عناصر الخطبة
1/أسباب وقوع بعض الشباب المراهقين في الغلو2/بعض مظاهر الغلو عند بعض الشباب3/آثار نشأة الأبناء على الغلو وعواقبه عليهم 4/كيف نحمي أبناءنا من الغلو والإفراط 5/نماذج في الوسطية والاعتدال من شباب السلف وفتيانهم.اقتباس
مِنَ الْوَسَائِلِ -عِبَادَ اللَّهِ- الَّتِي نَحْمِي بِهَا مُرَاهِقِينَا مِنَ الْغُلُوِّ وَالتَّطَرُّفِ؛ وَهِيَ أَنْ نُقَدِّمَ لَهُمْ نَمَاذِجَ فِي الْوَسَطِيَّةِ وَالِاعْتِدَالِ مِنْ شَبَابِ السَّلَفِ... حَارِبُوا الْغُلُوَّ بِالْعِلْمِ، وَقَاوِمُوا التَّعْسِيرَ بِالتَّيْسِيرِ، وَقَوِّمُوا سُلُوكَ أَبْنَائِكُمْ وَأَحْسِنُوا التَّدْبِيرَ، وَحَصِّنُوهُمْ مِنَ الضَّلَالِ وَالتَّكْفِيرِ...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لَقَدْ بَلَغَ الْأَمْرُ مَدَاهُ، وَوَصَلَ الْخَطَبُ مُنْتَهَاهُ، مِنْ غُلُوِّ بَعْضِ الشَّبَابِ، حَيْثُ غَالَى وَبَالَغَ وَجَاوَزَ الْحَدَّ، وَتَفَاقَمَ أَذَاهُ وَامْتَدَّ، حَتَّى صَارَ رَدُّهُمْ عَلَيْنَا ضَرُورَةً وَفَرْضًا... شَبَابٌ سَلَكُوا طَرِيقَ التَّعْسِيرِ، وَرَمَوْا غَيْرَهُمْ بِالتَّبْدِيعِ وَالتَّكْفِيرِ، حَتَّى تَمَادَى بِهِمُ الْأَمْرُ إِلَى التَّخْرِيبِ وَالتَّدْمِيرِ!
فَتُرَى مَا الَّذِي أَوْصَلَهُمْ إِلَى هَذَا الْغُلُوِّ الْخَطِيرِ وَالشَّرِّ الْمُسْتَطِيرِ؟!
وَنُجِيبُ: إِنَّ الْأَسْبَابَ كَثِيرَةٌ، لَكِنَّ أَهَمَّهَا: حَمَاسَةُ الْعِبَادَةِ مَعَ قِلَّةِ الْعِلْمِ: نَعَمْ، شَبَابٌ هَدَاهُمُ اللَّهُ إِلَى الْإِقْبَالِ عَلَى طَاعَتِهِ، لَكِنْ -لِقِلَّةِ عِلْمِهِمْ- بَالَغُوا وَجَاوَزَا وَغَالَوْا، فَحَالُهُمْ كَحَالِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَتْ تُصَلِّي اللَّيْلَ كُلَّهُ وَلَا تَنَامُ! فَلَمَّا عَلِمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِأَمْرِهَا قَالَ: "عَلَيْكُمْ مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لَا يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَمِنَ الْأَسْبَابِ: بَحْثُهُمْ عَنِ الْمِثَالِيَّةِ وَالْكَمَالِ: فَتَرَاهُمْ يَأْخُذُونَ بِالْعَزَائِمِ، وَيَرْفُضُونَ الرُّخَصَ! وَيَتَنَزَّهُونَ عَنِ الْحَلَالِ الْمُبَاحِ، وَيَأْخُذُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالشِّدَّةِ! وَهَذَا مَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاعِلِيهِ عَنْ إِتْيَانِهِ؛ فَقَدْ صَنَعَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَمْرًا فَتَرَخَّصَ فِيهِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِهِ، فَكَأَنَّهُمْ كَرِهُوهُ وَتَنَزَّهُوا عَنْهُ، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ، فَقَامَ خَطِيبًا فَقَالَ: "مَا بَالُ رِجَالٍ بَلَغَهُمْ عَنِّي أَمْرٌ تَرَخَّصْتُ فِيهِ، فَكَرِهُوهُ وَتَنَزَّهُوا عَنْهُ، فَوَاللَّهِ لَأَنَا أَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ، وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَمِنَ الْأَسْبَابِ: الْقُدْوَةُ الْمُتَشَدِّدَةُ: فَلَعَلَّ الْمُرَاهِقَ وُلِدَ فِي بِيئَةٍ مُتَشَدِّدَةٍ، تُغَالِي فِي أَحْكَامِهَا، وَتَغْلُو فِي عِبَادَاتِهَا، فَوَرِثَ ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَاكْتَسَبَهُ مِنْهُمْ! نَظِيرُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ ذِي الْخُوَيْصِرَةِ: "يَخْرُجُ مَنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ رَطْبًا، لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ..."(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، فَقَوْلُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا"؛ أَيْ: مِنْ أَصْلِهِ، أَوْ مِنْ نَسْلِهِ... وَمَنْ شَابَهَ أَبَاهُ فَمَا ظَلَمَ!
لَكِنْ كَيْفَ لَنَا أَنْ نَعْرِفَ أَنَّ وَلَدَنَا قَدْ وَقَعَ فِي فِتْنَةِ الْغُلُوِّ وَالتَّشَدُّدِ؟ نَقُولُ: إِنَّ لِذَلِكَ مَظَاهِرَ يُعْرَفُ بِهَا؛ فَأَوَّلُهَا: التَّنَطُّعُ فِي امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ: كَبَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً)[الْبَقَرَةِ:67]، فَغَالَوْا وَبَالَغُوا حَتَّى أَوْقَعُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الْحَرَجِ!
وَقَدْ خَافَ عَلَيْنَا نَبِيُّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ مِثْلِ هَذَا؛ فَقَدْ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ يَوْمًا: "الْقُطْ لِي حَصًى"، قَالَ: فَلَقَطْتُ لَهُ سَبْعَ حَصَيَاتٍ، هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ، فَجَعَلَ يَنْفُضُهُنَّ فِي كَفِّهِ وَيَقُولُ: "أَمْثَالَ هَؤُلَاءِ فَارْمُوا"، ثُمَّ قَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ"(صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
وَثَانِي مَظَاهِرِ الْغُلُوِّ: أَنْ يُوجِبَ عَلَى نَفْسِهِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ: كَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ سَأَلُوا عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا... فَلَمَّا عَلِمَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِأَمْرِهِمْ قَالَ: "أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا -وَاللَّهِ- إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتَّقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَالثَّالِثُ: تَحْمِيلُ النَّاسِ مَا لَا يُطِيقُونَ: وَقَدْ غَضِبَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَدِيدًا عَلَى كُلِّ مَنْ حَمَّلَ النَّاسَ مَا لَا يُطِيقُونَ، فَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلَانٍ؛ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةَ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ عَاقِبَةَ الْمُغَالِينَ إِلَى بَوَارٍ وَخُسْرَانٍ؛ فَإِنَّ لِلْغُلُوِّ آثَارًا وَخِيمَةً وَعَوَاقِبَ أَلِيمَةً، وَمِنْهَا مَا يَلِي:
إِيقَاعُ صَاحِبِهِ فِي الْعَنَتِ وَالْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ: فَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَقُولُ: "لَا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَيُشَدَّدَ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارِ"(صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
وَمِنْهَا: الْحِرْمَانُ مِنْ شَفَاعَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "رَجُلَانِ مِنْ أُمَّتِي لَا يَنَالُهُمَا شَفَاعَتِي: سُلْطَانٌ ظَلُومٌ غَشُومٌ، وَآخَرُ غَالٍ فِي الدِّينِ مَارِقٌ مِنْهُ"(حَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
وَمِنْ شُؤْمِ الْغُلُوِّ: أَنَّهُ بَابٌ لِتَبْدِيلِ الدِّينِ وَتَحْرِيفِهِ: فَإِنَّ أُنَاسًا بَالَغُوا فِي مَدْحِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَنَهَاهُمْ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ لَهُمْ: "لَا تُطْرُونِي، كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).
وَمِنْ عَوَاقِبِهِ: هَلَاكُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ: نَعَمْ؛ هَكَذَا أَطْلَقَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَرِيحَةً مُجَلْجِلَةً: "هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ)؛ "أَيِ: الْمُتَعَمِّقُونَ الْغَالُونَ الْمُجَاوِزُونَ الْحُدُودَ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ".
وَمِنْهَا: الِانْقِطَاعُ عَنِ الْعِبَادَةِ: فَعَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: "إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ، وَلَا تُبَغِّضُوا إِلَى أَنْفُسِكُمْ عِبَادَةَ اللَّهِ، فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا بَلَغَ بُعْدًا، وَلَا أَبْقَى ظَهْرًا"(الزُّهْدِ، لِابْنِ الْمُبَارَكِ)، لِذَلِكَ لَمَّا وَجَدَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَبْلًا مَمْدُودًا بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ، قَالَ: "مَا هَذَا الْحَبْلُ؟"، فَقَالُوا: هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ، فَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا، حُلُّوهُ لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطُهُ، فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، فَإِنَّ الْمُبَالَغَةَ تُوجِبُ إِلَى الِانْقِطَاعِ.
وَمِنْ عَوَاقِبِ الْغُلُوِّ عَلَى الْمُجْتَمَعِ: أَنَّهُ يَدْفَعُ الْمُغَالِيَ إِلَى الِاعْتِدَاءِ عَلَى النَّاسِ: فَعَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ قَرَأَ الْقُرْآنَ حَتَّى إِذَا رُئِيَتْ بَهْجَتُهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ رِدْئًا لِلْإِسْلَامِ، غَيَّرَهُ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ، فَانْسَلَخَ مِنْهُ وَنَبَذَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَسَعَى عَلَى جَارِهِ بِالسَّيْفِ، وَرَمَاهُ بِالشِّرْكِ"(حَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
وَلَسْتُ أَشُكُّ الْآنَ -مَعَاشِرَ الْآبَاءِ وَالْمُرَبِّينَ- أَنَّ جَمِيعَنَا يَتَسَاءَلُ: وَكَيْفَ نَحْمِي شَبَابَنَا وَمُرَاهِقِينَا مِنْ ذَلِكَ الْغُلُوِّ الْمَقِيتِ؟
وَنَحْمَدُ اللَّهَ -تَعَالَى- أَنَّ الْوَسَائِلَ كَثِيرَةٌ؛ وَمِنْهَا:
تَعْلِيمُهُمْ أَنَّ: "خَيْرَ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ)، وَلَقَدْ كَانَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيِّنًا سَهْلًا، وَكَانَ يَقُولُ: "إِنَّمَا يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ كُلُّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ قَرِيبٍ سَهْلٍ"(صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ)، وَ"مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَمِنْهَا: تَقْدِيمُ الْعِبْرَةِ لِمَنْ غَالَوْا ثُمَّ نَدِمُوا: فَهَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو سَأَلَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "كَيْفَ تَصُومُ؟"، قَالَ: كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ: "وَكَيْفَ تَخْتِمُ؟"، قَالَ: كُلَّ لَيْلَةٍ... وَعَبْدُ اللَّهِ يُكَرِّرُ: "أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ"... ثُمَّ بَعْدَ سِنِينَ نَدِمَ وَقَالَ: "لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ وَذَاكَ أَنِّي كَبِرْتُ وَضَعُفْتُ..."(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَمِنْهَا: التَّسَلُّحُ بِالْعِلْمِ الصَّحِيحِ؛ الَّذِي يَدْعُو إِلَى التَّوَسُّطِ وَالِاعْتِدَالِ... فَقَدْ قَالَ سَلْمَانُ لِأَبِي الدَّرْدَاءِ: "إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ"، وَعَلَّقَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَائِلًا: "صَدَقَ سَلْمَانُ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).
فَاجْعَلُوا مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُدْوَةً لِأَبْنَائِكُمْ؛ يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِهِ، وَيَهْتَدُونَ بِهَدْيِهِ، وَيَقْتَدُونَ بِهِ فِي تَيْسِيرِهِ وَرَفْعِهِ لِلْحَرَجِ عَنِ النَّاسِ... فَإِنْ فَعَلْتُمْ نَجَوْا وَنَجَوْتُمْ.
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ؛ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[الْبَقَرَةِ: 281].
وَمِنَ الْوَسَائِلِ -عِبَادَ اللَّهِ- الَّتِي نَحْمِي بِهَا مُرَاهِقِينَا مِنَ الْغُلُوِّ وَالتَّطَرُّفِ؛ وَهِيَ أَنْ نُقَدِّمَ لَهُمْ نَمَاذِجَ فِي الْوَسَطِيَّةِ وَالِاعْتِدَالِ مِنْ شَبَابِ السَّلَفِ؛ مِنْ أَمْثَالِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ الَّذِي جَمَعَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَالرَّزَانَةِ وَالتَّثَبُّتِ، مِمَّا أَهَّلَهُ لِيَجْمَعَ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ... وَمِنْ أَمْثَالِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ الَّذِي كَانَ -عَلَى صِغَرِ سِنِّهِ- مُهَابًا بَيْنَ النَّاسِ، بَاذِلًا لِلْمَعْرُوفِ، وَاصِلًا لِلرَّحِمِ، ثَمَّ مَاتَ يَوْمَ مَاتَ وَلَمْ يُتِمَّ الثَّالِثَةَ وَالثَّلَاثِينَ... وَمِنْ أَمْثَالِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ الَّذِي قَادَ أَسْلَمَ جَيْشٍ عَرَفَهُ الْإِسْلَامُ وَلَمْ يُكْمِلِ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ مِنْ عُمْرِهِ... -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ-.
فَكُلُّ هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالِهِمْ كَانُوا قُدْوَةً فِي الْوَسَطِيَّةِ وَالِاعْتِدَالِ؛ فَحَازُوا الْعِلْمَ، وَتَرْجَمُوهُ لِعَمَلٍ، وَاكْتَسَبُوا السَّبْقَ فِي الْجِهَادِ وَالْبَذْلِ، لَمْ يَطْغَ جَانِبٌ عَلَى جَانِبٍ، وَلَا تَحَيَّزُوا وَلَا بَالَغُوا وَلَا غَالَوْا، بَلِ اقْتَصَدُوا وَسَدَّدُوا وَقَارَبُوا.
فَتَشَبَّهُوا إِنْ لَمْ تَكُونُوا مِثْلَهُمْ *** إِنَّ التَّشَبُّهَ بِالْكِرَامِ فَلَاحُ
فَحَارِبُوا الْغُلُوَّ بِالْعِلْمِ، وَقَاوِمُوا التَّعْسِيرَ بِالتَّيْسِيرِ، وَقَوِّمُوا سُلُوكَ أَبْنَائِكُمْ وَأَحْسِنُوا التَّدْبِيرَ، وَحَصِّنُوهُمْ مِنَ الضَّلَالِ وَالتَّكْفِيرِ... تَصِلُوا بِهِمْ إِلَى بَرِّ الْأَمَانِ فِي الدُّنْيَا، وَجَنَّةِ الرَّحْمَنِ فِي الْآخِرَةِ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم