لك العتبى حتى ترضى

د عبدالعزيز التويجري

2025-09-12 - 1447/03/20 2025-09-25 - 1447/04/03
عناصر الخطبة
1/أشد يوم مر على النبي 2/مقام الرضا عند النبي 3/من ثمرات الرضا 4/نماذج من رضا النبي وأصحابه 5/التوفيق بين الرضا ومشاعر الحزن

اقتباس

الرضا لا يعني أن نُغلق أعيننا عن الألم، بل أن نراهُ بعينٍ راضية، تعلم أن للقدرِ رسائل، وللبلاءِ مواسم، وأنّ في كلِّ ما كُتب علينا خيرٌ نجهله، فطوبى لمن صافح القدر بقلبٍ ساكن، وابتسم في وجه الحزن؛ لأنه عرف أن الله لا يُخطئ التدبير...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

الحمدُ للهِ، نوَّرَ قلوبَ العارفينَ بالإيمانِ واليقينِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، المَلِكُ الحقُّ المبينُ، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، صلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ عليه، وعلى آلهِ وأصحابِه وأزواجِه، ومَن تبِعَهُم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ.

 

أمَّا بعدُ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)[البقرة: 153].

 

في الصحيحين عن عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- حَدَّثَتْهُ: أَنَّهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ فَقَالَ: "لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ"، وعند الطبراني: وخرج مَاشِيًا عَلَى قَدَمَيْهِ، حتى َأَتَى ظِلَّ شَجَرَةٍ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: "اللهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إِلَى عَدُوٍّ يَتَجَهَّمُنِي، أَمْ إِلَى قَرِيبٍ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي، إنْ لَمْ يَكُنْ بِك غَضَبٌ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي، غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَك أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمَرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَكَ، أَوْ تُحِلَّ عَلَيَّ سَخَطَكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، لَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ".

 

ما أعظم الموقف، وما أجل الدرس!، يخرج من الطائف، مجروح الجسد، مكلوم النفس، لم يكن جسده وحده المثخن بالجراح، بل قلبه المكلوم، ذهب يحمل دعوة ورحمة، فكان جزاؤه الأذى والردّ الجارح، وبعد أن خلا بنفسه بينه وبين ربه، لم يشْك، ولم يصرخ، ولم يُحاسب القدر، بل ارتقى فوق الألم، وتوسّل إلى ربه: "إنْ لَمْ يَكُنْ بِك غَضَبٌ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى".

 

أيُّ قلبٍ هذا الذي لا يرى في المصائب سببًا للشكوى؟! بل يقول بلسان الحال والمقال: إن كنتَ راضيًا يا رب، فكل ما سوى ذلك هيّن، حتى لو انقلبت عليّ الدنيا! "إِنْ لَمْ يكُنْ بك غَضْبُ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي، ولكن عَافِيَتَكَ أَوْسَعُ لِي".

 

إِذَا صحَّ مِنْكَ الوُدُّ فَالكُلُّ هَيِّنٌ *** وَكُلُّ الَّذِي فَوقَ الترَابِ تُرَابُ

وَليْتَ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ عَامِرٌ *** وَبَيْني وَبَيْنَ العَالَمِيْنَ خَرَابُ

 

في هذه اللحظة ارتقى النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أسمى مقامات الرضا، لا رضا المتكلف، ولا رضا الصابر فحسب، بل رضا المحبّ الذي لا يرى في البلاء إلا عنايةً خفية، وتربيةً ربانية، رضا أيقن معه أن ما اختاره الله له، خيرٌ مما كان يختاره لنفسه.

 

ولكم أن تتخيلوا رجلاً تقدم لوظيفة أحلامه، ومرّ بجميع المراحل بنجاح، ثم في النهاية، تُرفض أوراقه لأمرٍ بسيط، شعر بالخذلان وتساءل: "لماذا أنا؟"، لكن بدلًا من السخط رضي بقضاء الله، وقال في نفسه: اللهم إن كنتَ قد صرفتها عني لحكمةٍ تعلمها، فإني راضٍ، مطمئنّ القلب.

 

مضت شهور، وفيها فتح الله له بابًا أعظم، وظيفة قريبة من أهله، بدوام مريح، وبراتب أعلى، حينها شعر بسعادة لا توصف، لا لأنه كسب المال، بل لأنه أدرك أن ما قدّره الله له أعظم مما كان يتمناه.

 

تمامًا كما كان حال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الطائف، لم يحزن حزن اليائس، بل وقف على عتبة الرضا، وقال "إنْ لَمْ يَكُنْ بِك غَضَبٌ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي"، فلم تكن مكافأته في الطائف، بل كانت بعده، جاءه مَلَك الجبال، وأسلم الجن، وتهيأت له بيعة العقبة، وأقام دولة في المدينة، وفتح مكة وغنم الطائف، ودانت له العرب وأعطي كنوز فارس والروم، لم يربط النبي -صلى الله عليه وسلم- سعادته بالنتيجة، بل ربط سعادته برضا الله عنه.

 

فمن رضي عن الله، رضي الله عنه، وألقى في قلبه من الطمأنينة ما لا يعرفها إلا من ذاقها؛ (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)[النحل: 97]، قال ابْنُ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه-: "هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ"، قد لا يوفق إنسان بزواج او عمل، فيرضى ويسلم؛ فيعقبه الله خيراً وأجرا. 

 

دع الأيامَ تفعل ما تشاءُ *** وطِب نفسًا إذا حكمَ القضاءُ

ولا تجزعْ لحادثة الليالي *** فما لحوادثِ الدنيا بقاءُ

 

الرضا ليس ضعفًا، بل قوّة داخلية تنبُت في الداخل ولا تُصنَع في الخارج، السرُ في السعادة ليس بكثرة العطاء، بل في قلبٍ يرى في القليل كفاية، وليس في التملّك بل في التعلّق بمن يملك كل شيء، الرضا ليس أن تملك الدنيا، بل أن تملك قلبًا لا يحتاجها.

 

وارضَ بما قسمَ المليكُ فإنّهُ *** بالرّضا تُغْلَقُ أبوابُ الهمومِ

فالقلبُ إن رضِيَ استراح وإن أبى *** ضجَّت بهِ الأرواحُ في كلِّ الغُيومِ

 

زينب بنت جحش كانت ترى أن زيد بن حارثة ليس كُفأً لها في النسب، لكنها قبلت الزواج وتزوجت؛ رضاً بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ورضاً بحكم الله، ثم طلقها زيد، وأكرمها الله بأن تزوجها النبي -صلى الله عليه وسلم- بوحي من الله، الرضا بالتكليف الأول قادها إلى كرامة لم تتوقعها.

 

قد يُعجِبُ المرءَ ما يُرجى ويحرمهُ *** لعلَّ في ذاكَ حرمانٌ له نعمُ

كم من بلاءٍ رأيناهُ بأعيننا *** كان النجاةَ، وفي التأخيرِ يُنحتمُ

 

الرضا لا يعني أن نُغلق أعيننا عن الألم، بل أن نراهُ بعينٍ راضية، تعلم أن للقدرِ رسائل، وللبلاءِ مواسم، وأنّ في كلِّ ما كُتب علينا خيرٌ نجهله، فطوبى لمن صافح القدر بقلبٍ ساكن، وابتسم في وجه الحزن؛ لأنه عرف أن الله لا يُخطئ التدبير؛ (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)[النساء: 19].

 

أستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إن ربنا لغفور شكور.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله.

 

أما بعد: لما توفي النبي -صلى الله عليه وسلم- ارتجّت المدينة، وذهل الناس، حتى أن عمر بن الخطاب قال: "وَاللَّهِ مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ، فَلَيُقَطِّعَنَّ أَيْدِي رِجَالٍ وَأَرْجُلَهُمْ؛ زَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَدْ مَاتَ"، ولما بلغ أبا بَكْرٍ الصديق موت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أَسْنَدَ ظَهْرَهُ وَهُوَ يَقُولُ: "وَاقْطَعَ ظَهْرَاهُ"، فَلَمَّا بَلَغَ الْمَسْجِدَ دخل على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقبّله، قال: "طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا"، ثم خرج إلى الناس، وقال كلمته الخالدة: "مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ"، أي قلب هذا الذي ثبت وسط زلزال الفقد؟! لم يكن هذا الثبات من أبي بكر لأنه أقلهم مصيبة، بل هو أشدهم حباً للنبي -صلى الله عليه وسلم- وأعظمهم تألما لموته، ولكنه الرضا في قلب أبي بكر أعظم من كل مشاعر الفقد.

 

ولد للنبي -صلى الله عليه وسلم- ابناً وسماه إبراهيم، فأحبّه النبي -صلى الله عليه وسلم- حبًّا شديدًا، فكان يُلاعبه ويقبّله ويحمله ويشمه، قال أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ على ابنه إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ-، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِبْرَاهِيمَ، فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ، فمرض ابنه إِبْرَاهِيمَ بعد ذلك، فلما اشتدّ عليه المرض، وبدأت علامات الموت تظهر، قال أنس: ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- تَذْرِفَانِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! فَقَالَ: "يَا ابْنَ عَوْفٍ، إِنَّهَا رَحْمَةٌ"، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى، فَقَالَ: "إِنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، وَالقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلاَ نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ"، لم يدفن النبي -صلى الله عليه وسلم- الحزن داخل قلبه، بل أطلقه دموعًا جرت على خده الشريف.

 

الرضا لا يُناقض الإحساس، الرضا لا يعني إطفاء المشاعر، بل أن تكون المشاعر راضية بالله، تُبكيك عاطفتُك، لكن لا تُزعزع يقينك؛ "وَلاَ نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا".

 

ولستُ أرى السُرورَ بدائمٍ لي *** ولا حُزنًا يدومُ ولا سرورا

إذا ما ضاقَ صدري قلتُ صبرًا *** لعلّ اللهَ يكتبُ لي أجورا

 

(إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)[يوسف: 90]، ثم صلوا وسلموا على المبعوث رحمة وهداية للعالمين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد.

المرفقات

لك العتبى حتى ترضى.doc

لك العتبى حتى ترضى.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات