءِ وَالْمُرَبِّينَ مَنْ يَسْتَهِينُ بِخَطَرِ رُفَقَاءِ السُّوءِ وَضَرَرِهِمْ عَلَى أَوْلَادِهِ، غَافِلِينَ الْآثَارَ الْخَطِيرَةَ لِلرُّفْقَةِ السَّيِّئَةِ؛ وَأَوَّلُهَا: أَنَّهُ سَيُصِيبُهُ مِنْ شَرِّهِمْ لَا مَحَالَةَ: نَعَمْ، سَتَنْتَقِلُ إِلَى أَوْلَادِكَ عَدْوَاهُمْ وَسَيَصِيرُونَ أَمْثَالَهُمْ، كَالْجَمَلِ السَّلِيمِ يَدْخُلُ عَلَى الْأَجْرَبِ فَيُعْدَى، وَكَالرَّجُلِ يَرْتَدِي الْبَيَاضَ فَيَدْخُلُ مَخَاضَةً فَإِنَّهُ -لَا مَحَالَةَ- يَخْرُجُ مُتَلَطِّخًا مِنْ طِينِهَا، وَلَقَدْ أَكَّدَ رَسُولُنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَلِكَ فَقَالَ: "مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسُّوءِ، كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ: إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ: إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، يَقُولُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "لَا تَصْحَبِ الْفَاجِرَ؛ فَإِنَّهُ يُزَيِّنُ لَكَ فِعْلَهُ، وَيَوَدُّ لَوْ أَنَّكَ مِثْلُهُ".
وَيَقُولُ الْمُنَاوِيُّ شَارِحًا: "إِيَّاكَ وَمُجَالَسَةَ الْأَشْرَارِ؛ فَإِنَّ طَبْعَكَ يَسْرِقُ مِنْهُمْ وَأَنْتَ لَا تَدْرِي، وَلَيْسَ إِعْدَاءُ الْجَلِيسِ جَلِيسَهُ بِمَقَالِهِ وَفَعَالِهِ فَقَطْ، بَلْ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ، وَالنَّظَرُ فِي الصُّوَرِ يُورِثُ فِي النُّفُوسِ أَخْلَاقًا مُنَاسِبَةً لِخُلُقِ الْمَنْظُورِ إِلَيْهِ؛ فَإِنَّ مَنْ دَامَتْ رُؤْيَتُهُ لِلْمَسْرُورِ سُرَّ، أَوْ لِلْمَحْزُونِ حَزِنَ"؛ فَلَابُدَّ ثَمَّ لَابُدَّ أَنْ يُصِيبَ الصَّاحِبَ مِنْ رُفْقَتِهِ الطَّالِحَةِ شَرٌّ؛ إِمَّا خُلُقٌ قَبِيحٌ، أَوْ أَلْفَاظٌ مُسْتَهْجَنَةٌ، أَوْ عَادَةٌ مُحَرَّمَةٌ، أَوْ تَعَلُّمُهُ لِمَعْصِيَةٍ كَانَتْ عَنْهُ غَائِبَةً، أَوْ فَتْحُ بَابِ سُوءٍ كَانَ فِي عَافِيَةٍ مِنْهُ... وَصَدَقَ لُقْمَانُ الْحَكِيمُ إِذْ يَقُولُ: "وَمَنْ يُصَاحِبُ صَاحِبَ السُّوءِ لَا يَسْلَمُ".
وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَرْءَ يُنْسَبُ إِلَى قَرِينِهِ، وَيُؤْخَذُ بِجَرِيرَتِهِ: وَهَذَا مِمَّا قَرَّرَهُ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ)، فَقَالُوا: "أَيْ: عَلَى عَادَةِ صَاحِبِهِ وَطَرِيقَتِهِ وَسِيرَتِهِ"؛ فَإِنْ كَانَ أَخِلَّاؤُهُ أَشْرَارًا فَهُوَ مِثْلُهُمْ شِرِّيرٌ، وَإِنْ كَانُوا أَخْيَارًا فَهُوَ أَيْضًا عَلَى شَاكِلَتِهِمْ... فَإِنْ خَفِيَ عَلَيْكَ حَالُ امْرِئٍ فَانْظُرْ إِلَى قَرِينِهِ، كَمَا نَصَحَ بِذَلِكَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-:
فَلَا تَصْحَبْ أَخَا الْجَهْلِ وَإِيَّاكَ وَإِيَّاهُ *** فَكَمْ مِنْ جَاهِلٍ أَرْدَى حَلِيمًا حِينَ آخَاهُ
يُقَاسُ الْمَرْءُ بِالْمَرْءِ إِذَا مَا الْمَرْءُ مَاشَاهُ *** كَحَذْوِ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ إِذَا مَا النَّعْلُ حَاذَاهُ
وَلِلشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ مَقَايِيسٌ وَأَشْبَاهُ *** وَلِلْقَلْبِ عَلَى الْقَلْبِ دَلِيلٌ حِينَ يَلْقَاهُ
وَيَرْوِي ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي بَهْجَةِ الْمَجَالِسِ فَيَقُولُ: "أُخِذَ قَوْمٌ فِي قَطْعٍ لِيُقَامَ عَلَيْهِمْ حَدٌّ، فَقُدِّمُوا لِضَرْبِ أَعْنَاقِهِمْ، فَقَامَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ، وَقَالَ: اللَّهَ اللَّهَ فِيَّ، فَوَاللَّهِ مَا كُنْتُ فِي شَيْءٍ مِمَّا كَانُوا فِيهِ، وَإِنَّمَا كُنْتُ أَشْرَبُ مَعَهُمْ وَأُغَنِّي لَهُمْ، فَقَالُوا: هَاتِ فَغَنِّ لَنَا، فَارْتَجَّتْ عَلَيْهِ الْأَشْعَارُ إِلَّا قَوْلَ الشَّاعِرِ:
عَنِ الْمَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ *** فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارِنِ مُقْتَدِي
فَقَالُوا: صَدَقَ، اضْرِبُوا عُنُقَهُ".
وَمِنْهَا: الْخِزْيُ وَالْعَارُ وَالنَّدَامَةُ وَالشَّرَارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّ صَدِيقَ السُّوءِ يَأْتِي عَدُوًّا لِصَدِيقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَقَدْ تَلَوْنَا قَوْلَ اللَّهِ -تَعَالَى-: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)[الزُّخْرُفِ:67]، وَسَاعَتَهَا يَنْدَمُ حِينَ لَا يَنْفَعُ النَّدَمُ: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي)[الْفُرْقَانِ:27-39].
فَانْتَبِهُوا -مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ- إِلَى قُرَنَاءِ أَوْلَادِكُمْ، فَقَدْ قَالَ الْأَوَّلُونَ وَصَدَقُوا: "إِنَّ الصَّاحِبَ سَاحِبٌ"، رَاقِبُوهُمْ وَمَنْ يُرَافِقُونَ، فَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمْ رُفَقَاءَ سُوءٍ فَاسْتَنْقِذُوا مِنْهُمْ أَوْلَادَكُمْ، فَلَعَلَّهُمْ مِنْ شَرِّهِمْ يَسْلَمُونَ، وَعَلِّقُوهُمْ بِصُحْبَةٍ صَالِحَةٍ تَأْخُذُ بِأَيْدِهِمْ إِلَى طَاعَةِ رَبِّهِمْ، وَتِلْكَ هِيَ وَصِيَّةُ الْفَارُوقِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- إِذْ يَقُولُ: "عَلَيْكَ بِإِخْوَانِ الصِّدْقِ فَكُنْ فِي اكْتِسَابِهِمْ، فَإِنَّهُمْ زَيْنٌ فِي الرَّخَاءِ، وَعِزَّةٌ عِنْدَ الْبَلَاءِ"، وَهِيَ أَيْضًا نَصِيحَةُ بِلَالِ بْنِ سَعْدٍ الَّذِي يَقُولُ: "أَخٌ لَكَ كُلَّمَا لَقِيَكَ ذَكَّرَكَ بِنَصِيبِكَ مِنَ اللَّهِ، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَخٍ كُلَّمَا لَقِيَكَ وَضَعَ فِي كَفِّكَ دِينَارًا".
وَصَاحِبْ أُولِي التَّقْوَى تَنَلْ مِنْ تُقَاهُمُ *** وَلَا تَصْحَبِ الْأَرْدَى فَتَرْدَى مَعَ الرَّدِي
وَكَانَ مِنْ كَلَامِ خَالِدِ بْنِ صَفْوَانَ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "اصْحَبْ مَنْ إِنْ صَحِبْتَهُ زَانَكَ، وَإِنْ خَدَمْتَهُ صَانَكَ، وَإِنْ أَصَابَتْكَ فَاقَةٌ مَانَكَ، وَإِنْ رَأَى حَسَنَةً عَدَّهَا، وَإِنْ رَأَى سَيِّئَةً كَتَمَهَا وَسَتَرَهَا، لَا تَخَافُ بَوَائِقَهُ، وَلَا تَخْتَلِفُ طَرَائِقُهُ".
أَيُّهَا الْآبَاءُ الْكِرَامُ: اعْلَمُوا أَنَّ الصُّحْبَةَ الصَّالِحَةَ نَجَاةٌ لِأَوْلَادِنَا، وَتَحْصِينٌ لَهُمْ وَإِعَانَةٌ لَهُمْ عَلَى الْخَيْرِ، وَصِيَانَةٌ لَهُمْ عَنْ مَسَالِكِ الشَّرِّ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ..
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم